الثلاثاء ٣ تشرين الثاني (نوفمبر) ٢٠٠٩
بقلم عادل سالم

شعرة الموت

صرخت به صديقته عندما عاد إلى البيت:
 هل أحضرت الحليب والخبز؟
فرد عليها بغضب:
 لا لم أشتر شيئا. لا يوجد معي فلوس.
 ولماذا عدت إذن؟ هل تريد أن ترى الأولاد يموتون؟ أي أب أنت؟ أنت.....
قاطعها وقد غلبت إمارات الغضب على وجهه:
 إن لم تكفي سأحطم رأسك.
تحطم رأسي؟ هذا ما فلحت به؟ ماذا تريد مني؟
سكتت لثوان ثم قالت:
 إن كنت تفكر بذلك الشيء فعليك أن تعيد حساباتك....
غضب (جي بي) وخرج من البيت لاعنا صديقته وذلك اليوم الذي أنجبت له فيه أطفالا.
 من أين أحضر لها الطعام؟ لا يوجد معي فلوس.
الكلاب في قسم المساعدات الحكومية لم يدفعوا لنا هذا الشهر، طلبوا مني العمل....
هز رأسه ساخرا وتابع هلوساته:
 العمل؟! أين؟ كل المحلات التي ذهبت أبحث عن عمل بها رفضوني، طبعا لأنني أسود، والسود غير مرغوبين في شركات البيض إلا للأعمال الثقيلة والوسخة!!
ما الحل؟ وجدته، وجدت الحل.
فجأة بدأ يقهقه كأن كنزا هل عليه من السماء.
عاد إلى البيت، ودخل إلى غرفة النوم. وبعد لحظات خرج، سألته:
 إلى أين؟
 سأحضر لك الحليب الآن.

خرج وقد رسم في ذهنه طريقة إحضار الحليب. كان يمشي من شارع إلى آخر، وفي أحد الأزقة استدار يمينا، وشمالا، حتى تأكد أن أحدا لا يراقبه اقترب من سيارة مركونة إلى يمين الشارع، أخرج سلكا من جيبه وبخفة يد فتح الباب، لحظات كان قد فر بالسيارة إلى جهة مجهولة.

حماد رجل في الأربعين من عمره، يملك بقالة صغيرة في أحد أحياء مدينة نيويورك، حي مكتظ بالفقراء، واصحاب الدخل المحدود، ومعظمهم من السود ومن أصول لاتينية (نسبة لأمريكا اللاتينية. الوقت صباحا كان حماد وحيدا في محله، فهو في غير حاجة للعمال، العمل لا يستوعب الكثير من العمال. كان يحاسب الزبائن الذين يدخلون ما بين الفنية والأخرى، فهذا يشتري علبة بيبسي كولا، وذلك باكيت بطاطا، وذلك علبة بوظة، وآخر رغيف خبز. فجأة وبسرعة البرق دخل المحل فتى أسود شاهرا مسدسا صارخا بأعلى صوته:
 تقشيط (ستك أب)، هات كل الفلوس، لا تتحرك وإلا أطلقت النار.
ذعر حماد الذي هاله سرعة الفتى الأسود الذي تقنع بجراب للنساء على وجهه كي لا تلتقط كاميرا المراقبة صورته ولا يتعرف هو عليه.

