السبت ٦ آذار (مارس) ٢٠١٠
بقلم سهاد جادري

النزعة الاجتماعیة في شعر أبي القاسم الشابي

أثر: سهاد جادری
طالبة فی قسم الدکتوراه للادب العربی فی جامعة آزاد الاسلامیة فرع علوم تحقیقات طهران
الاستاذ المشرف :الدکتور سید أمیر محمود أنوار
الاستاذ المساعد:الدکتور محمود شکیب

المقدمة:

یدور موضوع المقال حول النزعة الاجتماعیة في شعر الشابّی. تحدثنا ابتداءا ً و باختصار عن حیاة شاعرنا الأدیب المبدع. و مما لا شک فیه أنّه أدیب و شاعر ذو ثقافة واسعة و إحساس مرهف، تأثر في شعره بوضوح بالمذهب الرومانطیقین لا سیمّا الفرنسی منه.

بعد ذلک أشرنا إلی النزعة الاجتماعیة في شعره من خلال نماذج شعریة ظهر فیها هذا الاتجاه، مشتملة ً علی عناوین من هذا النّمط الشعري الحدیث في الأدب العربي نحو: دور الأم و مشاعرها في الحیاة، «و الطفل و الطفولة» و «المرأة» کما لم نغفل عن موهبته الدینیة و دور أسرته في تکوین شخصیته و توسیع آفاقها.
و في الختام قـُمنا بدراسة وجیزة لقصیدته «إرادة الحیاة» منوّهین إلی «حب الوطن» فیها.

حیاته و ثقافته

ولد محمد الشابی والد الشاعر سنة 1879 وفي سنة 1900 ذهب إلی مصر وهو في الثانیة و العشرین من عمره لیتلقی العلم في الجامع الأزهر في القاهرة و سکن في مصر سبع سنوات عاد بعدها إلی تونس یحمل إجازة الأزهر ثـُمَّ أنّه التحق بعد عودته من الأزهربجامع الزیتونة بحیث درس عامین نال في نهایتها إجازة التطویع و هي شهادة نهایة الدروس في الزیتونة، و في تلک السنة یبدو أن الشیخ محمد الشابی کان قد تزوج إثررجوعه من مصر ثـُمَّ رزق إبنه البکر اَبا القاسم الشابی شاعرنا قبل أن ینال شهادة التطویع.
 [1]

ولد أبو القاسم الشابی یوم الأربعاء في الثالث من شهر صفر سنة 1327هـ و المواقف للرابع والعشرین من شباط عام 1909في بلدة توزر، ثم عني الوالد بتعلیم إبنه في البیت.
 [2]

و في سنة 1920م التحق بجامع الزیتونة فأتقن القرآن و العربیة و تمرس بالأدب و کان له میل شدید إلی المطالعة، فحصل بها و بنشاطة علی ثقافة واسعة جمع ما بین التراث العربی القدیم و معطیات الفکر و الحدیث و الأدب الحدیث.
 [3]

و ذکرزکی أبو شادی أن الشابي کان فاشلا ً في زواجه و أنّه قد أقنع بضرورة الزواج إرضاءً لأبیة ثـُمَّ رزق من زواجه ولدین.
 [4]

حینَ بلغ الطفل الخامسة من عمره أرسله أبوه إلی الکتّاب في بلد قابس ثـُمَّ أنّه کان یحضر حلقات دروس علماء البلدة و غذ ّی مواهبه بأدب النهضة في مصر و لبنان و العراق و سوریة و المهجر، کما نمّی طاقاته الأدبیة الشعریة بمطالعة ما ترجم إلی العربیة من آداب الغرب، و لا سیمّا أدب الرومانطیقیة الفرنسیّة، و قد ظهر نبوغة الشعریّ و هو في الخامسة عشرة من
عمره و علی أثر تخرجه من جامع الزیتونیة التحق بکلیة الحقوق التونسیة، و کان تخرجه منها سنة 1930م، و في هذه الأثناء توّفي والده ترک له عبء الحیاة، ثقیلا ً فحاول أن ینهض بالعبءِ و مسؤولیة العائلة، ولکنه أصیب بداء تضخّم القلب.

