الجمعة ١٨ كانون الأول (ديسمبر) ٢٠٠٩
بقلم نازك ضمرة

آيسكريم وتمر

يستمع محمود إلي ضربات أصابع حفيدته على البيانو وهي تتمرن على إعادة أداء الدرس الموسيقي الذي تعلمته يومها، ذكريات تتوارد إلي ذهن محمود وهو يستمع إلى ضبطها اللحن تارة، واللجاج فيه أحياناً، تفاصيل دقيقة خالدة لا تنمحي، لا يدري كيف عادت له، يتطور اللحن الذي تعزفه حفيدته ياسمين ويتصل بمقطوعة (هابي بيرث دي تو يو .. . سنة حلوة يا جميل) . تؤشر والدتها أي ابنتي متباهية معتزة بابنتها، لا بل يزداد نشاطها بالعمل في مطبخها غير الواسع، ويبدو رضا على وجهها وسعادة، منشرحة لا تستطيع أن تخفي بسمة، تحرك رأسها للأعلى وللأسفل بخفة سارحة الفكر وإعجاباً بأداء ياسمين، يعود محمود لوعيه ولحاضره، غربة فرضت عليه، ليست غربة لفقر أو شقاء، مطبوع على حب الأسفار والتجديد والاكتشاف، حملته الأسفار والطائرات والمغامرات إلى كل مكان في العالم، وفي الشهور الأخيرة يجد نفسه بين ذريته وأحفاده في أمريكا، التي أصبحت وطنا أصيلا وثابتا لهم. تستمر ابنته في تشجيع ياسمين على مواصلة العزف ثم تسألك:
 هل تشرب شيئا من العصير الطازج أو الكولا يا أبي؟ ثم أي ساعة تريد تناول طعام الغداء هذا اليوم؟ . . . غداؤهم هناك بين الرابعة والثامنة مساء كما جرت العادة، وحسب عودة الوالدين في ذلك اليوم للمنزل، ثم تواصل كلامها
 عليّ أن أعود إلى العمل في تمام الساعة الخامسة والنصف بعد ظهر هذا اليوم، وتجهيز الغداء يحتاج إلى نصف ساعة، ويلزمني نصف ساعة للراحة بعد الغداء، والطريق إلى العمل تحتاج حوالي نصف الساعة، إذاً فلا بد أن يكون وقت الغداء بين الثالثة والثالثة والنصف هذا اليوم. يرفع أحد الأطفال صوت التلفاز الذي يبث حلقة من مسلسل (زينــة)، المرأة الأمريكية متدفقة الجسم المكتمل، طويلة ذات شهامة وقوة وعضلات، تفتك بالرجال أو تفتنهم، بكل تلك الخصال الجميلة يكملها صدر مكوّر نافر، لاتملّ من تأمله، لا يستره إلا شريط رفيع من الجلد يغطي الحلمتين وجزءاً كبيراً من اللون الداكن حولهما، ويستر بعض أسفلها تنورة جلدية قصيرة تبدي فخذيها الفاتنتين المدورتين المصقولتين، مخلوق أنثى من غابة برية ذات خصب مترعة بالغذاء والهواء النقي، خارج التاريخ والجغرافيا، أو من عالم آخر لا نعرفه إلا في أمريكا.

تفوح رائحة البصل أثناء قليه شهياً، فتتوقف ياسمين عن العزف، يتلوها انبعاث نكهة اللحم الطازج، تقول في نفسك "الله الله اللحم، نحن أهل اللحم، مرحباً بهذه النكهة، شكر ابنته على جهودها، وإصرارها على متابعة دراسة ابنتها في مدارس خاصة ومعاهد موسيقى عالية الكلفة، ثم ترفع صوتك تخاطب ابنتك
 أحب طعامك الطازج، تسمع ابنتها حفيدتك الثانية نهاد ما قلته لوالدتها، تسألك بالإنجليزية عما قلت، لأنها لا تفهم العربية، تجيبها أنك تذكرت شيئاً مهما، تنظر نهاد لك بما ينم على عدم تصديقها، فتسأل والدتها بالإنجليزية
 ماذا يقول جدي يا أمي؟ تشاهد سنجابين متلاحقين يصعدان شجرة بلوط عالية الأغصان، كأنهما طيران. لم تقو عيناك على متابعتهما حيث اختفت معالمهما بين الأغصان الكثيفة.
 يقول أننا سنأكل البيتزا في المطعم غداً حتى لا ننشغل بتجهيز الطعام في المنزل يا نهاد. تتوقف ياسمين عن العزف وتقول
 أفضل طعامك يا أمي، فتتصدى شقيقتها نهاد والتي تصغرها
 نريد أن نأكل بيتزا مع جدّو محمود غداً يا نهاد؟ أريد بيتزا مع البيف والفطر وسأضع عليها الكثير من الجبن المبشور والزيتون الأسود.

