الأربعاء ٢٣ كانون الأول (ديسمبر) ٢٠٠٩
بقلم محمد ربيع

قهوة الخرس

أمسك بمرفقي من الخلف، فاجأني تماما. واقف أنا على الرصيف أنتظر، ليأتي هذا فيضغط مرفقي و يطلب مساعدتي.

ألتفت لأجد رجلا سمينا أبيض البشرة، تغطي عينيه نظارة سوداء ستينية و وجهه متطلع إلى السماء. أعمى، كفيف، هذا أول انطباع، ثم أكتشف أنه سمين لدرجة التكور، كرة حية تتدحرج على قدمين، و لولا بياض بشرته المنير لظننت أني برفقة علاء و لي الدين.

طلب مني أن أعبر معه الشارع الواسع إلى خليفة اللبان، لما وصلنا إليه سلم هو على من بالمحل، فلوح احدهم بذراعيه علامة الملل، و لسان حال زميله يقول: فارقنا، أما الثالث فناوله كيسا من اللبن، لا يزيد ما فيه عن نصف كيلو، فاحتواه السمين بكفه و اختبر حجمه، ثم قلب شفتيه و قال"ماشي". و أخذني من ذراعي و خرج.
طلب أن يمر على عدد من بيوت الشارع، يقف أمام البيت قليلا و أنا معه، يستجدي الخارج و الداخل، و حارس البيت أو العمارة ينظر إليه بعين الغضب المكتوم. الناس يعطونه ما يطلب رحمة بي، أنا الذي تورط معه و استغل هو فراغي ليجعلني مطية له.

أمام آخر بيت، عنفه الحارس بصوت مرتفع، فرفع هذا صوته، رفيعا مهزوزا، كأنه صوت فتاة، يقول في غضب " أنا هاروح للناس الطيبين، أنا ماليش دعوة بيك، أنت واحد بواب حكير، إنما للبيت صاحب أشتكيك ليه"، صاحب هذا ظهور أحدهم خارجا من باب البيت، بصمت مد قبضته فلامس يد الأعمى نصف الممدودة أمامه، فورا سألني الأعمى بصوت عال مسموع للجميع " كام دول؟"، فأجبته" عشرين". فورا سرسع مرة أخرى، "أنا ليا كلام تاني مع صحاب البيت الطيبين، أنت راجل بواب على قد حالك، إيش فهمك انت في الكرم و الجود". و جمل أخرى بذات المعنى. تفاجئني ضربة مكتومة خفية في صدر الرجل، و صوته يقول "أي"، ثم أنظر الى شيء كرة ما تتدحرج بعيدا عنا على الأرض، بصلة حمراء.

جذبني من ذراعي و هو يقول " إجري يا عم دول عالم وسخة، مالقوش أرخص من البصلة يرموني بيها". كنت سأجيبه أن الحجر أرخص كثيرا، لكن قضاء الله كان خفيفا هذه المرة.

مشينا كثيرا، تارة يسألني عن عملي، أخرى عن اسمي و سكني. أجيبه بتحفظ فيحاول هو أن يقلب الجدية إلى مزاح. يرتجف هو من البرد، تصطك أسنانه على الرغم من الشحم المحيط به، يقول لي أنه يتمنى أن يجد "بالطو" على مقاسه، كل "البلاطي" ضيقة عليه، أو أنها خفيفه لا تحميه برد الشتاء.

يقول لي أن الله يرفع عنا العذاب بهذا البرد، يكفر عن بعض سيئاتنا، يعذبنا بالبرد في الدنيا حتى لا يعذبنا بالنار في الآخرة. أما هناك في روسيا، فالله خلق لهم الفودكا ليتدفؤا بشربها، إذا شرب الرجل كأسين من الفودكا ظل دافئا طوال الليل، لا يشعر بالبرد الروسي. أنظر إلى حكمة الله، يجعل من الخمر دواء للبرد، يعالج الروس برد دنياهم بالفودكا، لكنهم سيذوقون لهيب النار في الآخرة جزاء شربهم للفودكا.

