الخميس ٢٧ آب (أغسطس) ٢٠٠٩

رجل ينتظر (مامبا دوويا)

بقلم: حسام الدين نوالي

حكى "البوهالي" هذه القصة في نادي المرسى ذات خريف، وتعرفون أيّ بوهالي أقصد، كان في تلك الأيام لا يبرح النادي إلا ليجلس على صخرة الشاطئ المدعوة (صخرة الخضِر) يغني أغانٍ شعبية. وكما تذكرون كان خلاسيا يشرب كثيرا.

في ذلك اليوم، لم يتحدث عن السنوات العشر التي قضاها في السجن؛ وكان المهدي ورفيقاه يلعبون ببطء لعبة "البارتشي"، وأنا على مقربة من النافذة المشبكة أرقب امتداد الماء. كان الليل يقترب بطيئا والسماء تبدو رمادية تقريبا.

جرّ كرسيا، وتجرّع الكأس التي كانت في يده دفعة واحدة، وضعَها ثم مرر ظاهر كفه على شفتيه، وجال بعينيه في قاعة النادي. كان يدندن وينقر على الطاولة، فيما رأسه الغارق في قبعة يتمايل بإيقاع..

اقترب من النافذة المشبكة، مدّ بصره عبرها وتمتم فالتفتُّ. كان يرتدي معطفا طويلا سيء التفصيل، وسألني إن كان يمكن أن يجلس ثم جلس قبل أن أجيب.
أشعل سيجارة وقال: "حكايا البحر حزينة !" والتفتَ إلى النافذة وسكَت...
بدت لي أضواء باخرة بعيدة تترنح، وغير بعيد كانت المراكب الراسية تتململ بفعل حركة الماء.
التفتَ إليّ، ثم إلى النافذة، ومد أصبعه جهة الباخرة القديمة "فورتاليزا" التي رماها البحر والريح يوما فانشطرَتْ؛ وسأل:
  تشبه من فورتاليزا تلك؟
وحين رفعت بصري إليه أومأ برأسه فيما يشبه دعوة للكلام، وبدا لي حينها حزينا جدا. قرّبت إليه المنفضة فنقر داخلها السيجارة وسقط بعض الرماد، ثم بلع ريقه وأكمل:
-أنا أشبه فورتاليزا وإن لم آت من البرازيل - مثلها- محملا بالسلع.
ولأن لا أحد كان يعرف شيئا عن حياة البوهالي قبل السجن، فقد كدت أسأله من أين أتى هو، وترددت.
كان ينظر إلى فورتاليزا مرة، ومرّة يحدق في عينيّ، وتكلّم عن بحار من عائلته أبحر إلى الكونغو واختفى، وعن زوجته وطفله الرضيع فيما بقيت صامتا لا أعرف أي إحساس بالثقة أثَرته فيه ليحكي. نفثَ دخانا للأعلى مغمضا عينيه برهة، وتأملت وجهه الذي احتلته خطوط التجاعيد بعنف. فجسده لم يهرم بعد، وتجاعيده تبدو مبكرة.. فكان أشبه بمزارع أمازيغي ممشوق.

فتح عينيه، ومد يده يرشف من قهوتي الباردة، فطلبت له فنجان قهوة واعترض، ثم نظر إلي وسألني إن كنت أعرف سفينة تجارية تدعى "مامبا دوويا" فنفيت، وأردف أنها تعني "ذنب القرش"، وأن البحار الذي اختفى في اتجاه الكونغو كان من طاقمها، وكان أيضا زوجا لأخته.. ولم ينجبا لأن زواجهما قبل الاختفاء لم يتجاوز الشهرين إلا بقليل، لكن أخته تلك، -وكان اسمها "غيتة"- كانت تعتني بالرضيع تماما مثل أم، وتهتم بالبيت أيضا.. وكانت مرحة.
ومع ذلك فإن زوجته لم تكن تثق فيها كثيرا، وتقول إن تصرفاتها غريبة.
حكت يوما للبوهالي كيف بكى الطفل حتى كاد يختنق، لأن غيتة ضغطت قبلة طويلة.. طويلة جدا على شفتيه الصغيرتين؛ وكان البوهالي يردد:
  أووووه.. !!
ثم لا يضيف شيئا.
وغيتة التي بدأت تفضل تناول الوجبات منفردة، صارت عصبية، وأحيانا تكبر رغبتها في البكاء فتتكور في مكان وحيدة وتبكي بمرارة.. من دون سبب..
حرك البوهالي رأسه وهو يضغط عقب السيجارة في المنفضة وقال:
  حقا كانت حزينة.
ورفع عينيه ثم أضاف:
  ربما كان المرض يدب إليها
وسكت..

