الخميس ١٧ أيلول (سبتمبر) ٢٠٠٩
بقلم بسام الطعان

أرجوحة العيد

برفقة نسيمات الهواء الدافئة, والدهشـة التي لا تزول, ولأنها حلمه العتيق منذ زمن ليس ببعيد , طيـّر إعجابه وهمساته وعصافيره نحوها , لكن أرجوحة العيد مرت ولم تسمع همساته, ولم تر عصافيره الكثيرة التي ملأت الفضاء بألوانها المثيرة, عندئذ أخذ يشرب من كل أنهار الجمال التي تنبع من قامتها الفارهة.

اختفت في شارع الضباب, فبدا مثل مسافر ودع لتوه كل أحبته, ومرت أيام ثلاثة, لم يعرف خلالها طعم الراحة والهدوء, إلى أن جاء ذلك الصباح البهي الذي زرع في داخله حدائق الفرح من جديد.

على ناصية شارع الحنين, الخالي من المارة والمليء بالندى, كان واقفاً, ينتظرها بشــــوقه المعتق, وفجأة غرق في دافئات المنى, رآها قادمة تخطو خطوات رشيقة وتبدو مثل لؤلؤة, لحظتئذ ملكت مشـاعره, وغدت مثل دمية يتشبث بها.

قبل أن تقترب ازدادت دقات قلبه, ربما خوفا وربما فرحاً, وحين صارت بالقرب منه زنرته بنظرة دافئة, أحسها تنبع من بئر طيبة, حاول أن يزفها لهفته, غير أنه ولا يدري كيف, ظل مثل من يصلي, وقبل أن تتجاوزه سمع صوتاً ناعماً وكأنه صوت ملاك جاء من عالم آخر:

ـ صباح الخير.

أمسكت المفاجأة تلابيبه, ربط الارتباك لسانه , ظل يتطلع إليها وهي تبتعد, غير أن قلبه الســعيد خرج من بين ضلوعه وأخذ يرقص من غير أن يصيبه الدوّار:"سلام لمن لا تخون, سلام لأرجوحة العيد, سـلام لوردة حين تمر وحين تكون".

تتالت الصباحات المليئة بالنسائم المهيأة للبهجة وهو يبحر في شـرايين اللقاء, يملأ ذاكرته بكلمات وردية الغصون ليطوقها بها. في كل لحظة يتمنى ألا تتأخر وتأتي كحمامة ليبادلها الهديل, وحين يطوع عذابه يبدو مثل مكوك حائك نشيط, يوزع نظراته على الدروب وينسج صراخا ً صامتا ً في الهواء, وقبل أن تمـوت أزمنته القريبة , الجاثمة فوق أرصفة رثة, يعزي نفسه ويتنهد من أعماقه:" مازال الوقت مبكراً وأشعر بأن الطرقات حبلى بها".

ما دامت الروح مشتاقة, والقلب لا يضنيه السـهر, فهو لن يهدأ ولن يتعب حتى يجتمع مع الحبيب وجلسة الغد القريب, ظل يعزف على وتر يمتهن هوس البلوة إلى أن رآها تلمع من بعيد, فطفح وجهه بالفرح واستعد لها بكل جوارحه , وحين مرت من أمامه وسلمت, خدرت جسده وسرقت بأريجها كل الكلمات التي أعدها في ذاكرته.

كم تمنى ألا يكون مخذولا, وتكون له صديقة أو شريكة تقاسمه أرغفة حنان وورودا ليلة, هو الطائر الغريب, يسـافر في كل الدنيا, لكنه لا ينسى تضاريس وجهها, ولا يغلق أمامها أبواب ذاكرته أبدا. صارت بالنسبة له الفضاء والعسـل النقي, ففي كل يوم يرى فيها دفء الفراش والولع العتيد, وفي كل لحظة من لحظات العمر, يحن إلى شـظايا النداوة واكتمال النشيد, ويقسم باسم الحب الطاهر لأن وجدها سيقطفها ويزرعها في دمه إلى الأبد.
آه من الأيام التي لا يراها فيها, في تلك الأيام, يرتدي بؤسه ويأسه, يشيد فوق أغصان وحدته عشا, يشرب من رحيق الصمت, يشاغل نفسه بالنظر إلى السماء, ولا يرد على بعض المارة الذين يحيونه, يظل في مكانه حتى الغروب, ولا يشعر بالجوع أو الوهن أو بحالة ضعف, وبين فترة وأخرى ينثر في الفضاء الكلام الذي لا يجيد الكلام.

