الأربعاء ٦ كانون الثاني (يناير) ٢٠١٠
أصدقائي والحبّ
بقلم موسى إبراهيم

شادي

وعاشَ الحبٌّ أخيراً

بعد أن ملّ من حوله من فتيات وقرر أن يبحث من جديد عن شيء آخر يستحق الإهتمام، نظر من حوله فلم يرَ إلا علياء صديقته القديمة والتي تجمعه بها مشاعر الأخوة أيضاً، ناهيك عن انسجامهما الكبير في التفكير والتصرفات، صارحها بحالته وتعبه الشديد من وضعه العاطفي وفقده لحبيبة اختار القدر أن تبتعد عنه، حكى لها كل ما يجول في خاطره، فضفض بما يريد وما يشاء وما يشعر به، كانت تستمع إليه بصمت، تراقب حركات يديه، ملامح وجهه الشاحب، وبعد أن شعر بالإرتياح لمجرد أنه باح لها بكل شيء، سألته عن ميساء صديقتهم في المجموعة، فتردد بالإجابة وقال لها إنها ليست أكثر من صديقة، ولا يوجد مشاعر قد تربطهما معاً، قاطعته تؤكد له أن ميساء لا تشعر بذات الشعور، وأنه بالنسبة لها أمنية، كان يستمع لكلامها ويهز برأسه موافقاً أو مقراً بما تقول، لكنه لم يشعر بحاجته لحبّ ميساء، بعد حوار استمر ساعة ونصف، غادر الى موعد محاضرته القادمة، بينما هو ذاهب التفت إليها وطلب منها أن ترتب موعداً مع ميساء لمناقشة الموضوع، لم يبدُ على ملامحه الحب لكنه أراد أن يجبر نفسه عليه كي يخرج من خياله طيف حبيبته.

تحدث مع ميساء وكانت عيونها تبتسم باندفاع ومحبّة، بادرت بالحديث وسألته عن الدراسة وآخر الأخبار مع أنها دائماً متواجدة ضمن المجموعة، فكانت البداية ثقيلة جداً على قلبه، تتحدث بصوتٍ عالٍ، كثيرة الحديث عن نفسها والآخرين، شعر بأنه يريد المغادرة لكنه تذكر أن مهمته الآن نسيان حبيبته، مرت الأيام والشهور كالسنين على صاحبنا، وفي يومٍ كان مزاجه صعب جداً، قرر أن ينهي هذه القصة البلهاء، وبينما هي منهمكه بالحديث والكلام الكثير الكثير، فاجأها بطلبه الصاعق:

 (هلّــا تصمتين؟)
 ماذا..!
  أريدُكِ أن تصمتي.. لا أريد سماع صوتك.. في الواقع صوتك يزعجني.. يستفزني..
  حسناً.

جلسا على هذه الحال قرابة النصف ساعة دون أن ينبسا ببنت شفه، ولكنها لم تحتمل كل هذا الصمت فكسرت الحاجز واقتربت منه ثم همست:
  حبيبي.. أراك لاحقاً
  لا أريد رؤيتك.
  ستندم كثيراً..
  لا أعتقد..!

غادرت ميساء غاضبة جداً، كان لا بد لها أن تغادر بعد كلّ هذا التجريح والكمّ الهائل من الإهانات. كان قاسياً معها لكن قسوته لا تعني أكثر من اتخاذ قرار في علاقة لن تستمر بهذا الشكل ما دام الحب ليس رابطها الحقيقي، جلس صاحبنا مع نفسه يفكّر فيما حدث للتوّ، ما هو السبب الذي يدفعه لتكرار جرح الفتيات بهذا الشكل! ربما بحثه عن فتاة أحلامه، ربما عقله الباطني الذي يرفض امرأة عادية، لذا لم يطل التفكير حتى اتصل بصديقه وتواعدا أن يقضيا الليلة في أحد المقاهي ليتسامرا ويتبادلا أطراف الحديث.