أسمع أذان الفجر، هل مر كل هذا الوقت منذ أن رافقت الأعمى؟. يسألني، هل وصلنا لمحل خريستو؟ اقتربنا منه كثيرا، عشرة أمتار و نصل. حالما نصل يقف هو، يقول لي أرشدني إلى باب المحل المغلق، يخطو خطوتين إلى اليمين، يأمرني هو بالدخول. إلي أين؟ لا أرى شيئا، يأمرني بالتقدم قليلا لأرى ما يقصده، أتقدم فعلا و هو يمسك بذراعي، ألحظ فرجة مظلمة بين المبنيين، ضيقة جدا، مجرد فرجة بعرض شبرين، أضطر لدفعه أمامي، فالفرجة لا تتسع لكلينا.

يجلس هو مستندا بظهره إلى الحائط، يأمرني بالجلوس، أمر و ليس طلب. يقول أني تعبت كثيرا و لا بد من كوب ليمون ليرد جميلي. يخرج نقودا من جيبه و يعدها بحرص، عيناه تتجهان إلى حيث النقود، تتجهان إلي حين يخاطبني، و ليس كسائر أعين العُمي، تتيه و لا تستقر على مشهد. يقول لي أن المكان هنا هو قهوته المفضلة.

القهوة مجرد ممر بين مبنيين، في العمق و على يمين و يسار الممر أرى اتساعا في عرض الممر، فراغ على شكل نصف دائرة ضخمة، هذا هو المدخل الثانوي للمبنى، مدخلين متقابلين يكونان دائرة ضخمة، هذه هي القهوة. في الأعلى بقايا لأسياخ حديد تخرج من المبنى، تتلاقى بعشوائة لتكون سقفا حديديا فوق القهوة. يبدأ ضوء النهار في ملأ المكان.

يطلب هو شايا له و ليمونا لي، يبدأ هو بالترحيب بي في مقره، قهوة الخرس. حيث كل الزبائن صم بكم، القهوجي نفسه أصم أبكم، صاحب القهوة كذلك. أتسائل كيف عرف القهوجي ما طلبه "الأعمى"؟، ربما هو ليس بأصم، أبكم فقط. على أي حال، صممه لن يقف حائلا بينه و بين التخديم على زبائن بكم.

يقول "الأعمى" أنه زار كل مقاهي البلد، من الشرق الى الغرب، و من بحري إلى قبلي، لم يجد أفضل من هذا المقهى. الخصوصية المتمثلة في صمت المكان على الرغم من امتلائه نادره، لن تجدها إلا في "قهوة الخرس". يقول لي أنه جمع معلومات عن مقاهي البلد كلها، كتبها في أوراق لكي لا ينساها، بعض المقاهي يصفها في سطر أو اثنين، مقاهي أخرى يصفها في عدة صفحات. كان الأعمى قديما رجلا شهيرا بجولاته بحثا عن مقاهي البلاد، معاينا المقهى من الداخل، متذوقا ما يقدمه من مشروبات و دخان، متعرفا على العاملين بالمقهى و مصادقا صاحب المكان.

أتعرف نجيب محفوظ؟، سرق الرجل مني فكرة أحد كتبه، كنت قد حدثته عن مقاه مررت بها في العشرينييات و الثلاثينييات، مقاه شهيرة و أخرى مغمورة، غرز تقدم الحشيش، بوظات تنتشر في شبرا و روض الفرج، استخدمها هو بعد ذلك، أظهر البوظة مكانا يعج بالمخمورين و الفاسدين، كأنها ماخور لا يدخلها إلا من غضب عليه من شخصياته. بينما الحقيقة أنها كانت مكانا يجتمع فيه علية القوم، البوظة تقدم في أوان على شكل نصف دائرة، و ذلك لكي تستمتع برائحتها الخفيفة قبل أن يلمس السائل لسانك. بيضاء ذات قوام كثيف، لكي يظهر فيها أي قذى أو عيب، كذلك لكي تتحكم في السائل إذا ما أصابك سكر.

