الأحد ٩ آب (أغسطس) ٢٠٠٩
بقلم فؤاد اليزيد السني

حِكايَة عَلِيّ و المَعْزَة الذّهَبِيّة

من المتعارف عليه في مدينتنا والمتفق عليه مسبقا، أن يبلور كل حي ثقافته المحلية في إطار الصالح العام لذاك الشيء الغريب، الذي يدعونه الوطن. فبالرغم من التفاوت الطبقي الهائل والحاصل عفوا في مخطط طبيعة هذه البلدة بين الفقير والغني، أي الفوق فوق والتحت تحت، فإن القاعدة الديمقراطية، قد ظلت مشاعة فقر مشتركة. وهكذا كان لكل حي في تكوينه المحلي، أثرياءه، فلاسفته، أدباءه، خطباءه، مجانينه، حشّاشيه، فقراءه الصعاليك، حراسه الطيبين وأخيرا سُكاراه.

ولم تكن الأساطير ولا الحكايات العجيبة، بمعزل عن وحدة تفكيرنا المشترك. ففي حينا، كما تولد الشمس على أفق البحر كل يوم، كما تولد الدراهم وتتكاثر في صناديق التوفير الوطني، وفي تضاعيف الشركات التجارية الشريفة جدا، ولدت عندنا في حينا خرافة، بل حكاية لا تشبه الحكايات في شيء. كان "علي بومعيزة" يومها، سكرانا، ثملا ومثقلا بقناني "الرّوج" المفرغة في رأسه. وفي حين أدى به انحداره الثمل وهوى به مجرورا إلى مقربة من دكانة "للاّ زهرة الخضارة"، صاحت به هذه الأخيرة قائلة:

 الله يرحم والديك " آ علي بومْعيزَة" مَتْ .. قَرّْبْشي لْعَنْدي مْني تْكون سْكْران.. !
كانت طيبة هذه الزهرة الخضارة. بل بالمناسبة، لقد كانت مناضلة من الطراز الأول. وحين أتلفظ بكلمة النضال، فإني لا أقصد بتاتا لا القاعديين ولا المتدينين بالماركسية، ولا أولائك المتشدقين بالنضال الاجتماعي بشكل عام. فنضالهم النظري الخمري، لا يشبه نضال للاّ الزهرة الخَضّارة الحقيقي.فهي كانت امرأة هجالة. أي قد أصبحت بلا زوج من بعد وفاة هذا الأخير الذي راح، وخلف لها عشرة أنفس لإنقاذها من السقوط والفناء في مجتمع الفاقة والحرمان. ترك لها أولاده السبعة، أبويه المُسِنّيْن، وخالة مصابة بداء الهبل. ولقد دخلت هذه الخضارة إلى معركة الوجود بإرادة فوق بشرية. واستطاعت أن تسود هذه القبيلة التي رُئَِِّسَت عليها بشخصية أنثوية مقاومة. بل نادرة في بلد مثل هذا، الذي يقدس أدباؤه بنات عشتار، فينوس وأفروديت، عوضا من الخنساء ورابعة العَدَوِيّة وزرقاء اليمامة. لقد كانت في أعلى معاني الطيبوبة هذه الخضارة. ففي فصل الشتاء مثلا، كانت تحضن كل أطفال حينا المشردين، تطعمهم، تدفئهم وتسهر عليهم. وفي فصل الصيف، فصل التسوح والانفتاح، كانت تفرغهم في الأسواق، الحافلات، دور السينما والمتاجر الفخمة، لممارسة السرقات الشرعية، من أجل معاشهم وحقهم في الوجود. لقد كانت هذه الخضارة من الناحية الأنثوية، كباقي نساء هذه المدينة. كانت تتقلب مثلهن، حسب الأفراح والأعياد الوطنية. ومع ذلك كانت تحتفظ بإحساس فريد لهذا الرجل السكير الذي ولد صدفة في حينا مع خرافة المعزة الذهبية.