و هوفي الثانیة و العشرین من عمره نهاه الأطباء عن الإرهاق الفکری و لکنه واصل عمله و في نفسه ثورة علی الحیاة، و في قلبه تجهمّ قتّال و في صیف 1934 م جمع دیوانه «أغانی الحیاة»، و نوی أن یطبعه في مصر، ولکنّ الداء اشتدّ به و ألزمه الفراش، فنُقل إلی المستشفی الإیطالي بالعاصمة حیث فارق الحیاة في التاسع من شهر تشرین الأول سنة 1934م، و نقل جثمانه إلی مسقط رأسه و دفن في الشّابیة.

أدبه:

لشعر الشابّی مراحل من حیث الرّوح و الوحي تتجلـّی فیها نزعاته الکبری و محطـّات اختلاجاته النفسیة و العاطفیة، و هذه المراحل لیست في الدیوان واضحة المعالم، بیّنه الحدود. إنّها متداخلة تداخلا ً زمنیا ً و إن کانت في موضوعها و فنّها ذات صبغةٍ خاصّة، و ذات امتدادات و آفاق خاصّة.

 آلف) مرحلة الأدب الأندلسی و المهجری: عندما تفتحت قریحة الشاعرو راح یجاری الأندلسیین في طریقة نظمهم و في أسالیب تصوّرهم للحیاة، ثمّ في نهج الزخرفة و التنمیق، حتّی لکأنّ شعره من شعرهم، و صیاغته من صیاغهم قال یصف جمیلا ً و یصف حاله معه:

رُبَّ ظبـــيّ ٍ عَـلِقـتـُهُ
بالبَهَـا قـد تقـرطـَقَــا
ثمّ من وصلِهِ الجمیل
غَـدا الـقـلبُ مُملقـَــا
سحـر اللـُّبَّ طـَرفـُهُ
مادَها الریقَ لوَرَقي
صــارَ مُلقــی بحُبّه
مُوثقـا ً لیس مطلَقـَـا
 [5]

یستقی الوحي في شعره من تصنیعات الدندلسیین. ولکنّ هذا التلمّس لم یدم طویلا ً. فقد ترامت إلیه أخبار أدباء المهجر فأطلـّع علی آثارهم و لاسیمّا آثار جبران خلیل جبران، و فعلت في نفسه ثورتهم الاجتماعیة و تطلـّعاتهم المستقبلیة، و حرّک أوتارشاعریة أسلوبهم الجدید في الکتابة و الشعر فأراد أن ینهج منهجهم في النوعیة، و أراد أن یسلک مسلکهم في الأدب. فنزع نزعة صوفیة وراقیة، و فتح نوافذ نفسیة علی الإنسانیة المعذّبة، و راح یهاجم المجتمع المتحجّر و یدعوا إلی التجدید في الحیاة.

 ب) مرحلة الرومنطیقیة الأدبیة: و إلی الجانب التأثر المهجری نجد تأثیرا ً آخر کان له في شعر الشابي أصداء بعیدة ألا و هو شعر الرومانطیقیة الأوربیة الحافل بالألم و القلق. الذکریات و الحنین المتدفـّق حزنا ً و فرحا ً، الغارق في خضم من التأمل. و في هذه المرحلة من حیاة الشابي الشعریة نلمس نفسا ً جیّاشة العواطف و تحاول أن تجمع ما بین العواطف الجبرانیة و اللـّین الرومنطیقي، فتنطلق في معاني الکآبة و الحزن لاحدَّ له، و یذهب في تفهّم الحیاة المذاهب المختلفة تختلج فیها الثورة و الیأس، و الألم، والشابّي بدا عمیق النظرة بعید عن الرؤیا، وافرالإنسانیة، فیّاض القریحة.
 [6]

قد یقول عمر فروخ عن حال الشابی بعد موت أبیه کأنّه مکسور الجناح مثقلا ً بأعباء الحیاة، یظهر ذلک کلـّه في قصیدة «یا موت» التي رثی بها أباه:
یا موتُ قد مزقتَ صدری
و قضمت بالأزراء ظهری
و فجعـتنـی في مـن أحـبّ
و مــن إلیــه أَبــتُّ ســـري
ورزأتنـــی في عـمــدتــي
و مشــورتي في کـل أمـــر
(1974، ص100)

