السبت ٢٤ تشرين الأول (أكتوبر) ٢٠٠٩
بقلم زهير الخراز

الرذاذ

• أمنية مملحة (1):
قال العجوز وهو يعلق دودة « معسلة » بصنارته ويلقي بها إلى البحر:
- منذ حداثتي.. منذ أن كنت صبيا طري العود منذ أن وعيت بهذا العملاق الأزرق، وأنا أقف على البحر وكلي أمل أن تلفظ الأمواج نحوي شيئا ذا قيمة.. شيء يغنيني عن الشباك المهترئة.. عن الدود العفن.. عن الحوت العقيم.. وعن سياط الأمواج المالحة!
• أمنية مملحة (2):
قال الشاب للعجوز بينما عيناه تغتسلان في زرقة البحر:
- تخيل معي يا صديقي « البحري »! تخيل صندوقا مطعما بالعاج والأحجار الكريمة وقد مليء عن آخره باللؤلؤ والذهب الخالص! تجود به علينا موجة من أمواج ذاك الزمان!!!
وانفجرت موجة صاخبة من أمواج هذا الزمان بصخرة تحمل فوقها أمنيتان.. فرش رذاذها الصقيعي جيلين وأطفأ شرارة حلمين!
قال البحر:
- نأسف عن هذا العطب التقني المفاجىء نظرا لاحتكاك وقع بين موجة سالبة وأخرى موجبة.
قلت في نفسي: واعجباه أو يأسف البحر؟؟؟
ولم أسرها إلى الراوي، أو تراه قد علم، لكن الرذاذ...
وقال الراوي للعجوز: أفنيت شبابك في انتظار هبات من البحر، فهل جادت عليك الأمواج بشيء يذكر أيها العجوز اللئيم؟ ألم....
قاطعه الشاب غاضبا: وما شأنك أنت أيها المتطفل الخبيث؟ شأنك أنت شأن كل الوشاة،والمنجمين، تصطاد خبرا ثم تزركشه بقناطير من الأكاذيب.. فمارس أكاذيبك.. مارس نميمتك، لكن بعيدا عنا..
أسررت في نفسي: أقسم أنني لن أغفرها لك أيها الشاب ال.. فمصيرك بحبري لا بيد كيس الغباء ذاك الذي تسمونه بالراوي!
ونادى العجوز على الراوي قائلا: أخبرهم.. أخبر المتطفلين والفضوليين أمثالك أن البحر لم يجد علي سوى بجثث لغرقى مجهولي الهوية مشوهي الوجوه باستثناء واحدة وكانت الأخيرة وأتمنى أن تكون كذلك.. كانت لامرأة هيفاء.. كانت أجمل امرأة غريقة رأيتها في حياتي..
- أو كانت حورية؟.. (قال الشاب متحمسا).
- أو تؤمن أنت الآخر بالحوريات المالحات؟؟ (قال الراوي ساخرا)
- كيف تسألنا وأنت أعلم بأنفسنا من أنفسنا؟ (رد الشاب ساخرا)
- كانت غضة.. ناعمة.. وبيضاء مثل الثلج.. كانت غريقتي الفاتنة تضيء... وتوقف العجوز عن الحديث المملح بعد أن انفجرت موجة ثانية ثاقبة على بعد قاب قوسين من طلعته البهية، فصعقت وجهه المحروث بدبابيس رذاذها مركز الملوحة، فندت عنه زفرة وحسرة وكم تمنى من أعماق قلبه لو أنه تمكن من سرد أقصوصته الغالية من الألف حتى الياء وبمستوى تلك الحرارة والعاطفة الجياشة، لكن الموجة اللعينة وهي سليلة أمواج هذا الزمان كانت حريصة وبشكل متعمد على إطفاء تلك الشعلة الأخيرة، فأنسته ما تبقى من حكاية الغريقة الفاتنة، ويصمت العجوز ويصمت الشاب لكن البحر لم يصمت ولن يصمت بدى صاخبا منذ يوم أمس ومازال، يدون أحلام البحارة والحالمين بحبر الأخطبوط على صفحات هلامية ثم ينفيها إلى جزر قاحلة نائية.
