الأحد ٢ آب (أغسطس) ٢٠٠٩
بقلم جميل حمداوي

المسرح الصامت (الميم أو البانتوميم)

توطئة:

يعد المسرح الصامت من أهم الأشكال التعبيرية التي يمكن الاستعانة بها في مسرح الطفل من أجل تقديم فرجات درامية مثيرة، تجذب المشاهدين بطريقة إبداعية ساحرة، وتخلب ذهنهم فنيا وجماليا. ومن هنا، إذا كان المسرح العادي يعتمد كثيرا على الحوار التواصلي وتبادل الكلام، فإن المسرح الصامت أو ما يسمى بالميم أو البانتوميم يشغل كثيرا خطاب الصمت الذي يعبر سيميائيا ورمزيا عن مجموعة من القضايا الذاتية والموضوعية أكثر مما يعبر عنها الحوار المباشر. ويعني هذا أن المسرح حينما يوظف الإشارات والإيماءات والصمت يؤدي وظائف إيجابية أكثر من المسرح الحواري الذي يرتكن إلى الرتابة والتكرار والاستطراد والملل بسبب تطويل الكلام وامتداد التواصل المباشر. ويكون للميم كذلك تأثير جيد على الجمهور الراصد بسبب إيحاءاته الشاعرية، وتلميحاته المضمرة والمكثفة أفضل بكثير من تأثير الاسترسال المبني على المنولوجات السلبية، والحوارات الطويلة المقرفة.

وبالتالي، لايمكن تقديم عرض ميمي إلا بممارسة التشخيص الحركي، وتشغيل قسمات الوجه المعبر، وترويض الجسد اللعبي لينسجم مع لغة الميم. وغالبا، ما يكون للمسرح الصامت آثار مفيدة في تحقيق الإبلاغ والتواصل السيميائي الحقيقي.

إذا، كيف يمكن لنا الاستعانة بالمسرح الصامت لبناء فرجة درامية صالحة للطفل، وتكون، بالتالي، في خدمة الصغار والكبار على حد سواء؟

ماهو المسرح الصامت؟

البانتوميم من الكلمة اليونانية، أما كلمة الميم فهي مشتقة من الكلمة اليونانية، وتعني الكلمتان معا المحاكاة والتقليد. وقد كان الميم في اليونان بمثابة حدث هزلي أو سكيتش ساخر ينتقد أوضاع المجتمع عبر استعراض عيوب الآخرين، وذكر مثالبهم من أجل إثارة الجمهور تسلية وإمتاعا.

ومن هنا، فالبانتوميم هو تقديم الفرجة المسرحية عن طريق الإيماءات والإشارات والحركات وترويض الجسد لعبيا وسيميولوجيا ودراميا. أي هو ذلك الفن الدرامي الذي يحقق التواصل غير اللفظي عبر مجموعة من العلامات السيميولوجية المعبرة برموزها ودلالاتها وإيحاءاتها غير المباشرة. كما يقصد به أيضا كل ما يتعلق بتعابير الوجه والنظر، والتي تترجم الانفعالات مثل: الحزن والخوف والفرح...

وعليه، فالميم نوع من الكوميديا السردية التي نجد فيها الممثل يعرض مجموعة من الأحداث والانفعالات والمشاعر الوجدانية عن طريق الحركات بدون الاستناد إلى الكلام اللفظي. وبتعبير آخر الميم هو نوع من المسرح الكوميكي والواقعي المصحوب غالبا بالموسيقى حيث يهيمن فيه الجانب الحركي والإشاري والإيمائي. أي إن الميم يركز أساسا على الهيئة الجسدية والحركات بعيدا عن كل تعبير لفظي. والميم كذلك تعبير عن الفكرة بواسطة الحركة. وبالتالي، يعد ممثل البانتوميم ممثلا متخصصا في تقليد الآخرين تقليدا كوميديا ساخرا، عبر محاكاة إشاراتهم وحركاتهم وطباعهم.
بيد أن المفهوم الحقيقي للميم أو البانتوميم هو تقديم حياة الإنسان الذاتية أو الموضوعية في شكل نص سردي باستثمار الحركات والإيماءات والإشارات ووضعيات الجسم بدون استعمال الخطاب اللفظي أو باستعمال القليل من الكلمات. كما يمكن في هذا الميم تشغيل كل عناصر التواصل غير اللفظي المرتبطة باستخدام الوجه (الرأس، الجبهة، العينان، الأنف، الفم، الذقن، الخد...)، واليدين، والجسد، والقدمين لإنتاج فرجة احتفالية شاملة موحية ومعبرة بطريقة رمزية غير حرفية.

