الاثنين ٢٨ كانون الأول (ديسمبر) ٢٠٠٩
بقلم نازك ضمرة

رحلة طويلـــــــة

اليوم عيد! مضى عليه مائتان وواحد وأربعون يوما في بلاد الأنكل سام، وها هو اليوم يحاول تأمل حاضره مع الناس الذين حوله، ومراجعة ماضيه. ثمّ ماذا يعني عيد الأضحى بالنسبة له هناك؟

قال في نفسه، إذا لم تكن أنت نفسك مقتنعا بما تفعل، فكيف تتوقع الآخرين أن يقتنعوا بك أو بما تقدمه لهم؟ الساعة تقترب من الحادية عشرة صباحا، صحا متأخرا هذا اليوم، يصحو مبكرا في العادة، لكنه تقلب في الفراش طويلاً قبل مغادرته، يفكر في الأمور التى تجعله يغالب المرور البطيء للزمن، يعاتب نفسه ثانية حين استيقظ في السابعة صباحاً "يا إلهي! سهرت حتى الثالثة صباحا لكي أنام طويلا وبعمق، وحتى أصحو متأخراً كي يكون أغلب النهار قد مرّ، ظل يتقلب في الفراش، نظر الوقت، ما زالت الساعة العاشرة صباحا، والشمس تغيب قرب الثامنة مساء، معنى ذلك عشر ساعات على الأقل بقيت على عودة الليل ثانية… لو كان الأمر يوما أو يومين، أو حتى شهرا أو شهرين لهان الأمر، إنه
كمتهم واقع في مكيدة قانونية خطيرة، يفتقد أدلة البراءة، عليه أن يبقى قابعاً في الحجز ودون محاكمة، فلا هو عارف أنه بريء ولا هو محكوم عليه ليعرف مدة الحكم بحبسه، وليس ذلك فقط، بل كيف سيقضي فترة الحكم بالسجن؟

ما علينا قال لنفسه ثانية وثالثة، المهم أنه يريد أن يفكر كيف يقضي الوقت هذا اليوم حتى لا يحس الملل المهين مثل كل يوم. يصادف اليوم الأول لعيد الأضحى هنا في بلاد العم سام.!، "ماالذي يجب أن أفعله؟ لسنا في بيئة عربية نفعل كما هي العادة، يبدأ الرجل بزيارة بناته وأخواته ومن ينطبق عليهم صلة الرحم، ثم زيارة الكبار والمرضى من الأهل، فماذا علينا أن نفعل هاهنا؟"، لم يسمع أن أحدا من أنسبائه أخذ إجازة بمناسبة العيد، ولا عطلت امرأة من آله أولادها عن المدرسة، اتصل بببعضهم قبل قليل، فعرف أن الجميع مشغولون، وغير متواجدين في بيوتهم.

فراغ يشبه المتاهة وأسئلة كبيرة محيرة! تحس بضيق نفس، أو لنقل هو اختناق، وأنت في مثل هذا الأتساع ؟ وماذا لو كنت في بلدة عربية؟ ستفكر في أمور كثيرة منغصة، لكنك لست وحدك، إنه كل من عرفت في أي قرية أو مدينة، ربما كانت شكوى الريفي أقل حدة، بل شكاواه ذات طبيعة مختلفة، فيها قناعة ومحددة، لكنه الطموح أوالطمع أو الشكاوى بين أهل المدينة العربية، لا يسألون عن موسم الزيتون أو حصيلة القمح أو حليب البقرة كما هي حياة الفلاح، بل تفاصيل متطلبات العصر، يتوه بها العدّ ومن ضمنها تعدد أشكال الطعام وصنوفه، واللباس والفواتير الكثيرة والأمان والتحرر والاستثمار، والأحلام الواسعة بالأيام (الجميلة) التى تتوقع أن تقضيها في سنوات تقاعدك، وقبل موتك، فهل ستجد ما برأسك كما يروق لك؟ أو هل تملك أن ترى كل ما حولك بوضوح؟.. .