حدثته عن مقاهي الأكابر، و مقاهي القوادين، و مقاهي المشخصاتيه، و مقاهي السياسيين، و الوفديين، و الطلبة، و الصنايعية، و مروجي الحشيش، لكل طائفة مقهى. لكني لم أحدثه قط عن هذا المقهى، لذلك لم يذكره في أي من رواياته.

ثم وجدت كتابا يصف فيه المؤلف ما جمعته خلال ثمانين عاما من التجوال بين المقاهى، الرجل ظلمني ظلم بين. هو نجيب محفوظ لا شك في ذلك، لكنه تحايل على ما فعل فكتب على غلاف الكتاب "أحمد محفوظ"، لا أستطيع أن أقاضي نجيب أو أن أتهمه بالسرقة. كذلك ، لا وجود لشخص باسم أحمد محفوظ، و بالتالي لا أستطيع مقاضاة أي شخص. حتى الآن جهدي مسروق و منسوب للغير، لكني لا أستطيع عمل أي شيء. حرام و الله.

أدار القهوجي التلفزيون، مباراة بين منتخبنا و منتخب آخر. صيحات اعتراض تتصاعد من بين الجالسين المنتبهين للتلفزيون. يظلون هكذا حتى يغير إلى محطة فضائية أخرى، تعرض نفس المباراة. يتطوع الأعمى بالتفسير، هم لا يريدون مشاهدة تلك القناة، معلق تلك القناة تونسي ثرثار و صاحب صوت غاية في الإزعاج. بينما معلق هذه القناة مصري صميم، لهجته مفهومة مقبولة. هو ممل أيضا، لكن نصف العمى أفضل من كل العمى.

هدف يتبعه آخر، ثم تنتهي المباراة، ليقوم الخرس من على مقاعدهم، ضوضاء و صياح و كلام غير مفهوم، بعضهم يمسك بالطقاطيق الصغيرة الخاصة بالقهوة و يبدأ في التطبيل عليها بحماسة. مجرد ضربات و أصوات لا تحمل إيقاعا معينا، نشاز و صخب تطبيلي من أشخاص لا يسمعون، منفعلون من فرط الفرحة.

ينظر إليهم الأعمى و هو يضحك، يقول لي أنه يري هذا المشهد لأول مرة، مستمتع هو بالفوضى السارحة بينهم. يظهر القهوجي فجأة، بهدوء يمسك طقطوقة من يد أحدهم، يضعها على الأرض، يضع كفه على كتف الواقف، ثم يجلسه على الكرسي، يستجيب الأخرس و يجلس في هدوء. يكرر القهوجي فعله مع اثنين آخرين، فيجلس الجميع بشكل آلي. يغلق القهوجي التلفزيون، يبدأ الجميع في حوار بالأيدي و حركات الشفاة.

هناك في الزاوية، تجلس مجموعة تتحاور بالأيدي أيضا، خمسة يتكلمون سويا، لا أعرف من يسمع و من يتكلم، الجمل المشروحة بالأيدي قصيرة جدا، ستظن أنهم يتكلمون بلا انقطاع، لكنهم يتوقفون لفترة قصيرة بين كل جملة و الثانية، تانيتين أو ثلاث فقط. يقوم الأعمى قائلا أن المغرب أذن و يجب عليه السعي. يلبس نظارته السوداء و يمسك عصاه ثم يتحرك باتجاه الفرجة الضيقة. يظلم المكان، يبدو أنهم لا يستخدمون مصابيح هنا، نور الشارع يصل إلي من الفرجة الضيقة، و أنوار أخرى من الشبابيك حولنا، يبقى الظلام متغلبا على النور. في الركن ما زال الخمسة يتكلمون، ركنهم مظلم تماما، أرى التماعة ساعة أحدهم، بياض قميص الآخر، و أسمع ضحكات قصيرة تنبعث من بينهم، لكني لم أعد أرى أيا منهم.