مقومات المسرح الصامت وأنواعه:

ينبني المسرح الصامت على مجموعة من المقومات الرئيسية كتحبيك القصة الهزلية المتضمنة لمجموعة من الأفكار والمشاعر والانفعالات، وتشغيل الحركات والإشارات والإيماءات وتمثلات الجسد، وتشغيل الألعاب البهلوانية والسيركية الصامتة، وتوظيف المفارقة والباروديا والسخرية والضحك الكروتيسكي، واستخدام الكوميديا، ومحاكاة الآخرين وتقليدهم، واستثمار الكاريكاتور الانتقادي. كما يستعين الميم أيضا بمجموعة من العناصر التكميلية كالموسيقى، والرقص، والباليه، والسينوغرافيا، والأزياء، والماكياج، والأقنعة...

هذا، والمسرح الصامت في عمومه أنواع ثلاثة: ميم صوتي، وميم حركي، وميم مزدوج يجمع بين الصائت والصامت. أما بصفة خاصة، فيمكن الحديث عن مواقف صامتة في مسرح صائت أو مواقف صائتة في مسرح صامت، أو مسرح صامت جزئي أو كلي. ويمكن الحديث أيضا عن البانتوميم الجماعي والبانتوميم الفردي. وهناك كذلك بانتوميم مسرحي، وبانتوميم استعراضي، وبانتوميم سيركي وبهلواني، وبانتوميم مائي، وبانتوميم فروسي، وبانتوميم كرنفالي، وبانتوميم قناعي، وبانتوميم احتفالي شعبي...

تاريخ المسرح الصامت:

من المعروف أن التعبير الصامت أو الميم شكل مسرحي قديم عرف لدى الشعوب القديمة كالمصريين واليابانيين والصينيين. بيد أنه نشأ في المسرح اليوناني للدلالة على التقليد والمحاكاة، كما عرفه المسرح الروماني:" تقليدا للطبيعة الإنسانية، وكانت عروضه في البدايات تتضمن النقد الاجتماعي والسياسي، ولعله كان الوسيلة الفعالة للهروب من مخاوف الكلمة المنطوقة."

ولقد بلغ الميم أوجه مع كوميديا دي لارتي أو الكوميديا المرتجلة إبان القرن السادس عشر الميلادي، حيث كان الممثلون الشعبيون يستعملون الأقنعة الساخرة، ويقدمون عروضهم بواسطة السرد المفارق مستعينين في ذلك بالإشارات والحركات والإيماءات وألعاب الجسد من أجل خلق فرجة احتفالية كوميكية هزلية ضاحكة.

وارتبط الميم في إنجلترا بالحفلات الدينية ولاسيما حفلة عيد مولد المسيح، فكان الممثلون يقدمون فرجات هزلية مسلية وممتعة يستثمر فيها الممثلون السرد، والغناء، والرقص، والكوريغرافيا، والحركات الصامتة.

وعلى الرغم مما تعرض له الفن الميمي من قبل الكنيسة في أوربا من اضطهاد وتحريم، إلا أنه انتشر بعد ذلك في كل من فرنسا وإيطاليا وبريطانيا، وتم توظيفه بشكل جيد في القرن العشرين في حلبات السيرك، وعروض الألعاب البهلوانية، وأفلام السينما غير الناطقة مع شالي شابلن وكايتون. وبعد ذلك، انتقل إلى المجال المسرحي تشخيصا وتأليفا وإخراجا وتأثيثا.

هذا، وقد اهتم الإخراج المسرحي المعاصر كثيرا بالمسرح الصامت ولاسيما الميم أو البانتوميم لأدواره الإيجابية في تحبيك الفرجة الدرامية. وقلما نجد مخرجا عالميا أو عربيا لم يهتم بهذا النوع من المسرح؛ لما له أيضا من فوائد في تكوين شخصية الممثل وتاطيرها فنيا وودراماتورجيا.

ومن أهم هؤلاء المخرجين الذين أعطوا أهمية كبرى للمسرح الصامت نذكر: المخرج الروسي ماييرخولد الذي اعتبر أن الفنان المثالي الحقيقي هو الذي يجيد الرقص والتعبير الصامت (الميم) والبهلوانية وغيرها من القدرات والمهارات. وأكد ماييرخولد بعد ذلك على التدريب الفيزيقي لجسم الممثل وصوته وحركته. وتتركز حصيلة شغل ماييرخولد في اهتمامه بالتكنيك كأساس في العملية المسرحية.