تنفذ خيوط نحيفة ضعيفة من أشعة الشمس من بين الشقوق التي في الستارة البلاستيكية المدلاّة على النافذة في غرفتك، أمور الحياة هنا متشابكة متلاحمة مثل ستارة غرفة نومك، الشرائح مرتبة ترتيبا دقيقا ومترابطة بخيوط لا تعلم قوتها من ضعفها، إن انقطع أحد الخيوط انفرطت كلها أو قلت جدواها، وما دام هناك أشعة شمس تستطيع النفاذ لغرفتك فقد صدق المتنبئ الجوي، قالوا ليلة الأمس أن الجو سيكون مشمسا ودافئا، ثم أضافوا (هنيئا لكم شمس نيسان اوالربيع والزهور، تمتعوا واملأوا صدوركم بالهواء المنعش، ومتعوا أنظاركم بمرأى الطيور والورود البرية، تنمو في كل مكان حولكم، بدلو ملابسكم واكشفوا الكثير من أبدانكم، وعرضوها للشمس وللأنسام الهادئة، تنشقوا الهواء العليل، أملأوا صدوركم به، وسيحوا وتنعموا في الأرض!، استمتعوا بجمال أجسادكم وبكل ما في الطبيعة من تناغم).

لم تتناول طعام الإفطار كالعادة يوم أمس، فكافأتك ربة البيت بغداء فخم، ساهمت في العمل وساعد ت، بل قمت أنت بإنضاج اللحم المشويّ على الفحم، كنت تحب مثل هذه الأمور في صباك، بل كنت المحترف والمشهود لك، «هل تذكر حين كنت تعزل قطعة لحم كبيرة سميكة من لم البقر في تكساس، كنت بكامل قواك الجسدية ونضجك، تختارها من محل الجزار ولو غلا ثمنها، لاتصدق نفسك الان! لم تكن لتقل عن الكيلو وزنا، قطعة واحدة تشويها على الفحم بعد أن يكتمل اشتعاله، ويبدأ الرماد الابيض يتراكم على أعلاه، وقتها تبدأ بوضعها على النار، تقربها من وسط النار لدقائق، ثم تعود لتبعدها عن البؤرة لدقائق أخرى، وهكذا حتى تنضج اللحم دون احتراق، ولا تنسى إضافة بعض البهارات والصلصات الخضرية تدهنها بها بين الحين والآخر، حتى تحميها من شدة الحرارة ولتضيف نكهة مميّزة لها».