بعد مرور أيام قليلة على هذه الحادثة، نظمت مجموعة الأصدقاء رحلة إلى أحد المناطق الأثرية، وكان هو ممن نظم الرحلة، كان من الجميل أن يقضي عطلة نهاية الأسبوع بعيداً عن جو المدينة المزدحم وهوائها الملوّث، لكن العائق كان انضمام ميساء إليهم بشكل لم يتوقعه الكثيرون منها بعد أن حدث بينها وبين صاحبنا ما حدث. عاد إلى المنزل يقلب الموضوع في رأسه، كيف سيتخلص من هذا الموقف المحرج، فخروجها معهم يعني جلوسه إلى جانبها أمام الجميع كي لا يحرجها، دخل المنزل وجلس مع أهله، كان متشتت الفكر بعض الشيء، بادرته والدته بالسؤال:
  ما بك يا شادي؟
  لا شيء أمي.. هناك رحلة نود تنظيمها وأنا فقط أفكر في بعض الأمور المتعلقة بها.
  حسناً، ومن سيخرج معكم؟
  هناك عصام صديقي.. وأحمد.. ورائد (عندما ذكر اسم صديقه رائد، خطرت في باله فكرة، فانتفض من مكانه قائلاً:
 أمّي.. هل تذهبين معي في هذه الرحلة؟
 لالا يا بني وما الذي سيجعلني أخرج معكم وأنا امرأة كبيرة في السن.
  لا.. صديقي رائد سيدعو والدته لتكون معنا كذلك، وهي فرصة لتتعرفي عليها.
  أمممم لا أعلم.. ما رأيك يا أبا خالد؟ (أدارت بوجهها إلى والده الحاج أبو خالد، فهزّ رأسه موافقاً بصمته المعهود)

فرح شادي كثيراً لهذا الخبر، وبهذا تخلص من مشكلة جلوسه بجانب ميساء طالما الوالدة هي من سترافقه.

وفي صباح موعد الرحلة كان ينتظر صاحبنا في البيت اتصال صديقه رائد كي يقلّه إلى مكان تجمع الأصدقاء، وفعلاً اتصل به رائد ومن خلال الحديث سأله:
  هل ستحضر صديقتك؟ (يقصد ميساء)
  نعم إنها معي الآن.. هيا تعال بسرعه أنتظرك أنا جاهز.
  حقاً.. هل الأمور على ما يرام؟
  نعم.. نعم.. هيا أنتظرك.

أنهى شادي المكالمة مبتسماً، وبعد دقائق وصل رائد بسيارته يرافق والدته أم رائد، نزل إليه شادي فاستقبله وتبادلا السلام، ثم تفاجأ رائد بظهور أم شادي! قال:
  شادي..! أين.. ممم
  هذه هي صديقتي وحبيبتي يا رائد وسترافقني طوال الرحلة.

نظر إليه رائد باستغراب رافعاً حاجبيه وبارماً شفتيه مع انتفاخهة فيهنّ عبّرت عن ردة فعله! لكنه فرح كثيراً بقدوم خالته أم شادي، فتح لها الباب وانطلق في طريقه إلى تجمّع الأصدقاء، وهناك كان صديقه أنس ينتظره مع صديقته وفتاة يبدو عليها الهدوء تقف بجوار أمل صديقة أنس، في هذه اللحظة لفت انتباه شادي وجود الفتاة الهادئة الحسناء، ولكنه كعادته أظهر عدم اكتراثه بوجودها، واستمر يتبادل السلام مع أصدقائه، صعد الجميع إلى الحالفة وأثناء ذلك أشار أنس إلى شادي وكأنه يطلب منه أن يحاول الجلوس مع صديقة أمل كي يتسنى له البقاء مع صديقته طوال الرحلة، كان طلباً صعباً في الحقيقة، لأن والدته تنتظره في المقعد الأمامي. تساءل شادي عن وجود ميساء، تلفت يمنة ويسرة فلم يجدها، سأل عنها المجموعة، فأجابوه بأنها اعتذرت لأسباب طارئة، كان هذا خبراً مفرحاً بالنسبة لصاحبنا فالآن يستطيع الإستمتاع بالرحلة دون خوف من شبح الإحراج.

