الأربعاء ١١ تشرين الثاني (نوفمبر) ٢٠٠٩
بقلم مصطفى أدمين

رجلُ المعجزات

سائِقو (الطاكْسِيات) يحكون قصصاً أحيانا غريبة، وأحياناً مؤلِمة وأحياناً، مُضحِكة.

الأقصوصة التي بين يديْك، كتبتُها بمجرّد أن نزلتُ من أحَدِ (الطاكْسيات).

مكوّنُها الأساسُ هو "الحِوار" لأنّها نشأتْ من الحِوار الذي دار بيني وبين سائق (الطاكسي) خلال مدّة الرحلة التي لمْ تتعدَّ 5 دقائق. وأنا سأكتُبُها في 45 دقيقة على الأقل؛ وإنّي أفكِّر في إهدائها إلى روح الكاتب المصري العظيم "نجيب محفوظ" عن أقصوصتِه "حوار مع طِفلتي" حول مسألة الاعتقاد والاختلاف.

الأقصوصة:

اخترتُ كعُنوان لأقصوصتي هذه، رقم ذلك (الطاكسي)؛ 731؛ ولنْ أذكر المدينة التي أنا فيها لكيْ لا أكون السبب في إحراج ذلك السائق الطيِّب الذي أهداني (من حيث لا يدري) أقصوصة حياتِه؛ وكان في نيّتي أن أُعَنْوِنَها ب " صاحِبُ المُعجزات والمُنافق"، ولستُ أدري لماذا لمْ أحتفِظ بهذا العُنوان (؟).

في هذه اللحظة؛ هجمَ عليَّ سؤالٌ: لِمَنْ هي مِلكِيةُ هذه الأقصوصة؟ هل هي لي لأنني كتبتُها على الرغم من أنّني كتبتُ الحِوارَ الذي فيها كما سمعته من السائق؟ أم هي للسائق بما أنّه هو الذي حكاها لي من خلال حواره معي؟
أرى أنّها له ولي؛ وهي لي لأنني ساهمتُ في استدراجِه إلى الحكي بواسطة الحوار، ولأنّني أدخلتُ عليها بعض الوصف الضروري، ولأنني الكاتِب وما هو إلا القائل، ولأنّني أنا من جلسَ إلى الكمبيوتر لإخراجها إلى الوجود ( ! )
ثم وضعتُ سيجارة في فمي وما في نيّتي أنْ أحرقَها لأنّني مللتُ الحريق وأخافُ من النار.

ثمَّ مسحتُ بعينيَّ الفضاء الشاسع لعلّني أرى سيارة أجرة. فجاءت واحدة حمراء مثل حبّة طماطم أو تفاحة...
أمْ حبّة كرز؟ وتوقّفتْ. وعندما هممْتُ بالصعود إليها، قال لي السائق:

