الأحد ١ أيار (مايو) ٢٠٠٥
بقلم تيسير الناشف

الانفتاح الفكري وتحقيق التقدم

تعاني المجتمعات البشرية، بما فيها المجتمعات النامية، من قدر من جمود الفكر. وتختلف هذه المجتمعات بعضها عن بعض في مدى هذا الجمود. والمقصود بالجمود الفكري هو عدم الانفتاح الفكري او الانغلاق الفكري الذي هو عادة عقلية. من دلائل جمود الفكر ان يكون سلوك الفكر ضمن دائرة التصور الفكري المحدود المقيد، والا يتجاوز الفكر في علاقته بالمحيط الفكري الاجتماعي الذي حوله البدائل الفكرية المعروفة والمعهودة والمألوفة.

حتى يصبح الفكر منفتحا يجب ان يكون متفاعلا مع المحيط الفكري الاجتماعي بالمعنى الاوسع للعبارة. وحتى يوصف الفكر بانه متفاعل يجب ان يكون منفتحا. فاذا لم يكن منفتحا فهو ليس متفاعلا. وحتى يكون الفكر منفتحا يجب الا يكون منطويا منغلقا. فاذا انطوى او انغلق لم يعد متفاعلا.
ويتضمن التفاعل ان يكون من سمات الفكر انه ينطلق من افتراض نقص المعرفة المتوفرة ومن افتراض ان ما يعقله العقل او ما يعرفه الانسان ليس كاملا، وان زيادة المعرفة عن طريق التفاعل عملية مرضية نفسيا ومجزية علميا واجتماعيا. والتفاعل يتضمن ايضا ان يكون من سمات الفكر انه ينطلق من الاستعداد النفسي والفكري لعدم رفض الجديد لمجرد انه جديد ولمجرد انه لا يقع في دائرة معارفنا.

وتكتسب هذه الصفة الفكرية والنفسية عن طريق التنشئة والتربية والمثابرة على اكتسابها وممارستها وتطويرها واثرائها. ولان من الصعب اكتساب هذه الصفة بسرعة ودفعة واحدة فلا بد من ان يمضي وقت اطول لاكتسابها. ولا بد لذلك من ان يكون اكتسابها تدريجيا.

ولاكتساب هذه الصفة الفكرية تجب ازالة انماط التفكير التي تتناقض مع هذه الصفة. ومن انماط التفكير هذه التفكير غير المسائل وغير المتفحص، تفكير الشخص الراضي عن فكره والمكتفي والقانع به والمقتنع بصحته والمغرور به، والتفكير الذكوري الابوي )البطرياركي( الذي يسلب من الانسان استقلاله الفكري وفرديته وشخصيته والذي يجعل الانسان تابعا فكريا. والاتباع الفكري لا يتفق مع الانفتاح الفكري لانه لا تفاعل في حالة الاتباع. فالاتباع طريق واحد والتفاعل طريقان ذوا اتجاهين او طرق ذات اتجاهات.

ومما يحول دون تحقيق الانفتاح الفكري والتفاعل الفكري هو اداء الانغلاق الفكري لوظيفة الدفاع النفسي الاجتماعي عن الشخص المنغلق فكريا. فعن طريق هذا الانغلاق يصد الشخص المنغلق فكريا افكارا لعلها كانت ستبين خطأه لو لم يكن منغلقا فكريا.
وحتى يقل الانغلاق الفكري يجب ان يقل اللجوء اليه عن طريق تقليل الحاجة اليه. ومن شأن رفع المستوى الثقافي والعلمي للانسان ان يقلل الحاجة الى الانغلاق الفكري، اذ عن طريق رفع هذا المستوى تقل الافكار الخاطئة وبذلك تقل الحاجة الى استعمال آلية الانغلاق.

ومن شأن التنشئة على الانفتاح الفكري والتفاعل الفكري ان تؤدي الى تقليل الانغلاق الفكري. والتنشئة على الثقة بالذات وعلى ادراك تعدد مصادر الاعتبار للذات من شأنها ان تقلل ايضا الانغلاق الفكري. ومما من شأنه ان يقلل اللجوء الى الانغلاق الفكري وان يضعفه هو ان يعتبر الانسان التفاعل الفكري مكسبا فكريا ونفسيا واجتماعيا له وللشخص او الاشخاص الآخرين المتفاعلين، وان يعتبر ان الانجاز يتحقق اذا ادى ذلك التفاعل الفكري الى نتيجة مرضية فكريا للطرفين، وان الانغلاق الفكري لا يؤدي الى الرضى الذاتي لانه لم يتضمن رضى الطرفين. ومن شأن ذلك الاعتبار ان ينشأ بالتنشئة والتربية.

لقد نشأت ظروف كثيرة ادت الى تخلف كل المجتمعات البشرية والى ضعفها الاجتماعي والاقتصادي، وعلى وجه الخصوص مجتمعات البلدان النامية. ومن هذه الظروف بالنسبة الى هذه البلدان انعدام او قلة النقد واستعمار بعض الدول الأجنبية للعالم النامي وهيمنتها عليه وسلبها لموارده وثرواته. ومن تلك الظروف ايضا في حالة عدد من البلدان العربية الحكم العثماني الطويل الذي اضعف نمو النقد الفكري او قضى عليه والذي لم يعمل ما فيه الكفاية لنشر العلوم الحديثة في صفوف العرب. لقد اسهم الحكم العثماني اسهاما كبيرا في عزل العرب عن مفاهيم النهضة الحديثة، وكان ذلك احد الاسباب الرئيسية في بقاء كثيرين من العرب اسرى الجهل والامية.