بقيت لديه مشكلة صديقة أمل التي لا يعرف حتى ما اسمها، قرر أن يتحدث إليها مباشرة، مشى إلى حيث تجلس وطلب منها التحدث قليلاً، كانت ردة فعلها باردة تماماً ومع هذا فقد اشتعلت في شادي نار الفضول، شعر بأن من أمامه تختلف كثيراً عن من عرفهمنّ من قبل، أسلوبها الهادئ في الحديث، جمالها الرائع هدؤها الجذّاب، طريقة اختيارها للكلمات، جعلته يفكّر بأشياء بعيدة وهو يحدّق في عينيها.. فاجأه أنس بوغزة في ظهره، كأنه يطلب منه الإستعجال بإتمام المهمة، قال لها:

- هلّا تشرّفت باسمك سيّدتي؟

- حلا

- حلا...؟ الله اسمك جميل

- شكراً.

- حلا.. أنت تعلمين أن أمل وأنس أصدقاء أليس كذلك؟

- نعم.. ربما.. ممم نعم أعلم

- هل من اللائق أن يجلسا في رحلة جميلة كهذه منفصلين عن بعضهما؟

- ماذا تعني؟ (بدت وكأنها تستثقل نفسها عليهم)

- لا لم أقصد إلا أنه.. ممم.. هل تسمحين لي بالجلوس معك؟

تململت قليلاً حلا ولكنها بإيماءة لطيفة أجابت بالموافقة، جلس إلى جانبها شادي، وبدأ حديث هادئ يتعرف عليها بأسلوب أنيق، ما استغربه أنها كانت تجبره على التفكير كثيراً قبل أن ينطق بكلماته، وهذا ما لم يتعود عليه، جذبته بأسلوبها الراقي في الحديث، دعاها إلى المقعد الذي تجلس عليه والدته (التي اختارت رفيقتها بنفسها وهي أم رائد)، وقال لها:

- هذه أمي أعرفك عليها.

- حقاً..؟ أهلا بكِ خالتي.. كيف حالك.

أمّه بكل استغراب وحيرة من أمر مشاكسها شادي:

- أهلا بكِ حبيبتي.. كيف حالك؟

- بخير خالتي.. شكراً (كان خجلها ظاهراً في ارتجافة صوتها وهي تتحدث).

- أتمنى أن تستمتعي مع الجميع عزيزتي

- شكراً لكِ خالتي أتمنى..

إلى هنا والأمور تسير على ما يرام في ذهن شادي، رجعا إلى مقعديهما واكتفيا ببعض الحديث العام قبل أن تبدأ حفلة الطريق ورقصات الشباب والشابات، كان شادي مولع بالدبكة الشعبية، لذا قام وشارك الشباب الدبكة المصغّرة ولم تفته رقصات رعناء مع بعض الفتياة في المجموعة، كان يتصرف بعفوية ولم يلحظ أن حلا ممتعضة مما يحدث لكن صمتها وهدوءها رفضا إلا المداراة.

عاد ليجلس بجانبها لم تتحدث أبداً، استمرت صامته حتى وصلوا هدف الرحلة، كانت قد نسيت ما حدث في الحافلة لذا لم تعر الأمر انتباهاً كثيراً، كانت الرحلة جميلة، استمتع الجميع وتعارفوا على بعضهم وممن أصبحوا أصدقاء هما حلا وشادي، تبادلا أرقام الهواتف واتفقا على اللقاء دائماً عندما تسنح الفرصة لهم.

مرّت ساعات على انتهاء الرحلة، لم يستطع شادي أن يمنع نفسه من افتعال سبب أو حجة تمكنه من الإتصال بحلا.. حلا التي شدّته بكلّ تفاصيلها.. حلا التي دقّ قلبه تجاه حسنها وروعة أنوثتها.

اتصل بها بحجة الإطمئنان عليها، شكرته على سؤاله وتمنت له ليلة سعيدة، تبادلا السلام وانتهت مكالمة حملت بشادي إلى عالمٍ آخر، صوتها الناي، رقّتها وذوقها، فكرها الراقي وعقلها الرزين، الله..! كل شيء فيها يبدو رائعاً (همس لنفسه).