قال البحر: نعتذر عن هذا العطب الفني المباغت نظرا لالتحام موجة سالبة بأخرى موجبة.
... وفي أتم سخائه كان البحر يقذف بأسماك هزيلة وأصداف خاوية داخل شباكهم المهترئة، وفي أحيان ليست بالقليلة كانوا يصادفون في شباكهم المعلبات الصدئة وزجاجات الجعة الفارغة وملابس داخلية نسائية بالية، وكذا خرقا تستعملها النساء الحائضات عليها بقع دماء فاسدة، وفي أحايين عدة كان الموج يمدنا ونحن صغار بألغام قديمة هائمة أو صاروخ نائم يعلوه الصدأ، فنجعل من هذه الخردة قوارب بخارية نعبر بها إلى الضفاف البعيدة..والبعيدة جدا!
• هبة مالحة:
قال الشاب للبحار القديم:
- احترس أيها العجوز.. أرى أن قصبتك قد تقوست.. أظن أن شيئا ما قد علق بصنارتك!!!
- أنت محق أيها الشاب.. فهذا الشيء العالق ثقيل جدا.. إنه يحدث دبدبات واهتزازات.. وحدها سمكة « الميرو » تصدر هذه الحركات.. أتمنى أن لا تكون جثة أخرى!
وطفى الجسم الغريب على وجه الماء.. كان بلون الفضة ويشوبه بعض الاحمرار.. طويل نسبيا.. مفلطح.. يشبه إلى حد ما بيضة ثعبان « الكوبرا » ، سرعان ما بدأ يبرق وبقوة تحت أشعة الشمس..
- إنها أغرب سمكة رأيتها في حياتي – قال العجوز مندهشا –
- أظن أن البحر قد توصل بأمنيتي.. إنه الكنز ولا شيء سوى الكنز أراهن على ذلك! (قال الشاب مصرا).
وقال الراوي:
- حدسي ينبئئي بأن هذا الشيء الغريب جسم ناسف!
خاتمة مملحة:
كنت على وشك نثر كلمات أختتم بها خرافتنا المملحة حينما تنصل القلم من بين أصابعي ونط بعيدا يسابق الرياح، فتناهى إلى مسامعي ذوي انفجار – بل شيء يشبه صوت انفجار
– هناك في الجهة الصخرية من البحر، حيث تقتنص الأحلام اقتناصا، أخذت قلما بديلا وفي نيتي تدوين الآتي: « وانفجرت موجة أخرى أكثر فراوة من سابقاتها محدثة صوتا يصم الآذان فأطاحت بالبحار العجوز ومرافقه الشاب من أعلى الصخرة، فغسلت جسديهما من أدران الهذيان » لكن القلم المارق كان سباقا... فقد سابق الرياح ثانية وأطاح بالقلم البديل، وخط الكلمات التالية: « وانفجر الجسم الغريب العالق بصنارة العجوز محدثا ذويا مرعبا.. وبعد أن انقشع الدخان كانت الصخور قد تخلصت من العالق والديدان وكذا طعم السمك العفن » وتطاير الرذاذ المالح في جو السماء فغسل وجهي وسائر جسدي وأتلف كل حرف وكلمة خطها القلم المارق.. أظنني قد غفرتها للشاب الحالم أو تظنون ذلك؟

أي رسالة أو تعليق؟

مراقبة استباقية

هذا المنتدى مراقب استباقياً: لن تظهر مشاركتك إلا بعد التصديق عليها من قبل أحد المدراء.

من أنت؟
مشاركتك

لإنشاء فقرات يكفي ترك سطور فارغة.

الأعلى