النزعة الاجتماعیة عند أبی القاسم الشابي:

أبو القاسم الشابی شاعر موهوب رقیق العاطفة، شفاف الحس، صادق الإیمان، اعتبر أحد الزعماء المجد دین في الشعر العربي الحدیث في تونس، و من المؤمنین بتحریر الشعر العربي من طرق قدیمة. نزع النزعة الرومانسیة في لغة صافیة شفافة، فیها براعة الصیاغة و حسن التحلیل، امتاز في جنوحه إلی الرّمز، و البحث عن المجهول، و الهروب من الواقع إلی الطبیعة و الخیال، و الأفکار الإنسانیة و المثالیة، و التمسک بالجمال و القوة و الخیر، عالج في موضوعاته فلسفة البؤس و الشقاء و المآلم و الحزن و الحب و الحیاة و القوة و الثورة، فکان إنسانا ً ثائرا ً علی کل قیود عصره في الشعر و الحیاة و المجتمع و السیاسة ظهرت عبقریته و هو علی مقاعد الدراسة.
و نشرت له صحف تونسیة انتاجا ً شعریا ً و لفت إلیه الأنظار، في مدة وجیزة ً، و نشرت له «مجلة أبولو» المصریة التي حملت لواء التجدید في الشعر العربي، مجموعة من أشعاره لنغمة جدیدة و فنـّه الحدیث المبتکر.
عشق الحیاة و الإنسان من أهم الموضوعات الاجتماعیة في شعر الشابي حول قضایا بلاده و هموم المجتمع الذی یعیش فیه الشاعر و یقول إنّ الداء في کلّ الداء المعبر لا في روح الشعب.
 [7]

کان الشابي في شعره الاجتماعي أصدق الناس عاطفة، و من أخلصهم شعورا ً بالمسؤولیة الاجتماعیة، و قد وعي أن بیئته مریضة یسیطر علیها الجهل و الفقر و تتنازعها السیاسات الاستعماریة و القوی المتحجرة التی تحالف الاستعمار أو استخدام لها، فراح یعمل علی إیقاظ الضمائر، بالمحاضرات، تأسیس النوادي، و نشر الکلمة المسؤولة، إنّه لم یکن رجل سیاسة یتطلب الدنیا التونسیة، و زلزل أرکانها، بل کان رجل العقل الذي یبصر الحقیقة، لقد أطلق صوته تسمعه الآذان و قد ذکر الکثیرون هذه الآراء الجدیدة و الجریئة و نکره الکثیر.
(الفاخوری، حنا، ج4، 1991م، صص704 و 705)
و عندما أخفق في مسعاه ارتدّ علی شعبه کالعاصفة الهوجاء و قال:

أیُّّهــا الـشّــعـبُ کـُنـتُ حطـّـــابــا ً
فأهــوی عـلی الجذوع بفأســي
لیتنی کُنتُ کالســیول، إذا ســالت
تهُــدُّ القبـــــورَ رمســـا ً یَـرمـس
لیت لي قوّة العواصف، یا شـعبي
فـــألقي إلیـــک ثــــورة نفســي
لیت لــي قـوّة الأعاصـیـر... لکن
أنت حیُّ یقضی الحیاة بَرمـس!
 [8]

و کانت تونس هاجسه في نهاره و لیله، یرید لوطنه العزّة و الترقّي، و یرید فیه تحریر الشعب و المرأة کما یرید تحریر العقول و النفوس. ألم تکن تونس ملء عین التاریخ؟! ألم یکن تاریخها حافلا ً بالمجد و الرقي منذ أقدم العصور؟ ألم یقم فیها أمثال أوغسطنیوس و ابن خلدون و ابن منظور؟ إنها تونس الجمال، و تونس العلم و الفن و القیادة!
ماذا حلّ بها، من أین تسرّب إلیها الخمول و الرکود؟! و ها هوذا الشاعر یقف علی أطلال هذا المجد الغابر و في قلبه لوعة و في نفسه أمل.