مرّت الأيام، والهاتف يستمع إلى حديثهما الجميل، بعيداً عن العاطفة كانا صديقين رائعين، متفاهمين، متحابّين ويشتركان بصفاتٍ عدة، أحسّ شادي بنبض قلبه يطلب حلا، وأحسّ كذلك بأنها هي فتاة عمره، لذا قرر أن يعبّر لها عن هذه المشاعر الجميلة بهدية في عيد ميلادها، فكّر كثيراً في ماهية هديته، شكلها لونها، أمضى الليلة وهو يفكّر:

(إن أحضرت هذه.. هل ستعجبها؟ لالا.. ماذا عن تلك؟!.. لا إنها لا تليق بها.. ممم يا الله ما هذه الحيرة، لم أكُن هكذا من قبل، لماذا يصعب عليَّ الآن حتى اختيار الهدية!!)

استمر على حالته هذه حتى غلبه النعاس، في الصباح الباكر، توجه إلى جامعتها يحمل كيساً موشوم بالألوان الجميلة الفاقعه، وبداخله صندوق صغير، اصطحب معه أنس وأمل معه كي يحتفلو بعيد ميلاد صغيرته حلا..

هناك التقا بها نظراته تبحث في سائر كيانها عن نفسه، عيونه تغرق في عيونها بودّ وحبّ تعجّبت منهما حلا، جلسا بتحدثان بينما أنس وصديقته يحضران العصير.

- كل عام وأنتِ بخير..

- وأنت بخير شكراً لك شادي.. (بابتسامة سحرته)

- كيف حالك..

- بخير.. وانت؟

- بخير.. ما هي أمنيتك في يومٍ كهذا اليوم يا حلا؟

- آه.. أتمنى أن أعيش بسعادة وأن أكمل دراستي على خير، لأتخرج وأعمل وأبني مستقبلي كالبقية.

- إن شاء الله.. اتمنى ذلك أيضاً.

صمتا قليلاً.. مع وصول أنس وأمل بالعصير، تحدثوا قليلاً، بينما شادي يعبث بهاتفه النقال، ولم يدرِ كيف وصل به المطاف لأن يشغّل أغنية ل(كاظم الساهر) تقول:

كل عامٍ.. وأنتِ حبيتبي

كلّ عامٍ.. وأنا حبيبك

آهٍ يا سيدتي.. لو كان الأمر بيدي

إذا لصنعت سنة لكِ وحدكٍ..

آهٍ.. آه.. آآآه

تفصلين أيامها كما تريدين

وتسندين ظهركِ على أسابيعها كما تريدين

وتتشمسين وترقصين

وتكتبين على رمال شهورها كما تريدين...!

كل عامٍ وأنتِ حبيبتي..

أقولها لكِ على طريقتي

رافضاً كل العبارات الكلاسيكية التي يرددها الرجال على مسامع النساء

كل عامٍ وأنتِ حبيتبي

تفاجأت حلا من اختياره الغريب لهذه الأغنية بالذات وفي مناسبةٍ كذه، لكنها كانت سعيدة في قرارة نفسها ومستمتعه بها، إنها تحبّ هذه الأغنية كثيراً، بعد قليل همّ شادي والتقط الكيس الجميل من جانب المقعد ثم فتحه ليظهر الصندوق مزخرفاً بزخارف إسلامية ومكتوبٌ عليه ( القرآن الكريم)، وعلى الصندوق كانت بطاقة بيضاء كتب عليها بلونٍ ورديّ:

(أحبيني.. بلا عقدِ.. وضيعي في حدود يدي.. أحبيني لأسبوعٍ.. لأيامٍ.. لساعاتٍ.. فلست أنا الذي يهتم بالأمدِ..أحبيني)

ذُهِلَت من جديدٍ حلا! ولكنها التزمت الصمت وقد ظهرت حمرة بلون الورد على خدّيها، استمتع الرفاق بجلستهم وتبادلوا الحديث بينما عيناه لا تغيب عنها، كانت في هذا اليوم كأميرةٍ من عالمٍ آخر..

انتهت المقابلة، سعدت حلا جداً بهدية شادي الرائعة في نظرها والتي تعبّر في مجتمعاتنا العربية عن الخير والطمأنينة، كانت فرحة كثيراً، وكان هو أسعد العالمين.

بعد أيام التقيا من جديد وهكذا بدأت قصّة حب من أروع القصص التي عاشها شادي، أحبها كثيراً وأحبته أكثر، كان يشعر أنها تعتني به أكثر من نفسها، تستفسر عن دراسته، صحته، أحوال أهله، كل شيء.. كل شيء.