يدخل رجل و امرأة محجبة، زوجان في الخمسينييات، يجلسان صامتين، يأتي القهوجي و بلا كلمات يضع أمامهما كوبين من الشاي، تشبك المرأة أصابع يديها و تنظر إلى الأرض، تتأمل تراب أرضية القهوة، بينما يعقد الرجل ساعديه ملتفتا إلى الناحية الأخرى، ينظر في الركن المظلم حيث الخمسة ما زالوا يتحدثون. تشير المرأه بسببابتها أن لا، ترفض ما حدث، تدير رأسها نافية، أو أنها رافضة. ما زالت تنظر إلى الأرض، تنفي الأمر بهز رأسها ، و تشير بإصبعها : لا، كأنها تشير إلى طفل صغير يجلس على الأرض، تمنعه من فعل شيء ما، أو أنها تشير إلى قطة جالسة. يزداد الأمر سوء، تضم شفتيها و تخرج صوتا: تؤ تؤ تؤ تؤ. عندها يلتفت الرجل إليها، يحتوي يدها في راحته، يضعها على الطقطوقة بينهما. و ينظر إلى الركن المظلم.

هناك يجلس سائح، يبدو ذلك من نوع ملابسه و لون عينيه. يقف القهوجي أمامه مشيرا بيده، سائلا ماذا سيشرب؟ يخبره أنه لا يريد شرابا، يبدو ان مشروباتنا لم تعجبه، لكنه يشير بيده، يريد شيشة، يضحك القهوجي و يشير بسبابته إلى الأرض، الآن؟ يومئ الأجنبي موافقا، يرفعان إبهاميهما علامة الاتفاق. يشعل الأجنبي سيجاره، دقيقة ثم يغادر القهوة.

يدخل الأعمى مرة أخرى، يقول لي أن اليوم كان منحوسا، جمع عشرة جنيهات فقط، فكة، فضة، مل هو القروش ذات الأصوات في جيبه، لكنه لا يستطيع الرفض. بعدما ظن أن الحكومة طبعت ربع الجنيه الورقي خصيصا لترفع من شأن الشحاذين، فهم أنها صكت الجنيه المعدني لتذل الناس جميعا. قلت له أن المعدن أفضل، لن يتقطع و لن يتآكل من العرق، ثقيل و يشعرك بقيمته بعكس الورقي، نظر إلي، سألني هل أقبل استبدال مائة جنيه معدني بورقة واحدة. طبعا أقبل، لكني لا املك ورقة واحدة الآن.

يدخل الأجنبي مرة أخرى، يحمل حقيبة بلاستيكية، مطبوع عليها ظل رجل انجليزي طويل، يمشي متباهيا، مباعدا ما بين ساقيه. أسمع صوت ارتطام الزجاج حينما يمر بجانبي، يجلس و يضع الحقيبة على الأرض. يقترب القهوجي منه و يسقط في جيب قميصه شيئا ما. يقوم الأجنبي فورا تاركا الحقيبة على الأرض.

يضربني الأعمى بمرفقه، "بص دي!". يشير إلى القهوجي، طالبا زجاجة عناب كاملة. يشير النادل لعينيه، هذه قهوة و ليست محلا للعصير، و لكن الأعمى عليه الإشارة فقط. يتجه القهوجي إلى النصبة المختفية بالداخل، يتبعه الأعمى برشاقة و هدوء بالغين. يتجه إلى الحقيبة البلاستيكية، يحملها بهدوء، يخرج بها مسرعا.

أفهم ما حدث أخيرا، أنا في موقف سيء جدا، فأنا الوحيد الذي دخلت مع الأعمى و حادثته، و حتما سيعود القهوجي بزجاجة العناب للأعمى، ليكتشف هروبه و اختفاء الحقيبة البلاستيكية. حتما سأكون محل شبهات، شريك الأعمى أنا في سرقته. يجب أن أرحل فورا، أحاول أن أقوم من مكاني لكني لا أستطيع، كسل لا مبرر له يصيبني، رغبة في أن أعرف ما سيحدث بعد دقائق، مغامرة جديدة. يقترب القهوجي مني و هو يحمل الزجاجة.


أي رسالة أو تعليق؟

مراقبة استباقية

هذا المنتدى مراقب استباقياً: لن تظهر مشاركتك إلا بعد التصديق عليها من قبل أحد المدراء.

من أنت؟
مشاركتك

لإنشاء فقرات يكفي ترك سطور فارغة.

الأعلى