انتبه علي بومعيزة لتوبيخ الزهرة الخضارة وتوقف ليتفحصها بعينيه الدائختين:
- وصافي .. حتى نْتينا الزهرة البوّالة .. !
وأجابته من قمة شهامتها وأنوثتها السائدة:
- وا كُنْ تحشم الرّاجل .. !
ومن نافذته الضيقة المطلة على شاشة الحكاية، انطلقت فجأة قهقهة الفقيه المخفي، هذا الذي كنا نسمع به ولا نراه. قهقه ثم اختفى متواريا في بيت مسجده الصغير، متخفيا في ثنايا جلبابه الصوفي الداكن. ومن بعد تواريه ببضعة ثوان خرج ذاك الطفل العاق من ثقب جدار أسود،وراح يجذب علي السْكايْري من كم جلبابه، في حين صاحت به للاّ زهور الخضارة:
- العايل خلي الراجل عليك ومشي تلعب فْ التّيساع .. !
وبدوره استدار "علي بومعيزة" في هذا الطفل الوقح، مسكه من آذانه الطويلة ثم قذفه بحذائه الثقيل:
- وسير للدّين دْبابَك !
ومن جديد عاد علي بومعيزة، للضحك والتِّسْباب والغناء:
- يا ورد من جَرّحَك .. مَن جَرّحَك !
جَرّح شَفَيْفَك وخَلّى ..آ .. لَطيف !
عَلى شَفَيْفَك دَمَك ...
دنيا .. شَفيْفَك دَمَك .. تفو !
كانت لعلي جاذبيته الخاصة، يضحك، يبكي، يغني، يسب، ثم ينسحب حالما إلى عالمه الخاص به. عالم "الروج" و"الكيف" والإفلاس المطلق. وحين يأخذ التعب منه مأخذه، يميل نحوبقالة الخضارة، يقتعد الصندوق الخشبي المحاذي للمدخل ويسرح هائما في عوالمه الخرافية. ويغتنم الفرصة في هذه الحالة المواتية أحد عقلاء الملة المُتَجَوّقة:
- إيه أعمي علي .. واحكي لنا عن معزتك الذهبية ؟
ويخرج علي بومعيزة رأسه من بين يديه، حين يكون التفاعل بين الروج والتأمل قد حصل في أسفل مخيلته، يتطلع في من حوله، متهيئا لإعادة قص ما قصه مرارا كلما أفرغ زجاجة روج في رأسه، وقد تحلقنا من حوله كعادتنا للاستماع من جديد لخرافته الذهبية، وقد اندس من بيننا، أحد المخبرين السريين، متهيئا له، بأنه قد وقف على سر منظمة سياسية باطنية.
وقال علي متفاعلا:
- وطارت المعزة الذهبية وبقيت على الحصيرة.. !
واضطرب المخبر الغريب من هذا الروي المخربط، وتقدم الشاب الأسمر الملقب ب " فْليشّة دِي أورو" من الراوية علي مستعطفا إياه:
- واحكي .. لنا .. السيّ علي عن خرافة المعزة الذهبية من البداية ..
وتنحنح "علي بومعيزة" في فضاء جلبابه العريض، تنحنح كسياسي محنك في مستهل الخطاب،خطا، توقف، ثم سحب من تحت خيمة جلبابه عزبة مغربية من إنتاج " بولعوان " ..، حمراء، غراء، لم تطأ الحرب ساحتها العذراء، وقلع خاتم رأسها الموسومة، مفرغا روحها الوثنية في جعبة حلقه قائلا:
- إيه .. الله يرحم الوالد ويوسع عليه.. كان كاي يرمي العصا و كي قل لهل .. كن .. ! فتصبح بمشيئة المولى حية تسعى.
واغتنم هذه اللحظة الإعجازية أحد الأطفال الوسخين مذكرا:
- أيْوَه وذيك المعزة الذهبية؟
تنبه "علي بومعيزة" ضمنا، إلى تثاقل لسانه، والخيال البطولي يجري في عروقه جريا، وقام بمحاولة خروج جديدة، متأهبا لمواجهة عالم الحكايات والخرافات العجيبة:
- آه .. ! المعيزة ديالي .. لقد كان عمري أيامها، ما يقارب الخامسة عشر سنة، كنت يومها في البيت وحيدا حين .. وسبحان الذي لا يموت.. !
وقاطعته " الزهرة الخضارة" خارجة من حيادها قائلة:
- وهاد الشيء كان عرفوه .. !
استدار فيها " علي بومعيزة " كمن يؤنبها ضمنا، عن خيانة أسرار الشراكة السريرية، وعقب مخرفا:
- نعم لم أستمع لوصية الوالد، واغتنمت فرصة غيابه عن الدار، وأسرعت لفتح تلك الصندوقة التي أوصاني بعدم فتحها. وبالفعل فتحتها، وكان أول شيء تقع عليه عيناي بها، ذاك الكتاب السحري الذي كان يخفيه الوالد، كتاب الطلاسم والتحكم في قدر جن سليمان. والأعجب من كل هذا أن ملك الأحرف الأبجدية نفخ علي من نَفَسِه، وإذا بي عالم يتكلم بكل الألسن البشرية وبكل الإشارات. وأشار ملك الوحي القرائي إلى ناحية المشرق وللحظة، طلعت صحيفة مكتوب عليها بالحبر الذهبي، النبطي الجاهلي :" التزم الصيام، واقطع الكلام على باقي الأنام، واتخذ الخلوة رفيقة، وارحل عند الليلة الأربعينية، لدى بحر الهموم. وسر لغاية محاذاة شاطئه المبلول، وانتظر أن يفيض عليك القمر بفضة روائه، ثم بعد هذا الوضوء السماوي، اركع وصلي ركعتين، وعد إلى مكانك وانتظر. ولسوف ترى، وللكذب في بلد مثل هذا، كل عناوين الدعاية، سترى معزة ذهبية خارجة عندك من أعماق.. أعماق البحر، ولسوف تكلمك وتفشي لك بالسر الخفي، لفاتحة طلاسم كنوز دولة العالمين.
وتوقف فجأة عن الكلام وعاد ساحبا قنينته الحمراء من تحت جلبابه، سحب من فيها ما شاء الله، ثم استوى منتصبا من جديد وتابع خرافه:
- وكان كما كان مكتوبا. نزلت إلى شاطئ البحر، واتخذت العزلة رفيقتي، وطبقت بالحرف الواحد وصايا كتاب الحكمة وسبحان الذي لا يموت ! سبحان الذي لا يموت .. ! وإذا بها حبيبتي المعزة "كنوز" تتجلى لي قائلة.. :" وردد معي ما سوف أقوله لك وإلا.. هيا رَدِّد معي .." جيت نْخْبْشْ الخْشْبَة لكِن الخْشْبَة خْبْشْتْني .." ردد هذه العبارة عشرة مرات متتالية بعد سورة الرحمان، وكن رجلا غنيا، وإلا عادت الأمور إلى مجاريها، وعدت يا حبيبي علي مهزوما إلى كوخ أبيك بحي المصلى".
وقدم من خلال الصمت الحكائي الرهيب صوت "الروبيو" منبها ومتهكما:
- ومن فوقاش تَْعَلّمْتي تْقْرأ أبّا علي ؟
وأجابه علي بومعيزة منبها:
- والروبيوالخَرّاي، إنه " الرّوخوبولعوان " ملاك القراءة من علمني.
واستدار في وجوهنا مقهقها:
- إيه .. عْلاش كنت كان نتكلم .. آه القْرايَة .. صافي من لما علمني ملاك الكتابة أسرار الحكمة، صرت كل ليلة أنام بحذاء الشاطئ، مثلما هوموصي عليه في الكتاب. وفي الليلة الأربعينية خرج علي ملك البحر قائلا:
- مالك السّي علي كل الناس ناعسين وأنت هنا كات سْطوبارْنا .. شْنّوكي خصك؟
وفي هذه اللحظة الرهيبة من الروي المشوق لمتابعة الأحداث، أخرج المخبر كناشه وكتب فيه " ملك البحر" بين قوسين، طواه من جديد وأعاده إلى أسفل جيبه.
