الخميس ٤ شباط (فبراير) ٢٠١٠
بقلم غزالة الزهراء

الطائر الجريح 

كان“مراد” طالبا نجيبا، متفوقا في جميع المواد، وحظي بقدر كاف من الحب، والإعجاب، والاحترام من قبل أصدقائه، وأساتذته، فهو طيب القلب، مرهف الحس، مسالم، خلوق، لا يعرف المقت والحسد البغيض سبيلا إليه، يهب لإغاثة غيره قدر المستطاع، ودون تردد، يواسي المنكوب الذي سطت عليه يد الزمن الغادر، ويمسح دمعة اليتامى بما ورثه من كلام طيب يتغلغل من غير مشقة في حنايا الروح، إنه يسارع دائما وأبدا إلى فعل الخيرات دون أن ينتظر المقابل من أحد. 

“مراد” وحيد والديه، أنجباه بعد عسر انتظار حتى كاد اليأس يتغلب عليهما، وينهك روحيهما، ويحطم أبهى حلم وردي يرقبانه بفارغ صبرهما.

ولد في أجواء تتراقص بالبهجة والمسرات، وتهاطلت عليه هدايا لا يمكن الاستهانة بها من كل حدب وصوب.
قالت الجارة “فريدة” لوالدته: أطال الله في عمره، وسيكون الولد البار بإذن الله.

وأردفت أخرى هاتفة بصوتها المريح: ليكن من الذرية الصالحة.

وتدخلت أخرى بقولها: ترينه رجلا صالحا بإذن الله. 

حين انصرفت الزائرات إلى شأنهن حملته والدته بين ذراعيها وهي تهتف به مفتخرة، مطمئنة: يا وحيدي الحبيب، يا فلذة كبدي أدفئك بحناني الوهاج طيلة العمر، وأمدك لبني الصافي المنعش ليغذيك وينميك، وألفك لفا بين ثنايا الحرير حرصا مني على بهائك، وجاذبيتك، أنت جزء مني لا ينفصم، أنت روحي، ودنياي بكل ما تزخر من حب، ولهفة، وشوق، عطفي الفياض يسقي بقطراته الصافية ظمأك الملتهب، ونصائحي الوفيرة، القيمة تقويك لتصير رجلا كاملا ناضجا. 

قبل أن يدق الجرس بقليل يلقي“مراد” النكتة الطريفة على مسامع أصدقائه، وصديقاته، ينفجرون ضحكا، ويثملون بالأنس والابتهاج. 

دلف أستاذ الفلسفة إلى القسم وابتسامته المشعة تسبقه إلى مكتبه، وضع محفظته في مكانها الآمن، وأخرج أدواته، ثم انطلق سائلا إياهم: من يذكرني بالدرس الماضي؟

أنا.

أنا سيدي.

أنا، أنا.

ـــ أنا يا سيدي.

قاطعهم أستاذهم المحترم بصوته الرزين: لا أحبذ كلمة أنا، اكتفوا فقط برفع الأصابع ليعم الهدوء داخل الصف، و....
ماكاد الأستاذ يتمم نصيحته الهادفة حتى سقط “مراد” من كرسيه، وضج صارخا: آي، رأسي يؤلمني، رأسي يؤلمني، الألم الصاعق ينهش رأسي، الألم الصاعق ينهش رأسي. 

كان يضغط على رأسه بكل ما أوتي من قوة كأنما يخاف عليه من انفجار مروع.

سادت جو القسم بلبلة عنيفة اهتز على إثرها الطلاب والطالبات، إنهم مذعورون عن آخرهم، يرمقونه بأعين مشدوهة تملأها ينابيع الرأفة والانعطاف. 

قالت “سميحة” لزميلتها وهي ترتعد كأنها أمام فوهة مدفع مريع: المنظر رهيب جدا، لا أتمالك نفسي، أكاد أسقط.
قالت أخرى ودمع سخي من عينيها ينهمر بلا هوادة: أظن أنه مسكون بالجن والشياطين.

وانبثق صوت آخر يرتجف في هلع: من الأفضل أن يعرض نفسه على راق شرعي متمكن لمعالجته مما هو فيه.
ورد آخر: كلامك في محله، إنه عين الصواب. 

غاب “مراد” عن المدرسة مدة طويلة، وانتشر الخبر المشؤوم مفاده بأن الطب الحديث اكتشف ورما خبيثا، إنه في رأس“مراد”.


أي رسالة أو تعليق؟

مراقبة استباقية

هذا المنتدى مراقب استباقياً: لن تظهر مشاركتك إلا بعد التصديق عليها من قبل أحد المدراء.

من أنت؟
مشاركتك

لإنشاء فقرات يكفي ترك سطور فارغة.

الأعلى