ونجد هذا الاهتمام أيضا لدى ألكسندر تايروف. فالمسرح عند هذا المخرج الروسي:" يتحدد بمعارضته لتقليد الحياة. ولا ينبغي كما يقول أن يكون عين الكاميرا، وهو فن قائم بذاته وله نظامه وتكنيكه الخاص. وفي رأي تايروف أن فن البانتوميم يعتبر من أنقى الأشكال المسرحية، وهو في هذه النقطة يلتقي مع مايير خولد.
والممثل عند تايروف يرتكز عمله على الجسم والإشارة، وتشكل حركاته أهمية أكبر من التركيز على الإلقاء الذي كان يخضع في تصوره للأصول الموسيقية والإيقاعية".
هذا، ويعد جاك كوپوه من أهم المخرجين الفرنسيين الذين نهجوا منهج الاعتدال والتعقل في مجابهة الواقعية التفصيلية. وقد دخل عالم المسرح من باب الصحافة وعتبة النقد الأدبي، وكان إخراجه يعتمد على ترويض الصوت من أجل الحصول على النطق السليم الواضح، والاهتمام أي اهتمام بالتمثيل الصامت المعبر، والاشتغال على الفضاء الفارغ على مستوى الديكور والسينوغرافيا.

ووظف بيتر بروك في كثير من عروضه المسرحية الميم بطريقة جزئية، أي في مشاهد درامية معينة داخل عروضه المسرحية التي استعمل فيها منهجا تلفيقيا يعتمد على توظيف مجموعة من التقنيات الإخراجية التي استلهمها من مخرجين آخرين تناصا وتضمينا وتجريبا. ومن هنا، فقد " أفاض بروك في إخراجه عرض مارا صاد عن رؤية متعددة التفاصيل، فالشخصيات تستخدم الماكياج بمعيار مبالغ فيه إلى جانب المبالغة في التشويهات الخلقية والجسدية مع تقديم مشاهد تعبيرية صامتة( ميم) وإضافات صوتية وحركات تعبيرية وضوئية. وكل ذلك يختبره بروك لتحقيق أهدافه الفنية التي تمثلت في امتزاج التناغم البريختي مع قسوة آرتود الأمر الذي أثار كيان النقاد في العالم، فهو قد استفزهم وخدرهم وسحرهم".

وينطلق كوردون گريگ في كتابه" فن المسرح" من أن جذور المسرح تعود إلى الرقص والحركات الصامتة، وقد رفض فلسفة الواقعية كثيرا. وفي المقابل، كان يدعو إلى المسرح الشامل، وخاصة المسرح الذي ينبني على المسرحية الصامتة، و شعر العرض المسرحي الجامع بين طقوس الكلمة والحركة... وبالتالي، يتحدد المسرح الشامل لدى گريگ في الحدث والكلمات والخط واللون والإيقاع.

ومن المخرجين الذين اهتموا بالميم نجد: هنري توماشفسكي الذي أوجد مدرسة للتمثيل الصامت ببولندا سنة 1956م، وجاك ليكوك الذي أسس مدرسة للميم بباريس سنة 1956م، ومارسيل مارسو الذي شيد بدوره مدرسة للميم بفرنسا سنة 1978م.

ومن جهة أخرى، هناك من العلماء والباحثين من درس الميم دراسة تصنيفية دقيقة، مثل: العالم لاوتون Lawton في كتابه:" نظرية الميم وتطبيق الحركية التعبيرية" الذي قدم تصنيفا توضيحيا للمكونات الميمية، حيث ميز بين ثلاثة أنواع:

1- التعبير الطبيعي للانفعالات.
2- الحركات الاشتغالية التي تصف مختلف النشاطات (اللعب والعمل).
3- الحركات الاصطلاحية التي تشمل بدورها ثلاثة أنواع فرعية:
أ‌- الحركات السردية المستعملة في مجال التبادلات اللفظية.
ب‌- الحركات الوصفية التي تسمح للفنان بالتعبير عما يرى، ويسمع ويحس ويلمس. وتمكن هذه الحركات أيضا من وصف الأحداث أو الظروف الواقعة خارج المشهد.
ت‌- الحركات الانفعالية المشتقة من الانفعالات الطبيعية على سبيل المثال.

ومن أهم الممثلين المشهورين في مجال الميم والمسرح الصامت نستحضر الأعلام البارزة التالية: جان لوي بارو وشارلي شابلن، وفامي دوبيرو وإيتيان دوكرو ، وماكسيميلسان دوكرو، وبوستر كايتون، وجاك ليكوك، ومارسيل مارسو، وكارلوس مارتينيز، وهاربو ماركس، وروبرت شيلدز، وبابتيست دوبيرو، وهنري توماشفسكي...