اقتربت سنة شادي الأخيرة في الجامعة على الإنتهاء، كان منهمكاً بمشروع تخرجه ودروسه ومحاضراته، لكن حلا كانت دائماً عنوان أيامه ودقائق ساعاته الأولى.. أعلنت ادارة الجامعة عن موعد مناقشة المشاريع، اتصل بها وأخبرها بالموعد، فحزنت كثيراً كونها لن تستطيع أن تحضر مناقشته لأنه وفي نفس الموعد يصادف أن عليها اختبارين يجب ان تحضرهما بسبب أهميتهما، لم يشأ أن يبدِ لها استياءه لأن الموضوع يخصّ مصلحتها لذا شجعها ودفعها لأن تدرس وتجتهد كي يكون فخوراً بها.. جاء يوم المناقشة وأبلى شادي بلاءً حسناً، وبعد أن انتهت خرح ليجد والديه وإخوته بانتظاره يزفونه ويفرحون به، الأصدقاء من حوله يغنون له، صخب وفرح وسعادة.. كل هذا لم يؤثر في شادي كما أثر فيه أنه لمح عيني حلا من بعيد، نعم إنهنّ عيناها الجميلتين الهادئتين، رغم التعب الظاهر على وجهها، إلا أنه انطلق إليها بسرعة، وبنظراته الودودة الدافئة حيّاها وشكرها على باقة الورد التي تقبع بين يدين رضعيفتين من التعب.

- آه حبيبتي.. شكراً لكِ.. ولكنني أتساءل.. كيــ

(قاطعته)

- حبيبي.. انا بخير.. انهيت اختباراتي وبسرعة البرق قدمت إليك.. لم أجد الحافلة التي ستقلني إلى هنا بسهولة.. صدفةً مرّت بي مركبة صغيرة قادمة إلى الجامعة ويستقلها أهالي وطلاب حضروا هنا للسبب نفسه.

- آه منكِ يا شقية.. أنتِ رائعة.. رائعة..

- أنتَ روحي وعمري.. كيفَ لا أكون معك في هذه اللحظات الجميلة..

- يا الله كم أحبّك..

(همّ ليمسك بيدها.. لكن نداء والده له من بعيد أفسد عليه الموضوع.. فابتسمت حلا بحبّ وخجل.. وقالت:

- الحمد لله أنقظني ذاك الرجل !!

- ذاك الرجل والدي يا أميرتي..

- أووه.. أعتذر يا شادي.. لكن الحقّ عليك.. لم تخبرني بأنه هنا

- وهل بقي عقلٌ بعد أن رأيتك!

- أحبك.. هيا هيا لنذهب إليهم.

- حسناً.

تعرفت على والده وألقت تحية على أمه، بل وقبلتها بحرارة بدا من خلالها للوالدة أن الموضوع ليس فقط موضوع زمالة، أو صداقة، فنظرت إلى شادي وهزّت برأسها تخبره بأن سره انكشف لأمّه العجوز..

بعد ان أمّن عودة أهله إلى البيت بأمان، توجه مع حبيبة عمره إلى أقرب مقهى خارج الجامعة، كان فرحاً جداً، تكاد الفرحة تحلّق به إلى سماواتٍ علا.. وهي لم تسحب يدها من يده حتى وصلا المقهى، كانت أمسية رائعة قبل أن يقلها معه إلى مكانٍ قريبٍ على بيتها، تودعا على موعدٍ للقاء قريباً.

ومرّت أجمل أيام حياتهما معاً، روعة الغرام، نار الغيرة الممتعة، حب لأبعد الحدود، مشاعر فياضة بالصفاء والوفاء، كانت هذه الأيام بمثابة حلمٍ جميلٍ رسماه بالحب والعاطفة الجياشة، لا يتسع الكون بأسره لفرحتهما.