ـ أرجوك... التدخين ممنوع.
ـ هل رأيتَني أشعلتُ السيجارة؟
ضحِك.
ـ لو تعلمْ؛ أنا معجزة!
ـ كيف ذلك؟
ـ عمري 64 سنة ولم أدخن في حياتي قط.
ـ هذا من رضى الوالدَيْن ورضى الله. هل تقول لي في أيّ مدينة نشأتَ؟
ـ نشأتُ هنا، في هذه المدينة الكبيرة، لماذا هذا السؤال؟
ـ لا شيء؛ اعتقدتُ أنّك نشأتَ في قرية مَا دخلتْها عادة التدخين وتناول المخدّرات.
ـ بل نشأتُ وسط المدخنين والمخدَّرين ولكن الله حفظني منهم ومن عاداتهم السيئة.
ـ أنتَ محظوظ. قلتُ له.
ـ المعجزة هي أنني تزوجتُ باكرا.
ـ كيف ذلك؟
ـ رسبتُ في الدراسة سنة 1961 وأنا في قسم الشهادة الابتدائية، فقال لي والدي:(لن تنفع في الدراسة.) واصطحبَني إلى "البلاد" وزوجني وقال لي، والآن اهتم بالأرض! كان عمري آنذاك 16 سنة.
ضحكتُ وقلتُ له:
ـ إنّها فعلا لَمُعجزة. فقال:
ـ المُعجِزةُ هي أنّها أنجبتْ لي 8 أطفال وكلّهم بخير.
ـ هل هذا صحيح؟... يا الله كم أنتَ محْظوظ!
ـ والمُعجزة الحقيقية هي أننا ذهبنا إلى الحجّ في السنة الماضية بعدما حالـَفَنا الحظُّ في "القُرْعة"؟
ـ عن أية "قـُرعة" تتكلّم أيُها السيِّد؟
ـ أ ليس في علمِكَ؟ إنّ الذهابَ إلى الحجّ صار ب " القـُرعة "؟
ـ هل هذا معقول؟ أ ليسَ هذا الأمرُ مُخالفاً للشريعة؟... إنّه يُشبِهُ القـُمار.
ـ لا! لا! إنّه شيءٌ عادي لأنّ المُسلمين صارواْ كثيرين.
ـ... وماذا بعد؟
ـ حدثتْ معجزة كبيرة.
ـ وما هي؟
ـ كنتُ أقودُ زبونةً إلى أحدِ الفنادق الفاخرة في زحمة الطريق، فرنَّ محمولي ليقول لي:(ارجعْ بسرعة إلى بيتِك!) فكّرتُ في أن أحدَ أبنائي وقعتْ له حادثة... أوصلتُ الزبونة ورجعتُ مُسرعا إلى البيت، فوجدتُ ناساً كثيرين أمامه، ولمّا سألتُ ابني الذي خفتُ عليه؛ قال لي:(إنّها أمّي؛ لقد ماتتْ.)
ـ لا حول ولا قوّة إلا بالله... كنتُما ـ بلا شك ـ على عشرة طويلة.
ـ نعم! 42 سنة من الزواج والحب والإخلاص...
ـ ليرحمها الله بهذه المناسبة.
ـ هل تصدّق؟ إنّها معجزة، لأنّها ماتتْ وهي في كامل صحّتِها وكانتْ صباح مَوْتـِها تقولُ لي:(تهيأ للسفر إلى البلدة، فأنا مشتاقة إلى أكل الكُسْكُس الذي تعدّه والدتُك)... قلْ ! أ ليستْ معجزة أن تموت هي وتبقى والدتي حيّةً وعمرها شارف ال90 سنة؟
ـ والله إنها لَمُعجِزة!
ـ ولكنني بعد بضعة أشهر لا غيْر، حدثتْ لي مُعجِزةٌ أكبر من كلّ المُعجزات؟
ـ يا الله ما أعجبَك أيّها الرجلُ الطيّب! وما هي؟
ـ هي أنّني تزوّجتُ امرأةً أحسن منها.
هنا كِدتُ أن أصارحَهُ؛ ولكنّني لمْ أفعلْ لأنّني تشوّقتُ للمزيد من المعجزات؛ فقلتُ له:
ـ هذا ـ أيْضاً ـ من فضل الله، أنتَ ـ فعلا ـ رجلٌ مرْضِيٌّ؛ لكن أين التقيتَ بهذه المرأة؟ ولماذا هي أحسن من المرحومة زوجتك؟
ـ إنّه صديقٌ لي؛ تعارفنا في الحجّ ولمّا علِم بموتِ زوجتني، جاءني وقال لي:(عندي لكَ امرأة؛ بالله تزوّجها! إنها ابنة أخي ولم يسبق لها الزواج.)
ـ فماذا فعلتَ؟ قلتُ بخبث.
ـ تزوجتُها على الفور.
ـ ولماذا؟
ـ لأنّها صغيرة، عمُرها 28 سنة لا غير، وجميلة جدّا، وما زالتْ عزباء، وطيِّبة ومؤمنة جدّا... هل تعرف؟... إنّها تقومُ دوْماً لصلاة الفجر وتطعِمُني بيدها.
ـ امرأة طيّبة! لكن في أي مدينة نشأت وفي أيّ حيّ؟
ـ نشأت في مدينة مُراكش في حيٍّ يُسمّى (القاعة).
ولأنني ابنُ مراكش وأعرف هذا الحيّ... قلتُ له بشيءٍ من الحسْرة:
ـ وماذا بعد؟ فقال:
ـ لا شيء... إلا أنها طلبتْ منّي طلباً واحداً...
ـ طلبتْ منك أن تجعلها تنجب؛ أ ليسَ كذلك؟
ـ هذا ما حصلَ بالفعل؛ كيف عرفت؟
ـ هذا لا يهُم...هيه؛ وماذا فعلتَ؟
ـ قمتُ بواجبي... إلا أنها لمْ تنجِبْ، فذهبنا إلى الطبيب، فقال لنا:(إنها لن تستطيع الإنجاب بسبب كُرة في رحْمِها.)
فقلتُ له بمكر:
ـ لستُ أفهم... هل ابتلعتْ كُرةً وهذا ما تسبب لها في العُقم؟ فقال:
ـ لا!... إنّها كُرة سرطانية في رحمِها... وقال الطبيبُ بأنّ عليْنا استئصالُها ب 20.000 درهماً.
ـ وماذا فعلتَ؟
ـ قلتُ لها؛ أنا لا أتوفّر على هذا المال؛ فأخرجتْ دفترَ توفير وقالت:(لا عليك؛ أنا أتوفّر على 90.000 درهما.)
ـ هل سألتها من أيْن لها هذا المال؟
ـ طبْعا سألتُها، فقالتْ إنّه حصّتُها من الإرث الذي تركه والدُها.
ـ وهل سألتَها عن ثروة أبيها؟
ـ لا! لم أسالْ؛ لكنّني أذكر أن أحد المدعوين لحفل زواجنا، قال لي:(أبوها مات وهو لا يتوفر على ثمن كفنه.)
ـ وماذا بعد؟ قلتُ له:
ـ لا شيء... حدثتْ معجزة أخرى.
ـ وما هيَ؟
ـ المعجزة الأخرى هي أنّني رأيتُها قبل دقائق وهي تصعد إلى سيارة الطبيب...ربما سيعالجُها... أ ليس كذلك؟
ـ أوقفْ السيّارة هنا !...
ناولتُه 10 دراهم وقلتُ له بخبث:
ـ ماذا ستقول إن أنجبتْ زوجتُك؟ فردّ بفرح:
ـ آهْ! ستكون معجزة كبيرة جدّا.
...
استغرقتْ كتابةُ هذه الأقصوصة 56 دقيقة بالضبط.(!)
وتراجعتُ عن العنوان الرقمي؛ إذ رأيتُ أنّه من غير اللائق وسمُ الأدب بالأرقام، لأنّ الأرقامَ جافّةٌ ومن دون حياة
والأدبُ فيه شيءٌ كالدّم أو النُسْغ والحياة.
وزاد وقتُ الكتابة 20 دقيقة.

أي رسالة أو تعليق؟

مراقبة استباقية

هذا المنتدى مراقب استباقياً: لن تظهر مشاركتك إلا بعد التصديق عليها من قبل أحد المدراء.

من أنت؟
مشاركتك

لإنشاء فقرات يكفي ترك سطور فارغة.

الأعلى