الأحد ٢٧ أيلول (سبتمبر) ٢٠٠٩

بقايا شتات

بقلم: سهيل ياسين

ما الذي يبغيه وسط اللغو والكراسي، هل يريد رجل في مثل سنه وبياض رأسه امتهانا لنفسه وتبديدا لمهابته، شيخ يتدلى بين فكي نهايته القريبة، يجالس في المقهى شباباً عابثين، هكذا فكر البعض فيه، وظن اخرون ان ثمة شيئا ينوي القيام به، مادام يطيل الجلوس والنظرات في وجوه من يخالطهم ويتملى بعين ماكرة، هامسا لهذا وذاك وفي نفسه طراوة خضراء لا يعرفها الا الذين خبروا مكر الغواية وألاعيب الشياطين، وان نوعا من هذه العلاقة المريبة تحوم حولها الشبهات والشكوك.

فيما كان في حقيقته ليس اكثر من كيان يتهاوى هابطا الى خريفه الاخير، وبتلك الرفقة كان يمد نفسه، واهما او غير واهم، بالحيوية والشباب، وبفعله هذا محو لمشاعر الكهولة ورثاثة السن ودفع لتوعدات المنية، كلما داهمته النعوش والمآتم.

لم يدم هذا الخلاص من هواجس الشيخوخة واشباح الموت، ورفقة جيله وملالة حكاياتهم الكسولة، والمفزعة في اغلب الاحيان، اذ داهمه المرض اخيرا، حتى ركد محنطا في زاوية من بيته، غائبا عن معارفه ومغتابيه، وشعر بمهانة وحداد ابدي في امتثاله الحجري العقيم، كم كان نشطا، في اقل من ومضة، يثب حيثما وجهته، وكيفما كانت بغيته، تستوي تحت قدميه المسافات، ببضع خطى معدودات، كيف امسى لوقع خطى المارة قرب بيته وهو قعيد الفراش، وخز ممض، وخز سكيني غريب.

ابمقدوره الان ان يغادر مكانه تحت انثيالات المطر، انه ليغدو غامضا ومرتبكا هذه المرة، ايفعل ما ينويه حقا؟ فيما لو اخفى خشخشة الكيس الورقي عندما يفضه عن بدلته المودعة في دولاب العائلة الخشبي الوحيد، بعد ان يأخذ باله تماما من ازيز حذائه الملمع، وهو ينتعله،شاقا ومخترقا هداة المكان ،لابد ان يتسلل الى الخارج باتئاد خفي، في طرفة عين سيكون تحت نثيث المطر، غمرة منه كافية لافتضاض تكوره وشرنقته، غمرة واحدة تفرد اطرافه وتطلقه لمدارج فضاءات وسيعة تحت سماء مفتوحة، الا يرى خيوط المطر، في مشهد النافذة، شباكا من نسج الماء.

انه ليغدو غامضا ومختلفا في حضرة العائلة.

أينهد فعلا هذا الصدود الابدي لرجل يحب الضوء والالق، ولم ينطفئ لمع مرايا عينيه يوما، ايخطر هذا في المنام، ام كان في تحد حقيقي من امره، اجل في الطريق اليهم سيمتلئ رضا وزهوا لا يطاق، بعد ان يلقي نظرة في لمعان حذائه وربطة عنقه وقميصه وبدلته ذات الماسات المفصصة، سيشعر كم هو مذاب ومرتبك في رد التحايا.

ايام طوال خلت، ترى هل يلتقي احدا منهم، مهما يكن من شيء فلابد ان يمضي قدما الى هناك، لم يشغله قبل الان سوى صمته وكتمانه. مثل رأس عكازه تآكلت روحه في عد الايام وبصمات الاصابع المرتعشة في بطاقات المعاش، والتهام الاقراص الملونة، مع منقوع الاعشاب المرة.

ايام طوال مضت وهو مغلول تحت دثاره الازلي، يتلوى كاذيال دخان سيكارته المدسوسة بين شفتيه.

بملء بقايا شتاته، استوى اخيرا على جذعه، وصاح بالعائلة:

احضروا اشيائي.. بدلتي وعكازي..

تردد الصوت في ارجاء البيت، تكرر عدة مرات، من دون ان يجرؤ احد على الاجابة، او يرد عليه، الا همسا فيما بينهم: اصحيح ما تقوله ياحاج؟

بدلتك بعد ان قضمت اطرافها الفئران، امست قماطا للرضيع وممسحة للبلاط، وقطعا بالية ممزقة للتنظيف، اما عكازك يا شيخ فقد اصبح مساند لرفوف اواني المطبخ، وصنع الاحفاد منه اكوازا لمصيداتهم المطاطية.

بقلم: سهيل ياسين

أي رسالة أو تعليق؟

مراقبة استباقية

هذا المنتدى مراقب استباقياً: لن تظهر مشاركتك إلا بعد التصديق عليها من قبل أحد المدراء.

من أنت؟
مشاركتك

لإنشاء فقرات يكفي ترك سطور فارغة.

الأعلى