الخميس ١٢ تشرين الثاني (نوفمبر) ٢٠٠٩
بقلم عطيات أبو العينين

القوقعـة

التفت حول نفسها، دفنت رأسها بين ذراعيها، تركت السنون بصماتها علي وجهها ورقبتها وكفيها المعروقتين، أما عيناها فربما أضيقتا بفعل السنين وبفعل النظارة السميكة التى تثبتها عليهما. ويبدو أنها ترتديها منذ سنوات طوال للهالات التي تركتها علي أرنبة أنفها وبين عينيها.

حذرني الجميع من الاقتراب منها وإلا ستنفجر كأنها قنبلة موقوتة. أخذت أسترق النظر إليها عن بعد. خيرا رفعت رأسها بعد أن ظلت منكفئة أكثر من ساعة على مكتبها لدرجة أني ظننتها والمكتب سواء، أو أن المكتب قد تحور إلى محارة تكورت داخله.

ذات يوم جاءت متأنقة على غير عادتها.. رحنا ننظر إليها، ثم إلى بعضنا بعضا في دهشة واستغراب، إلا أننى لمحت في عينيها نظرة تجمعت فيها كل لحظات الأسى والحزن في حياتها الماضية والمقبلة معا. مما زاد من دهشتنا.

عندما دقت الساعة الثانية قامت على الفور تجمع حاجياتها وتنصرف.. لم تتكلم، لم تبح بشيء، كتومة كعادتها.. تتحرك بحساب، تتنفس بحساب حتى خيل إلي أنها تعرف عدد اللقيمات التي تزدردها، وعدد الأنفاس التي تتنفسها.. هذه عادتها ولم نحاول أن نقتحم حياتها ونعرف ما يدور فيها.

في صباح اليوم التالي دخلت إلى مكتبي وكالعادة كانت هي أول من حضر ووقع في كشف الحضور. وجدت قطعتي شيكولاته علي مكتبي وعندما سألت أجابت في تحفظ:

 خطوبة ابني حسام ..
 ربنا يتمم بخير

رحنا جميعا نهنئها، ولا أدري لم شعرت أنها لم تكن سعيدة.. كنت آختلس إليها النظرات محاولة سبر أغوار بحرها الخضم، وكلما حاولت الغوص لا أجد إلا ظلمة القاع فأظل على الشاطئ.

عرفت من زميلاتي أنها ليست المرة الأولى التي يرتبط فيها حسام ابنها وفي كل مرة تبوء الزيجة بالفشل.

لدهشتنا وجدناها بعد أيام قلائل تدخل علينا بوجه مشرق وقد بدت أصغر من سنها، وعلمنا بعد ذلك أن هذا الزواج أيضا باء بالفشل.

اقتربت منها وكلي عزم وتصميم على تحطيم هذا الحصن الحصين الذي تختفي وراءه هذه المرأة، اكتشفت أننى لم أكن وحدى التي تسترق النظر إليها فقد كانت تسترق النظر إلي هي الأخرى.. طلبت مني أن تأتي لزيارتنا بالمنزل كانت مفاجأة لي أن تطلبني لابنها حسام..

لا تقولي عني أني مجنونة لكي أقبل زواجا بهذه الطريقة العجيبة، فأنا لم أر حساما هذا وما رأيته من أمه لا يبشر بخير، فكان شغفى لاقتحام حياة هذه المرأة وحصنها العتيد وراء قبولي الزواج من حسام.. وتزوجنا.. ولكننى بعد وقت قصير اكتشفت أنني داخل القوقعة، بل ومحاطة بقواقع أخرى أشد غموضا من قوقعتى. كانت حياتى معهما أصعب من أن أقودها وحدى.

لم يكن لي فيها حق القيادة.. بل الانقياد.. لم يكن زوجى لي.. استطعت أن أفهم ذلك منذ أول ليلة.. فليلة عرسي قضيتها في المستشفى على أثر نوبة قلبية حادة أصابتها وظللنا بجوارها.. عرفت أنها فقدت زوجها في سن مبكرة فكان حسام بالنسبة لها الابن والحبيب والزوج ومن الصعب بل من المستحيل أن تتركه لامرأة أخرى..

حاولت أن أكون لها الابنة البارة ولكنها كانت تشعر دائما أنني خصمها اللدود. منذ زواجنا المرض يشتد عليها، الأزمات تعصف بها.. حالتها الصحية تزداد سوءا.. وشعرت بالاختناق لم أعد أحتمل أكثر من ذلك.. لا يوجد سوى حل واحد.. وتركت البيت في هدوء..

لم تعترض هى ولم تحاول أن تصلح بيننا.. بل علمت أنها عوفيت واستردت صحتها بعد أن استعادت ابنها الوحيد من جديد.

تعسا لهذا الابن كم كان يتمنى أن يتخلص من هذا القيد، كم حلم بالحرية، ويالها من حرية، فمعناها الموت لأمه. ومن يتمن لأمه الموت من أجل حبها له. يشعر بوخز ضميره. فيعود منكسرا.

وفي الليلة التى راوده فيها هذا التفكير البغيض لم ينم.. أصر أن ينتظر موعد الدواء دخل غرفتها..حاول مداعبتها رفع صوته:

 أمي.. أما زلت نائمة؟

لم يأته الجواب.. رفع عنها الغطاء وجدها متقوقعة في فراشها وقد أحكمت الغطاء الصدفي عليها دون حراك. بكاها كثيرا... مرت أيام وشهور.. حاول أن يفعل كل ما تمناه من قبل. يمكنه الآن أن يبدأ من جديد.. فالفرصة سانحة الآن لكنه لم يستطع.. قررأن يقوم في اليوم التالي ويذهب إلى زوجته ويردها مرة أخري إلى عصمته.. كان سعيدا بهذا القرار.

دخل إلى صومعتها، اندس في فراشها، تقوقع في مكانها، أحكم عليه الغطاء الصدفي، ولم يبد أي حراك..


أي رسالة أو تعليق؟

مراقبة استباقية

هذا المنتدى مراقب استباقياً: لن تظهر مشاركتك إلا بعد التصديق عليها من قبل أحد المدراء.

من أنت؟
مشاركتك

لإنشاء فقرات يكفي ترك سطور فارغة.

الأعلى