مرّ شهر على تخرّج شادي، وهو لا يزال يبحث عن وظيفة تملأ فراغه وتضعه على أول طريقه نحو حياة عملية ناجحة، مرّ شهران ولا جديد، بحث كثيراً عن عمل ولم يجد، جال في شوارع بلاده باحثاً عن لقمة عمل يكون بوابة السعادة لتكوين أسرة مع حبيبة عمره، لم يجد ملّ وتعب بعد أن مرّت شهور وهو على هذه الحال، ضاقت به الدنيا وملّ نفسه ومن حوله، تعبت نفسيته كثيراً، أصبح عصبياً كارهاً ورافضاً وحاقداً على ظروفه الصعبة، وانعكست هذه الحالة على علاقته بحلا، بدأ يهملها، يحاول الإبتعاد عنها لأنه اعتقد أن ارتباطه بها قد يؤذيها ويقف في وجه سعادتها مع آخر، ربما كان يريد الإنسحاب لأنه في تلك اللحظات لم يكن على وعيٍ تام بما يفعل، وفي إحدى الأيام كانا يتهاتفان وقد بدا على صوته مدى بؤسه وتشاؤمه، حتى أنه لم يداعبها بكلماته الشقية، لم يسأل عن أحوالها، اهماله المفاجئ بها دفعها للشكّ بأنه يريد إنهاء القصّة، واجهته وتساءلت عن سبب هذه التصرفات، كان يجيبها بضبابية وبأسلوبٍ غامضٍ، كثرت النقاشات بينهما، والإختلافات في وجهات النظر، آراؤه تتضارب وآراءها، أفكاره تغيّرت، سلوكه أصبح أكثر عدوانية، لم تستطع أن تتصول لما يغضبه دائماً منها، حاولت مراراً أن تواجهه لكنه كان دائم التهرّب حتى انفجر ذات يوم وصارحها قائلاً:

- حلا.. أنا لا أستطيع أن أعدك بالزواج والإرتباط الحقيقي حالياً، إنني متعب من كلّ شيءٍ حولي، بعد تخرّجي بشهورٍ عديدة وأنا أبحث عن عملٍ ولا جدوى، لا مستقبل قريب ينتظرني، فلماذا ترتبطين بمثلي؟

- لأنني أحبّك

- لا.. إن الحب لا يعني الإنتحار.

- الإنتحار في أن أتخلى عنك في مثل هذه الظروف.

لم يستجب شادي لنداء حبيبته، واستمر في عناده حتى جاء اليوم الذي يقرر فيه أن لا يرد على اتصالاتها، وأن يقاطعها عليها تنساه، مرّت أسابيع على هذه الحالة، مرض مرضاً شديداً لم يكن يقوى على الحركة ولا الكلام، وفي يومٍ من الأيام وبينما هو ممدد على فراش المرض، صرخ بأعلى صوته: (أريد حلا.. أريد أن أراها.. أرجوكم.. أرجوكم أريد حلا) اتصل بها وفاجأها بطلبه الغريب (أريدك أن تأتين لزيارتي في المنزل.. أرجوكِ.. أنا أعلم كم جرحتك وسببت لكِ التعاسة والألم لكنني متعبٌ أريدُكِ!)، تسلل الشكّ إلى قلب حلا، وتساءلت عن سبب تعبه ومرضه وضعف صوته، رجاها فقط أن تأتي لزيارته، كانت ترفض ذلك من منطلق العادات والتقاليد، كانت خائفة من زيارته، لكنها طمأنها وطلب من أمه أن تحادثها وتدعوها للمجيء مرحبٌ بها.

صباحاً، اتصل به تخبره بأنها في طريقها إلى المنزل، فرح كثيراً وردّت له روحه، بدا عليه الإبتهاج وقد أشرق وجهه ولمعت عيناه بالحب والإشتياق، ارتدى ملابسه بنشاطٍ ملحوظٍ، لاحظت ذلك والدته فاستفسرت (أنت مريضٍ يا بني!! إلى أين تذهب..؟) فأجابها (لأجلب حياتي من على رأس الشارع...) فهمت آنذاك أن مرضه ليس إلا العشق والشوق، استقبل حلا وقد تفاجأت هي أيضاً بتحسن حالته بهذا الشكل حتى راودها شعور بأنه خدعها، ولم تصدّق أنه كان مريضاً إلا بعد أن قابلت والدته فأخبرتها أنه بالفعل كان في حالةٍ يرثى لها منذ أسبوع، جلسا معاً وتحدّثا بكلّ الحبّ والسعادة، كان الشوق يجمعهما مع رشفات الشاي وضحكات حلا البريئة، بينما ابتسامات أم شادي تعطّر المكان..