كان البوهالي يشك.. وأيقن حين وجدها يوما وهي تحضن الطفل وتُخرج ثديها وتحشوه في فم الصغير الذي كان يبكي أنها ممسوسة، وبعد وقت صار شائعا أنها مصابة بلوثة عقلية، فكانوا يحبسونها في إحدى الغرف.
قال البوهالي:
 كانت تتكور وتبكي بمرارة، وكان الرضيع يسمع صراخها فيبكي.. تصوّر، كان كل شيء في البيت، وداخلنا أيضا يبكي.. أوووه ! كان الجيران خلالها يواسوننا، في البدء يترددون على البيت كثيرا، يحملون طعاما إلى غيتة، ويطأطئون رؤوسهم مشفقين وهي تأكل. ثم صار ترددهم يتناقص مع الوقت، وحين أصادف أحدهم خارج البيت، يسألني عنها، فأقول: "لا شيء.. لم يتغير شيء" ثم يتمتم صلاة وينصرف.
صمتَ البوهالي لحظة، والتفتَ إلى المهدي ورفيقيه الذين يلعبون "البارتشي"ثم قرّب وجهه إلي أكثر وهمس:
 حكايا البحر حزينة.
كانت أضواء الباخرة البعيدة تقترب، وصرتُ أتبين شكلها أكثر، فيما داخل القاعة كانت موسيقى خافتة تتحدث عن الغربة وعن الرحيل.
وسألته: ألم يزُر غيتة طبيب؟
ولم يجبني.
صمتَ طويلا ثم قال:

 حل الصيف وصارت غيتة تخرج إلينا وتجلس وتتحدث، لكنها ظلت عصبية.. مرّة حملت الطفل، ألقمته ثديها وكان يبكي، رأتها زوجتي فصرخت وركضت وأمسكت بالطفل، لكن غيتة تشبثت أكثر، وضغطته إلى صدرها، وكانت تضحك.
 دعي الطفل صرخت زوجتي- اتركيه سيختنق
وتضحك غيتة.
 دعي الطفل أيتها المعتوهة، واااو.. هذه المجنونة ستقتله.. ستقتلينه..
وتضحك غيتة..
وتصرخ زوجتي
وتضحك غيتة
ودخلتُ، فرأتني غيتة، ووضعت الطفل على الأرض صامتة ثم دخلت إلى الغرفة..
صارت زوجتي تخشاها، وتتجنبها، وكانت تحرس الطفل أكثر، وتحكي لي وللناس ما يجري، لكن غيتة صارت تتصرف بغرابة، ففي إحدى الليالي حين أحسست بحركة داخل غرفة النوم، أشعلت الضوء،
وكانت هناك قبالتي تمامي، مستندة إلى الحائط وعيناها جاحظتان. سألتها ماذا تفعلين هنا، فقالت لا شيء، ونهضتُ بسرعة أمسكتها من شعرها وتألّمت، وصرخت فيها، وغضبتُ، وأقسمتْ أنها لن تعود..
في تلك الليلة كانت زوجتي خائفة، والطفل يصرخ، وبكتْ لأن أفكارا سوداء راودتها. هدأتها، فأرضَعت الطفل حتى نام،وضعَته بيننا والتصقت به، ونامت..