اشتريت أنت ورفيقك يوسف ما يقارب العشرين حبة تمر بما يعادل عشر سنتات أو خمسة فلوس، تعودان لتأكلاها في غرفتكما القبو تحت درج العمارة الصغيرة مع الخبز الجاف لوجبة غداء في يوم بارد ، في رام الله أيام كنتما طلاباً عام 1952، يدخل الزوج الشره زوج ابنتك متفتح الأنفاس، لا يستطيع الصبر حتى يحهز الطبخ، يغرز الشوكة في قطعتي لحم من بيف تكساس ويبتلعهما دون انتظار أن تبردا، تمتد يده بعد ذلك إلى الثلاجة فيخرج علبة آيسكريم يتلهى بكيلو غرام كامل من الآيس كريم ومن العلبة مباشرة، ريثما تنتهي زوجته من الطبخ. اهتزت أغصان كثيرة على الشجرتين المقابلتين، الجدار المواجه كله من الزجاج، ترى الغابة الصغيرة أمامك على أوسع مدى، لكن نظراتك تقصر عن متابعة التفاصيل بين الأغصان، لا بد من إجراء ما كما قال لك طبيب العيون، الغلوكوما والعدسات، أولويات أخرى تشغلك عن إنفاق مبالغ كبيرة على عينيك، ما دمت تستطيع قيادة السيارة والقراءة بنظارة أو بدون نظارة ولو بصعوبة نوعا ما.

شره وسريع الهضم أبو ياسمين، لا يشكو تخمة من أي طعام، ويأكل بكثرة وتكراراً كل يوم، لا تصدق عينك ما ترى، تعود بالذكرى إلى صديقك يوسف، فتتذكر ماقلته له يومها حين عدتما لغريفتكما: "سوّد الله وجهك يا يوسف، أتسمي هذا تمراً؟ إنه حصى براكين فكيف سنمضغه؟ وهل سنقدر على ابتلاعه؟ كله وحدك إن كانت أسنانك سنجابية، أو تدفأ به إن استطعت أن تهضمه" فأسرع قائلاً: لا تقلق يا شاطر، ألا تذكر أن والدتك أرسلت لنا قليلاً من زيت الزيتون قبل أيام؟

سرعان ما بدأت طاولة السفرة تزدان بالأطباق، تتنعّم بمرأى الطعام الصحي أمامك، خضار متنوعة، رز سريع التجهيز دون زيوت ولا كولسترول، لحم دجاج أبيض، مقبلات وعصير فواكه طازجة، ثم حاوية كبيرة عميقة تحتوي على سلطة خضار مشكلة طازجة، وعلبة بها مكعبات ثلج لمن أراد أن يزيد من برودة عصيره أو المياه الغازية المتوفرة على أكثر من شكل وطعم.

يضحك يوسف من سذاجتك، يقول لك دع هذا الأمر لي، وستأكل أصابعك معه حين أجهزه وتشعر بالجوع، تهبّ نسمة هواء باردة وأنتما تقفان باب الدكان الذي وزن التمر لكما، تلملم أطراف معطفك القديم بأصابع يديك المتجمدة، انقطعت زران منه وبقي الثالث متراخياً، تخشى أن يتبع رفاقه هو الآخر، تتمنى كأسا حارة من الشاي شديد الحلاوة لحظتها مع قطعة خبز ولو يابسة، أسنانك قوية وسليمة أيامها، فلاح اعتاد على أكل والدته من اللبن والجبن والحليب والبيض البلدي، تقول أم ياسمين بصوت مرتفع
 هيا إلى الطعام.