في ليلة العيد, كان يسير وحيدا , تائها في الشرود , وكان يبدو مجرد خيال, أو شبح ليس فيه حس أو روح , بغتة بزغت عيناه شمسا, وتفتحت ابتسامته كالشوارع, رآها في نهر المخلوقات برفقة صديقتها, ترتدي كامل أسلحتها البهية, وتلمع بنورها السرمدي.
بلهفات ألف مشتاق ومحب, هيأ الروح للحظة اللقاء, وقف يهتف لها من ولهه وفي صدره ألف حب وألف ألف حياة. لم تسمع هتافاته , فارتدى كل أشواقه الحبسة وراح يسرع ليدخل في برزخ الوصول وهو يرسل بصره عبر الرؤوس والأحجام, ما إن لمحته حتى شعرت بإحساس ما ينمو في أعماقها, فابتعدت عن صديقتها وسارت باتجاهه , وقفت قبالته , وكان قميصها الأزرق قد انحسر عن بعض أجزاء صـدرها, فبدت له أكثر جمالا, وتسلل إغراء جسـدها إلى أعماقه كموجة نسيم دافئة, أما هو فاقترب منها اكثر وكاد يلتصق بها, بينما صديقتها تنظر وتتحسر.

ظلا للحظات كل منهما ينظر إلى الآخر دون كلام , دون أي على الإطلاق.

ـ لنبتعد عن هذا المكان. قال وهو يمد لها يده.

استدارا جنبا إلى جنب , سارا بخطى مفعمة بحيوية مدهشة , كانت أكتافهما تتلامس حينا وتتسع المسافة بينهما حينا آخر, ابتعدا عن نهر المخلوقات, فخاطبها بصوت أشبه إلى الهمس:

ـ أنت مثل غيمة من الندى وتختلفين عن كل الفتيات.

ابتسمت ولم تعلق , وحين أخبرها أنه معجب بها منذ أن شاهدها وهي ترتدي فستانا أزرق, ضحكت فخرجت ضحكتها حديقة غـنـّاء:

ـ لم ارتده سوى مرة واحدة.

طأطأ برأسه فجأة وانكسرت تعابيره:

ـ أتمنى أن ترتديه دائما. سكت للحظة ثم أضاف:

ـ لا أحب يوم الجمعة لأنه يأخذك منى ولا أراك تذهبين إلى العمل.

اكتشفت بأنها تأخرت عن صديقتها أكثر من اللازم فاستدارت مضطربة.

ـ تأخرتِ؟

ـ نعم, لا بد أن صديقتي تبحث عني الآن.

ـ دعيني أراك دائما.

سقاه صوتها الهادئ ماءً مستراحا, فشعر بفرح قادم إليه, وبشوق ينمو ويتفجر في داخله كغيمة تحولت إلى مطـر ناعم فوق المروج الخضراء, وقبل أن تخطو الخطوة الأولى, ل ا شعوريا فتح لها ذراعيه وتمنى لو أن تقفز إلى حضنه, غير أنها ومن سوء حظه لم تفعل , ربما لم تر يديه المفتوحتين ولم تر صدره الرحب.

في صباح العيد, وبينما كان يشكل لها من زهور الحب باقة جميلة, شاهدها تقبل نحوه وهي تموج بنور وتتلو سلام اليمام, كانت ترتدي فستانا جماله يهزم جمال فستانها الأزرق , وكانت تبدو مثل نخلة مليئة بثمار نضجت قبل أوانها, أما هو فزركش قلبه بالأغاني واستعد لأن يضمها إلى صدره, كيف لا وقد صار جسده قطعة ثلج يحن إلى دفئها, ولم يعد يرى أمامه غير أرجوحة العيد.


أي رسالة أو تعليق؟

مراقبة استباقية

هذا المنتدى مراقب استباقياً: لن تظهر مشاركتك إلا بعد التصديق عليها من قبل أحد المدراء.

من أنت؟
مشاركتك

لإنشاء فقرات يكفي ترك سطور فارغة.

الأعلى