وبقيت مستيقظا طوال الليل، أفكر في هذا الوضع الذي آلت إليه حياتي ثم قررت أن أطرد غيتة من البيت.
بعد يومين، استيقظت فجأة في الليل، فلم أجد زوجتي جنبي، ولا الطفل. بحثت عنهما ولم أجدهما، وفتحت غرفة غيتة، ولم أجد أحدا، فارتعشت.. لم أعرف ما الذي ينبغي فعله آنذاك. فخرجتُ تحت ذلك المطر الليلي الكثيف أوقظ الجيران أسألهم ويسألونني كثيرا، وأنا لا أجيب في الأغلب، فقط كنت أبحث عن زوجتي وطفلي.. وأبحث عن غيتة؛ ورجوتهم أن يبحثوا معي، فتوزعنا في القرية وبحثنا، وسرنا مسافات، لكن لم نجد أحدا منهم.
صار وجه البوهالي أكثر حزنا، وبدا لي بريق في عينيه كذكرى مؤلمة تشبه الدمع، فيما يدٌ على الذقن وأخرى تمد أصابعها مفتوحة على الطاولة كجذر قديم.
ركز عينيه على الفنجان البارد وقال بتأنّ كبير:
" كان البرد يغزوني. والليل لا يرحم. وابتعدت سائرا نحو الساحل، أجمع ما تبقى من قواي وأجمّعها في السمع علِّي وسط المطر و لهاثي ودقات القلب صرخةً مثلا أو نداءً أو وقع أقدام..، وكان وجه الطفل قبالتي، وزوجتي تحضنه، فيباغتني الدمع ويختلط بالمطر على وجهي.. ويحضرني وجه أمي –رحمها الله- وأتصور الحزن الذي سيحتلّها لو رأت غيتة الآن، فأبتهل.. وأواصل السير..
أووه!!..

وعدت للبيت منكسرا، أحمل الحرقة والسؤال معا. وكان جيران قد تجمعوا هناك، بعضهم يرسم للحكاية ألف وجه، وبعضهم يحمل الحزن والسؤال الذين أحملهما.

بعد أيام، ألقى البحر جثة الطفل، وبكيت. بكيت لأن فجيعة غرقهم جميعا كانت أكبر من تصوّري، وبكيت لأني عاجز التفكير، وبكيت لأني وحيد هناك أدفن طفلي لا أعرف ما الذي حدث.. ثم صارت أفكار سوداء تسكنني، وخشيت أن يفاجئني بها قَدَرٌ ما.. فسافرتُ"
  إلى أين؟
  إلى هنا
  هنا بحر، والبحر لن يسعفك على النسيان.
  في البلدة ميناء للسفن التجارية، وفي كل يوم أنتظر عودة "مامبا دوويا"، لأعانق زوج غيتة، وأحكي له عن زوجتينا، وعن ابني الذي دفنته هناك
قفزَت عيناي فجأة إلى صخرة الخضر التي يجلس عليها البوهالي يغني، ونظر هو باتجاه البحر وصمتنا معا، وطال صمتنا لحظات، تذكرت خلالها حكاياته عن سنواته العشر في السجن، ثم التفتّ وسألته عن سبب دخوله السجن، فحدق في عيني بعمق، ووقف، ثم سار دون أن يتبس بشيء، وطلب من النادل قنينة خمر "النورس".
قال النادل: هل ستدفع؟
فأجاب: على حساب مرافقي!
نظر إلي النادل وأومأت برأسي.
وضع القنينة تحت معطفه الطويل، وانصرف دون أن يشير إلي أو يودعني وخرج.. وبقيت شبه جامد يخدرني حزن البوهالي. ووصلني صوت باخرة ترسو على الميناء، فأدرت الكرسي باتجاه المهدي ورفيقيه وقلت:

  هذا البوهالي شطرته الأحداث بقسوة
ضحك المهدي، والتفت أحد رفيقيه وقال:
  من يصدق حكايات البوهالي يا رجل..؟ !
وابتسموا جميعا، ثم واصلوا اللعب.
وفي الخارج، كان البوهالي قد بدأ يحتسي "النورس" على صخرة الخضر، ويدندن أغان شعبية. وينظر باتجاه البحر عميقا نحو الأفق.

بقلم: حسام الدين نوالي

أي رسالة أو تعليق؟

مراقبة استباقية

هذا المنتدى مراقب استباقياً: لن تظهر مشاركتك إلا بعد التصديق عليها من قبل أحد المدراء.

من أنت؟
مشاركتك

لإنشاء فقرات يكفي ترك سطور فارغة.

الأعلى