تفاءل شادي من جديد عندما اتصلت به شركة تطلب مقابلته، وقد حصل أخيراً على الوظيفة المنشودة، رغم ضعف مرتبه إلا أنه كان سعيداً به، وقد بدا على ملامحه الأمل واضحاً، بعد أشهر قليلة جاءته فرصة إلى الخليج وبدأ بمعاملاته للسفر.

لم يكن قد اتخذ قراراً بعد بموضوعه مع حلا، كانت هي تعاني الأرق والشكّ بأنه سينهي العلاقة بعد ما رأته منه من قبل، لم يكن لقاؤهما من جديد أكثر من لمحة وفاء منه ومنها، لذا لم تعوّل كثيراً على ما قد يقرره شادي.

مساءً يتصل بها ويطلب منها أن يلتقيا في مكانٍ اعتادا على اللقاء فيه، أخبرها على الهاتف بأن الأمر هام جداً ومصيريّ، تساءلت بفضولها المعهود عن السبب، لكنه رفض اخبارها، وعندما التقيا في المقهى، قال لها:

  حلا، لقد كانت أياماً سعيدة تلك التي قضيناها معاً، أيام لا أستطيع نسيانها ما حييت، لقد منحتني الحبّ كلّه في وقتٍ كنت بحاجة إلى قطرة منه، لقد جعلتني أغيّر نظرتي نحو الحياة، نحو الحب والعلاقات.. أنتِ رائعة جداً.. لكن الظروف التي مررت بها كانت تبعدني عنكِ.. أنا أعلم كم هو صعب الفراق لكنها الأقدار يا حلا..

كانت الدمعة تكاد تقفز من عينيها وهي تحدّق في شفافه وعيونه تترقّب ساعة الصفر، تترقب لحظة النطق بحكم اعدامها حباً.. تستمع إليه دون رد.. دون كلمة.. فقط تشاهد تعابير وجهه وكفيه..

أكمل شادي حديثه:

- حلا.. إنه من المؤلم أن نحبّ كل هذا الوقت دون أمل! من المؤلم أن لا تنتهي قصة كقصتنا بالزواج والإرتباط الأبدي.. حلا.. أنا الآن أمامي خيارين.. إما أن أبقى معكِ على أمل أن تتحسّن ظرفي لأتمكن من الإرتباط بكِ وهذا يظلمك جداً، وإما أن ألتفت إلى عملي وأنساكِ وأنهي قصتنا بكلّ الحزن..

- نعم.. أكمل!

- لقد اخترت أن تكونين ملكة عمري المتبقي.. وأميرة أحلامي الأخيرة.. زوجتي وأمّاً لأولادي.. أنا أحبّك حدّ احتياجي للحياة!

لم تتمالك نفسها من أن تنهار بدموع الفرح! لم تستطع أن تظهر له مدى فرحها بهذا القرار، استأذنت منه للدخول إلى "التواليت" كي تصلح مكياجها. شادي ينتظر عودتها بفارغ الصبر.. بكثيرٍ من الحبّ والأمنيات.

جاءت وقد بدت على عينيها حرقة الدموع، قالت له: أتدري لمَ دخلت إلى هناك؟ قال: نعم لتصلحي المكياج!

- لا يا شادي.. دخلت إلى هناك كي أتصل بأختي وأخبرها بقرارك.. كي أستعين بخبرتها في الحياة ولكي تساعدني باتخاذ قراري..

- وماذا إذا..!

- أحبُّك..

استمرت العلاقة على أمل الإرتباط، سافر صاحبنا إلى عمله في الخليج، وعاش الحبّ بعد أن سقط الفقر وانهارت الظروف الصعبة أمامَ حبّ صاحبنا الجميل لحلاهُ الوفيّة.

وعاشَ الحبٌّ أخيراً

أي رسالة أو تعليق؟

مراقبة استباقية

هذا المنتدى مراقب استباقياً: لن تظهر مشاركتك إلا بعد التصديق عليها من قبل أحد المدراء.

من أنت؟
مشاركتك

لإنشاء فقرات يكفي ترك سطور فارغة.

الأعلى