تودّ هذه اللحظة لو تجلس في الفضاء الواسع المشرق، تخشى البرد، لا تحب البرد، ولا حتى الحرّ، تمتد يدك الى زر النور لتشعله، تتمنى أن تختطفك كهرمانة إلى تكساس أو عمان أو أي مكان، تجتاحك انتفاضة مزلزلة، مركز الزلزال في أعلى رأسك، لا تدري ماذا حصل لك، تتمنى لو تستطيع أن تطلب النجدة، أو لعل أحدا من أهل البيت يحضر ليراك، هل هي سكرات الموت، تحس بارتخاء وبرغبة في النوم والاسترخاء كأنه الدوار، تحملك أجنحة رقيقة قوية، تبعد شرائط الستارة وتنسل بك محلقة في الفضاء الرحب، أصبحت ترى وتحس ما يجري لك، إنها هي، كهرمانتك التى تمنيت، تأخذك الى مكان بعيد، يا ألهي تقترب بك من الشمس، تقول كعادتك:
 أكره الشمس ياسيدتي! أرجو أن لا تكوني من طائفة عبدة الشمس، أن كان ذلك فسأكون أشد البشر كفرا بكم وبمعتقداتكم، تلسعني برفق، يد تتحسس صدري بشيء من اللهفة، لكنه كأنه المساج، ما أوسع العالم الذي أنتقل أليه، ليتني أستطيع وصفه ، طلبت مني أن لا أخاف، وحتى أمارس الحياة بشكل طبيعي علي أن أجتاز أنبوبا طويلة للتكيف والفحوصات، قلت لها أنا لآ أحب الشمس ولا الظلام ولا الدكتاتورية ولا الجوع، لم يسعفني النطق لأقول لها أنني خائف ومن صحبتها ومن الفضاء الواسع حتى لو انه جميل، تصبرت وحاولت أن أكون صلبا وصامدا، قلت لنفسي «عانيت وتعذبت كثيرا في ما مضى من عمرك، فأضف هذه المرة للقائمة الطويلة»، تاه الزمان في رأس والمكان، كل شيء أصبح مختلفا بالنسبة لي وبلا حدود، لا أستطيع وصفه او تصوره، أفلاك تدور ودواليب متماسكة مترابطة، مياه تتجمع وأخرى تنزل، أناس يذوبون، وآخرون يتشكلون، كنت أتوقع دماء وأمراضا، لكنني لم أر شيئا منفراً في تلك الأجواء البعيدة، حتى أن أكل الناس هناك من الهواء، في عالمي لا يذبحون حيوانات ولا طيورا ولا يقتلون بشرا، لا أعداء ولا أحكام جائرة، وإذا أختلف اثنان يتصارعان حتى يذوبا، فلا يبقى أثر لأي منهما، لا غالب ولا مغلوب، لا تدري أيهما الظالم وأيهما المظلوم، وحين استفسرت عن ذلك قالت لي الحورية بحنان، وبصوت أنثوي موسيقي مفعم بالود والهناء، كدت أدوخ ثانية، ومشكلتي أنني لم يصدف أن قابلت ملاكاً، ولا أتوقع ذلك، ولم يصدف أن سمعت عزفا ملائكيا، لكن صوتها المصحوب بسمتها ونظرات عينيها الساحرتين يزيد من جمودي والخدران، ذكاء وأعماق ومغناطيسية تشع منهما، وحين اقتربت مني لتحادثني كالهمس، وقعت نظراتي على براءتها وصدرها وجسدها الذي انزلق عنه كل غطاء أو لباس، كنت سأسأل عن سبب ذاك العري الساحر، أوعلى الأقل فلتغط الكرتين النافرتين، قالت
 لا تقلق، دخلنا حدود عالمنا، وهكذا سترى الجميع، أخترتك أنت من دون البشر لترى عالمنا الذي تعودنا عليه، ولا نفكر بغيره بديلا.

أكملت حديثها الذي أحالني الى ركام بلا شكل ولا لون أو ربما بأحساس مضطرب كالمخدر، قالت:
 هل ما زلت تريد الاستفسار عن تطاير الشخصين اللذين كانا متصارعين مختلفين؟
هززت رأسي بلا وعي حقيقي، والصورة تزداد غموضا في عيني، بل صرت أفقد استقرار الصور أمام ناظري، كمن يفتقد نظارتيه اللتين اعتاد عليهما، أظهرت لها أنني فهمت ما أردت فقالت:
 عالمنا يعاقب المختلفين بعد أن ينهكا نفسيهما، فيزولان وينمحيان من هذا العالم الفسيح الذي ترى، فلا محاكمة ولا شهود ولا ظالم ولا مظلوم، هما يختلفان وهما يختصمان وهما ينتيهان.

كدت أن لاأسمع كلماتها الأخيرة، فقد أدخلت الى أنبوب الاختبار الطويل، حاولت التملص والمقاومة، لكن القرارات حازمة هناك ونهائية، وما إن أطل رأسي أذا بيد تتلمسه برفق، كدت أقابلها في الطريق بتقبيل تلك الأصابع، ولكن وجهها كان أقرب، فتحت عيني جيدا أتأمل ذلك الجمال الفاتن، وإذا بيد حفيدي تمتد بالهاتف النقال تناولني إياه طالبا مني الرد على المكالمة من عمان.


أي رسالة أو تعليق؟

مراقبة استباقية

هذا المنتدى مراقب استباقياً: لن تظهر مشاركتك إلا بعد التصديق عليها من قبل أحد المدراء.

من أنت؟
مشاركتك

لإنشاء فقرات يكفي ترك سطور فارغة.

الأعلى