ومضى علي بومعيزة غير منتبه لشيء في سرده الخرافي:
- واش غادي نقل لكم ، ما كان غير قويت قلبي ورديت عليه .." وا بغيت الكنز أمولاي السلطان !". بغيت الكنز أمولاي .. تفوهذاك زمان .. وهذا.. تفوعليه من زمان !
وأعاد ذاك الطفل الوسخ السؤال من جديد:
- وديك المعزة اللي كات هْدار؟
استدار "علي بومعيزة" فينا جميعا، كمن يسخر من قلة خيالنا ومن مصيرنا معا:
- إيه أولدي تخضخض البحر لبضعة ثواني وتمخض عن معزة ذهبية، سبحانك يا مبدل الأحوال ! خرجت علي معزة ذهبية كات شعل، وجاءت راكضة نحوي وقعدت بين رجلي. وجاء معها كلام ثقيل صدى لملك البحر قائلا " ردد جملة خشبة الخشبة في أذن المعزة عشرة مرات ومرحبا بك في " لاس فيكاس". وإلاّ سلام الفقر عليك لبقية الحياة.
وتنحنح من جديد وغمغم ما غمغم من زجاجته وعاد إلى شهية متابعة الخرافة:
- قلت بأن ملك البحر مسكني من عنقي وقال لي منبها" اسمع أبا علي هاذ الكليمات اللّي كيخصك ترددوهم في آذان المعزة .. "جيت نخبش الخشبة ساعة الخشبة خبشتني .." وما تقول غير سبحان الله .. وسر أولدي في أمان الله ورعايته. وكمن جاء من الغيب عاد ملك البحر إلى الغيب وبقيت وجها لوجه مع معزتي.
وقاطعه صوت احد الأطفال:
- أَيْوَه .. خْرَت عليك الشراب والحشيش.
وتداركت السيدة الخضارة الموقف مصححة :
- وا مشي العايْل تْنعاس للطْرُنْبَة دْيْمّاك.
واستدرك علي المجلس من جديد متابعا:
- ملت على أذنها اليمنى ورحت منشدا محفوظتي الخشبية،
ومن جديد قاطعه صوت رجالي شديد الاقتراف:
- ولْدت لْك الزلط السْكايْري ..
غير أن الراوية علي بومعيزة لم يفطن لهذه القرصة المجازية الخفية راح في درب رويه:
- ومشيت كنغني لها أنشودة الخشبة وأنا نْتْخَربْط .. حشا السامعين .. خربطت الخاء، بالشين والسين،بالتين وما كان سبحان رب العالمين، إلا أن طارت المعزة عائدة على أعماق البحر وبقيت متفرجا لضياع الكنز الثمين.
وفي حين كان الروي قد بدأ فعله الخرافي في عيون السامعين، وفي حين كان " علي بومعيزة " قاب قوسين أوأدنى من كنوز العالمين، إذا بالزهرة الخضارة تقفز خارجة من سلوتها قائلة:
- وا سيرولّي جانا جاه الخير وسيروبحالكم " أ بنوآدم "
وعاد علي بومعيزة لختام خرافته:
- سبحانك يا مبدل الأحوال .. يا سبحانك .. !
وشددت الزهرة الخضارة على حسم الموقف:
- وا سيرووخلوالراجل يرتاح ..
وانتفض الجمع وتفرقوا في اتجاهات مختلفة ومن خلفهم كان صوت علي يلاحقهم منشدا:
- جَفْنُه عَلّم الغَزَل .. جَفْنُه.. دنيا .. تفو.. !
وأسدلت الزهرة الخضارة رداء دكانها الحديدي على الفضاء الداخلي، ومضى كل إلى سريره، وعادت الزهرة بعلي إلى حشمتها منتصرة ..

أي رسالة أو تعليق؟

مراقبة استباقية

هذا المنتدى مراقب استباقياً: لن تظهر مشاركتك إلا بعد التصديق عليها من قبل أحد المدراء.

من أنت؟
مشاركتك

لإنشاء فقرات يكفي ترك سطور فارغة.

الأعلى