قال حماد بعد أن رفع يديه:
 اوكي خذ كل الفلوس.
 كانت يداه ترتجفان، فلحظة التأرجح بين الحياة، والموت لحظة تاريخية يصعب وصفها، أو تصورها. فتح حماد الكاش رجستر حسب أوامر الفتى الأسود وأخرج كل الفلوس منها فقال له اللص ضعها كلها في الكيس، فوضعها، كان حماد حيران بين أن يشيح ببصره عن اللص كي لا يقتله، فاللصوص عادة إن شعروا أن الشخص الذي يسرقونه تعرف على وجوههم قتلوه، وإن توهموا أنه لن يعرفهم يتركونه، ولكن الخوف من أن يضغط اللص على الزناد كان الأقوى فظل حماد بطرف عينه يراقب حركة يد اللص.
وعندما انشغل اللص لثوان بكيس الفلوس لم يدر حماد كيف تجرأ وفر إلى مخزن المحل، وعاد ببندقته من نوع قاتل (شت جن)، وصوبها باتجاه اللص الأسود الذي شعر أن حلمه بالفلوس قد تبخر، فركع على ركبتيه على الأرض وصرخ يطلب الرحمة من حماد.
 أرجوك، أرجوك، لا تقتلني. أولادي يصرخون ليس عندي أكل لهم. أرجوك. .
لم يصدق حماد ما يجري أمامه. هذا اللص الذي كان قبل لحظات يريد قتله، ويصدر الأوامر إليه يركع الآن يطلب الرحمة.
 هل أقتله؟ هل أتصل بالشرطة؟
لا بد سيعود لينتقم مني؟
ربما كان صادقا. آه من الفقر والجوع، لقد جربته قبل أن أهاجر إلى هنا...
فقال له حماد:
 لماذا لم تشتغل؟
 لا أحد يشغلني، لقد طرقت كل الأبواب.
فقال له:
 قف، اذهب إلى هذا الرف، خذ بعض الخبز والحليب، خذ معك جالون حليب، ثم أخرج حماد من جيبه بيده اليسرى أربعين دولارا ورماها له على الأرض. وقال له:
 خذها وانصرف، لا تعد إلى هنا.
التقطها اللص وفر هاربا، غير مصدق أنه نجا من موت، أو سجن محقق.

بعد يومين، كان حماد في المحل يبيع بعض الأولاد بعض الحلويات، فدخل عليه فتى أسود، بملابس عادية، لم يبحث عن شيء وتوقف أمام حماد قائلا له:
 هل لي أن أسألك شيئا؟
 ماذا تريد؟
كان حماد قد اشتبه به، فقد تعود على كل حركات الزبائن ومحاولات بعضهم للسرقة.
 أريد أن أسألك ما دينك؟
استغرب حماد سؤاله، وقال له:
 ومالك بديني؟
 أريد أن التحق بذلك الدين.
ظنه حماد يريد أن يتقرب منه لعله يريد أن يطلب دينا، فقال له:
 هل تريد أن تصبح مسلما؟
 أأنت مسلم؟
 نعم، وأنت مسيحي؟
 لا لا دين لي.
 ولماذا تسألني؟
 ألا تعرفني؟
حاول حماد أن يتذكره، لم يدر بخلده أن أمامه ذلك اللص الذي جاء إلى المحل ليسطو عليه.
دقق النظر مرة أخرى، وقال له مندهشا:
 أنت ذلك.....؟
 أنا هو.
 وماذا تريد؟
 لا شيء، جئت أشكرك، فقد آنقذت أطفالي، وأنقذتني من السجن، وكان بإمكانك أن تقتلني، كنت طوال تلك المدة أفكر، ما الذي يدفع مثلك وقد كنت على وشك قتلك لو استطعت، أن تصفح عني وتقدم لي 40 دولارا وخبزا وحليبا إما إنك مجنون، أو .... لا أعرف.
هز حماد رأسه وقال:
 لقد تعلمت العفو، من سماحة الإسلام ومحبته.
 هل تقبلوني على دينكم؟
الدخول إلى الإسلام ليس مرهونا بموافقتي، إنه يعتمد عليك، هل تريد أن تتغير، هل أنت مستعد للإيمان الحقيقي؟ لترك المعصيات؟.....
قاطعه:
 أنا مستعد لكل ذلك.
 اذن ردد ورائي:
 أشهد أن لا إله إلا الله
وأشهد أن محمدا رسول الله.
بعد أن نطقها (جي بي) بلهجة غير واضحة، هجم عليه حماد وعانقه، كان (جي بي) يبكي غير مصدق: (هل أنا في حلم؟)
ربت حماد على كتفه، وقال له: اذهب الآن واسترح وسأراك الليلة في الجامع القريب لنتابع الحديث.


أي رسالة أو تعليق؟

مراقبة استباقية

هذا المنتدى مراقب استباقياً: لن تظهر مشاركتك إلا بعد التصديق عليها من قبل أحد المدراء.

من أنت؟
مشاركتك

لإنشاء فقرات يكفي ترك سطور فارغة.

الأعلى