ومما اضعفت النزعة النقدية عند العرب غلبة النظام الذكوري الابوي )البطرياركي( الذي كان سائدا في عهد الحكم العثماني وخلال السنين التي تلته والذي لا يزال سائدا في عدد من البلدان العربية. وشجع الحكم العثماني والدول الأجنبية، خدمة لمصالحها، النظام البطرياركي. ونظرا الى ان تلك الدول وذلك النظام لم يبغيا تغيير الحالة العربية المتردية ولانه كان في مصلحتهما ابقاء النظام الاجتماعي البطرياركي القائم، فقد كانا على وعي بمصالحهما المتبادلة في ابقاء ذلك النظام الاجتماعي القائم الذي كان من سماته الرئيسية الثني عن النقد.

وفي حالة الضعف العربي العام على المستوى الاجتماعي والسياسي والاقتصادي والفكري استطاعت جهات فاعلة استعمارية غربية ان تعمل معاول الهدم في الجسد العربي والنفس العربية. وعن طريق القوة العسكرية والاحتكار في مجالات تجارية عديدة والسيطرة الاقتصادية وانشاء وتفعيل المؤسسات التي تستلهم المصالح الغربية احدثت البلدان الاستعمارية الغربية الاختراق الثقافي التاريخي للعالم العربي. وتمثل هذا الاختراق في مظاهر كثيرة منها احلال لغات اوروبية محل اللغة العربية بوصفها لغة المكاتب الحكومية، واعتماد نظم التربية والتعليم الغربية التي لا تتفق جوانب منها مع الرؤى والطموحات العربية.

وكان ذلك الاختراق وما يزال السبب الاهم في انشطار الشخصية العربية بين التربية غير العلمانية والتربية العلمانية. ويشكل هذا الانشطار احد العوامل المسهمة في نشوء الحيرة الفكرية والشلل والاستقطاب الفكريين. وفي الحقيقة انه في كثير من مجالات الحياة العربية حدثت انقطاعات مفاجئة وحادة بين النظام الفكري الاجتماعي القيمي الذي كان سائدا والنظام الذي تبنته مؤسسات عربية او فرض على العرب ان يتبنوه. واهمال عدد كبير من المؤسسات التربوية والثقافية في الوطن العربي للتراث العربي الاسلامي على الرغم من الثروة العلمية الضخمة المشتملة فيه مثال ناصع على ذلك. وجاء هذا الانقطاع بحلول مؤسسات ومفاهيم غربية محل المؤسسات والمفاهيم العربية، او بطمس الاولى للاخيرة، او بتهميش الاولى للاخيرة، او بايجاد اتباع اكبر للاولى وابتعاد عن الاخيرة.

ان غلبة حضارة على حضارة اخرى قد تنطوي على اخطار على حياة وكيان الشعوب صاحبة الحضارة المغلوب على امرها. وفي سياق الغلبة الحضارية فان حالة الشعوب غير الغربية تختلف عن حالة الشعوب الغربية. ففي حالة التأثير الحضاري بين شعوب غربية - مثلا تأثير الثقافة البريطانية في الشعوب النوردية - لا تكون هذه الشعوب خائفة من هذا التأثير ومقاومة له مثل خوف شعوب غير اوروبية، وذلك بالنظر الى التشابه الحضاري والانتماء القاري الاوروبي. فبسبب ذلك التشابه والانتماء لا يحتمل ان يصل الامر بالسياسة الخارجية البريطانية - في حالة غلبة الثقافة البريطانية - الى تجويع الشعوب النوردية او قهرها. وعانت شعوب غير غربية من تجربتها للاستعمار الغربي الذي اسهم في تخلفها الحضاري والى قتل وذبح نسب كبيرة من هذه الشعوب، وذلك لاسباب منها عدم الانتماء الى نفس العرق والى نفس الحضارة والموقع الجغرافي. وقتل السلطات الايطالية لثلث سكان ليبيا وقتل السلطات الفرنسية لمليون جزائري مثالان ساطعان على ذلك.

ولا يفهم ولا ينبغي ان يفهم من كلامنا هذا ان كل جوانب المفاهيم والمؤسسات الغربية سيئة او طيبة او ان كل جوانب المفاهيم والمؤسسات العربية سيئة او طيبة. ولكن ما حدث وما يزال يحدث هو ان المفاهيم والمؤسسات الغربية بالحسن والسيء منها طمس مفاهيم ومؤسسات عربية بالحسن والسيء منها.

ان احد الاسئلة التي يجب ان يتناولها الذين لديهم القدرة على التناول هو هل يمكن نظريا تبني مجتمع من المجتمعات لجوانب ايجابية من مفهوم او مؤسسة دون تبني جوانب سلبية للمفهوم نفسه او للمؤسسة نفسها. واذا كان الجواب بالايجاب نظريا فهل يمكن ذلك عمليا في ظل الظروف الثقافية والاقتصادية والنفسية والتاريخية السائدة التي تتسم بتقليد كثيرين من العرب للغرب وبانبهارهم بحضارته حسنها وسيئها وبتلاشي شخصيتهم ازاءه وبضعف الدولة العربية والمجتمع العربي. ويتجلى هذا التلاشي فيما يتجلى فيه في الظاهرة البغيضة التي توجد في اجزاء من الوطن العربي وهي ان المبدع العربي - سواء كان شاعرا او ناثرا او ناقدا او قاصا او فيلسوفا او مفكرا او فنانا - احيانا كثيرة لا يلتفت اليه ويقر ويعتد بنتاجه الابداعي الا اذا اعترف غربيون بذلك.


أي رسالة أو تعليق؟

مراقبة استباقية

هذا المنتدى مراقب استباقياً: لن تظهر مشاركتك إلا بعد التصديق عليها من قبل أحد المدراء.

من أنت؟
مشاركتك

لإنشاء فقرات يكفي ترك سطور فارغة.

الأعلى