ينتش زوج ابنتك نصف دجاجة من القدر، يضيف فوقها كومة من الرز، بجانب كومة كبرى من الخضار فوق طبق كبير، ثم نصف قارورة من سائل الفلفل الأحمر، ينعزل بعيداً على طاولة عالية خاصة يحب الجلوس حولها، يأكل بلا توقف، غمغم أنه ميت من الجوع.
يحمي يوسف قليلا من زيت الزيتون على موقد الكاز، يضع التمر الجاف فيه، ثم يغطيه لدقيقتين أو أكثر، يغرف بالملعقة سبع حبات يدفنها في رغيف حتى لا تبرد، ويبدأ بالمضع والبلع، يقول لك هيا تفضل وأطعم نفسك، وطلقات بذور التمر تندفع بقوة متلاحقة من فمه، لايحدث أحدا، يستيقظ غول الجوع جواك وقرص البرد، تفعل كما فعل يوسف وكأنك أخرجت من بئر عميقة مظلمة باردة لحظتها، تمتد يدك لإبريق الماء تحاول تبريد حرارة التمر وحلاوته، لكن الماء عادت لتلسعك ببرودتها، لكن لسانك كان قد اكتوى بحرارة التمر المقلي، فخففت جرعة الماء الباردة من حرقته، وأصبح ما ملأت به فمك قابلاً للبلع بل سهلاً، وينقطع كلامك أنت الآخر في ذلك الوقت البعيد مستمتعاً بما تحصل عليه من طعام حلو دافئ في يوم بارد، وبعد قليل تقول لابنتك ربة البيت، هل لديكم علاج يساعد على الهضم؟

يبدو أنني أكثرت من أكلكم يا ابنتي، لمحتها تنظر بطرف عينها إلى زوجها، تتفقد أكداس الطعام التي تلاشت من أمامه قبل ذلك، ازدادت ظلمة السماء، وتلبدت الغيوم، حاولت تأمل أشجار غابة البلوط حول بيت ابنتك، فلم تر إلا اختلاطها بالضباب المنخفص والغيوم، حاولت أن ترى ولو سنجاباً واحداً، يبحث عن حبة جوز، وما أكثره برياً في أرض أمريكا، لا يشبع السنجاب، ويكسر كل بندقة أو جوزة يجدها، وحين يشبع يدفن ما زاد في أي مكان، وأيام البرد والجفاف يعود للبحث عما أخفى دون يأس طول اليوم، انحدرت عيناك صوب العشب، فلاحظت عليه الخشوع والانكماش من البرد، تمنيت أن تأكل شيئاً حلواً يدفئك، لكن برودة العصير والثلج الذي خالطه زاد من إحساسك بالتخمة، كرهت التمر، وحتى لو وضع أمامك فلن تمسه بسوء، تقول ابنتك لا تنس تناول حبة تفاح أوموز أو برتقال يا أبي، فأجبتها، أتمنى لو أستطيع المشي لدقائق قليلة ولو عشراً، أو لو كنت في عمان، لخرجت لحديقتي أتفقد أشجارها، تسألني ابنتي أم ياسمين، ما رأيك في مغرفتي آيسكريم يا والدي، إنه يساعد على الهضم، لدينا أشكال كثيرة منه، قالت نهاد، أريده بالشوكولاته، وأما الموسيقار ياسمين فقالت أنا أحبه مشكلاً لكن بعد ساعة من انتهاء الطعام، فأجبت ام ياسمين، سأشرب فنجان قهوة ماكسويل ثقيل مع الآيسكريم حيث سأشارك ياسمين رغبتها، أبو ياسمين يلازم التلفاز، مندمج مع عالمه الخاص، يتابع برامج المجرمين والمدمنين والهاربين وكيف يتم السيطرة عليهم أو الإيقاع بهم للإمساك بهم من قبل الشرطة، لا يسمع ولا يدري بما يدور في البيت من حوار.


أي رسالة أو تعليق؟

مراقبة استباقية

هذا المنتدى مراقب استباقياً: لن تظهر مشاركتك إلا بعد التصديق عليها من قبل أحد المدراء.

من أنت؟
مشاركتك

لإنشاء فقرات يكفي ترك سطور فارغة.

الأعلى