توظيف المسرح الصامت في مسرح الطفل:

من المعلوم أن المسرح الصامت مقبول بشكل جيد عند الأطفال، ومحبوب كثيرا لدى الصغار والكبار على حد سواء. لذا، على المخرج الذي يريد أن يقدم فرجات مسرحية طفلية أن ينطلق من حبكة درامية معينة أو قصة ذاتية أو واقعية. فيجرد أحداثها ويسلسل مشاهدها ومواقفها بطريقة درامية واضحة ومفهومة. وبعد ذلك، يطلب المخرج من ممثليه الأطفال أن يقدموا أحداث المسرحية وأفعالها بطريقة ميمية. أي يشرحوا للجمهور معاني المسرحية ومشاعر الشخصيات الانفعالية والوجدانية الشعورية واللاشعورية بواسطة الحركات والإيماءات والإشارات وأوضاع الجسد بدون استخدام الكلمات أو التقليل منها بشكل كبير جدا. وبالتالي، ترفق هذه المواقف الصامتة بالغناء والرقص والكوريغرافيا والباليه والسينوغرافيا من أجل تقديم فرجة ممتعة شاملة تجمع بين التسلية والترفيه. ولابد أن تحضر الفكاهة الساخرة والهزل المفارق في الفرجة الميمية لإمتاع الجمهور الحاضر.

ويمكن أن تقدم الفرجة المسرحية الطفلية إما بطريقة سردية وإما بطريقة وصفية، وإما بطريقة وجدانية انفعالية تأملية شاعرية. وهنا، على الممثل أن يتحكم في حركاته سرعة وبطئا، تمطيطا واختزالا. وينبغي أن تكون حركاته التمثيلية الصامتة وظيفية ومقنعة ومثيرة للراصد الحاضر.

وهناك طريقتان للإخراج في مجال المسرح الصامت، فإما أن نقدم بعض المشاهد الصامتة ضمن مسرحية صائتة، وإما نقدم مسرحية بأكملها صامتة قائمة على ألعاب الميم.

ومن الضروري أن يستخدم الممثل في المشاهد الدرامية الصامتة حركات الرأس، وحركات الوجه، وحركات الأيدي، وحركات الجسد، وحركات القدمين، وكل ذلك في علاقة تفاعلية مع الموسيقى والرقص الوظيفي والسينوغرافيا المشهدية المعبرة والأزياء المثيرة للإدهاش.

وللتوضيح أكثر، يتطلب إخراج مسرح الطفل الصامت تأليف نص هزلي سكيتشي، وتقطيع مشهدي للنص، فترجمة المعاني والأفعال والمشاعر إلى حركات وإشارات وإيماءات و تمثلات جسدية، ثم تحويل كل ذلك إلى عرض ميزانسيني يحضر فيه الميم بشكل كلي أو جزئي بطريقة وظيفية ممتعة.

خاتمة:

هكذا، نستنتج، بدون الدخول في تفاصيل الميم الجزئية وتجلياتها التاريخية، بأن الميم أو البانتوميم فن إنساني عظيم يعبر عن أشياء كثيرة قد يعجز الكلام التعبير عنها. ومن المنطقي أيضا أن يتواصل الإنسان بطريقة مزدوجة: أولا بواسطة التواصل اللفظي، ثانيا بواسطة التواصل غير اللفظي القائم على لغات الصمت العديدة ولاسيما فن الميم.

وعليه، فلقد استفاد المسرح المعاصر سواء أكان غربيا أم عربيا أم شرقيا من إيجابيات فن البانتوميم أو التمثيل الصامت على غرار السينما في بدايتها الأولى التي اختارت التشخيص الصامت مع أفلام شارلي شابلن.

وفي الأخير، نقول: إن المسرح الحقيقي الذي يجب أن نقدمه للأطفال لابد أن يكون مسرحا دسما ومتنوعا مبنيا على الفرجة الشاملة والمتكاملة لإمتاع الذات وتسلية الآخر. ومن ثم، فتوظيف الميم في مسرح الطفل حلية جمالية وفنية مستلزمة للترفيه وجذب الجمهور الحاضر إلى قاعة المسرح لتتبع فرجات وعروض مسرح الصغار.

 [1]


[1

- د. سعد أردش: المخرج في المسرح المعاصر، سلسلة عالم المعرفة، الكويت ص:33، الهامش؛
- د. أحمد زكي: الإخراج المسرحي، الهيئة المصرية العامة للكتاب، القاهرة، مصر، الطبعة الأولى سنة 1998م، ص:237؛
- د. أحمد زكي: الإخراج المسرحي، الهيئة المصرية العامة للكتاب، القاهرة، مصر، الطبعة الأولى سنة 1998م، ص:110؛
- د. أحمد زكي: الإخراج المسرحي، ص:133؛
Lawton.J: Mime: the theory and practice of expressive gesture. dance Horison Republication,1957;
- د. جميل حمداوي: دروس في لسانيات التواصل، مطبعة المقدم، الناظور، الطبعة الأولى سنة 2005م، ص:73-74؛

مشاركة منتدى

أي رسالة أو تعليق؟

مراقبة استباقية

هذا المنتدى مراقب استباقياً: لن تظهر مشاركتك إلا بعد التصديق عليها من قبل أحد المدراء.

من أنت؟
مشاركتك

لإنشاء فقرات يكفي ترك سطور فارغة.

الأعلى