أنا یـا تـونس الجمیلة فـي لجٍّ
الهوى قـد سَــبَحت أي ســـباحه
سرعتی حبُّک العمیقُ و إنـّي
قـد تـذوَّقــــتُ مُــرّة و قـراحـــــة
لبســتُ الضــاع للواحي و لـو
متُّ و قامَت علی شبابی المناحَـه
إنَّ ذا عصـرُ ظلمةٍ غــیر أنّی
مـن وراء الظلام شــمت صباحـه
 [9]

و لو أننا تناولنا مفهوم الشعر عند الشابي لوجدناه یقول: «الشعر تصویر و تعبیر، تصویر لهذه الحیاة التي تمرّ حوالیک مغنیة، ضاحکة، لاهیة أو مقطبة واجمة باکیة أو وادعة حالمة راضیة أو مجدفة ثائرة ساخطة، و تعبیر عن تلک الصور بأسلوب فنّي جمیل ملؤه القوة و الحیاة»
 [10]
و هذا الذی قاله الشابي إنّما هو- و تکاد تکون بعض الکلمات واحدة و رسالة الشاعر عند الشابي هي نفسها التي نادی بها شعراء المهجر: فالشاعر نبي له رسالة تنزلت علیه من عالم الروح و علیه أن یذیعها في الناس جمیلة رائعة طاهرة، یجد فیها المؤمن مراحه من عناد الحیاة، ملاذة من عنت الدهر، و یجد فیها المشارکة النفسیّة الدقیقیة لما یعتمل في نفوسهم، و تجیش به صدورهم من عواطف و أحاسیس.
 [11]

حقیقة أنّ الـشابی تأثـّر بشعـراء الـمهجر في تجویدهم للموسیقي الـشعـریة و نظام الـقصیدة و
الصورالشعریة و الألفاظ و أسلوب الشعر بوجه عام، أمّا أسلوب الشّابي من الناحیة الفنیة فهو متصنع في أکثر مواطنه کثیر الزخارف و التهاویل و الطلاء.
 [12]

1- النزعة الأولی في الاجتماع: «الأم»

قلب الأم

یا أیّها الطفل الذي قد کان کاللـّحن الجمیل

و الوردة البیضاء، تعبق في غیابات الأصیل

یا أیّها الطفل الذي قد کان في هذا الوجود

فرحا ً، یناجي فتنة الدنیا بمعسول النّشید

هنا یصف الشاعر لنا الطفل عندما یبکي بلحن ٍ جمیل و کل ما یحتاجه أو یشعر به ینقل إلی الأم بلحن ٍ خاص و هذا الطفل مثل وردة بیضاء في وقت أفول الشمس یقرعون له لکی ینام أو یحتاج إلی الراحة و السلامة التي تداریه الأم إلی الصباح و في حالة ثانیة یقول بأحلی نشیده یناجی فتنة الدنیا بفرح ٍ و سرور ٍ الذي کان ما بین الکائنات و الموجودات.

و مضت بروحک للسماء عرائس النّورالحبیب

یحملن تیجـانا ً مُـذهـبة ً، مـن الــزَهـرالغـریب.

و هنا یصوّر الملائکة التي تنزل في روح الطفل شبه العرائس التي تتکون من نور سماوي یحملن قطعا ً من الذهب و فیهنّ أزهار ملوّنة من أنحاء العالم.
 [13]

إنّ الحیاة و قد قضیت قـُبیل معـرفة الحیــاة

بحرٌ قرارتُهُ الرّدی، و نشیدُ لجته، شـکــاة

و علی شواطئه ٍ الـقلوب تئن، دامیة عُــراة

بحرٌ تجیشُ به العواطفُ في العشیّة و الغداة

یصوّر الشاعر الحیاة تصویرا ً دقیقا ً و یقول الإنسان لما عُرف الحیاة علیه أن یغوص أو یتعمّق و یمرّ من ناحیة الهلاک و یتحمّل کل الشکایات و المسؤولیات العظیمة حتی یعرف ما تقول الحیاة في هذا البحر تکون العواطف جیاشة لیل و نهار و علی سواحله القلوب تمیل إلی البعض واحدة ً تداوی جروح الآخرین. و علی الإنسان أن یجرّب کلّ الأمور و من خلال أحداث الحیاة و یذوقها لکي یکون محنکا ً أو صاحب تجربة.

في لجّة الغابات، فی صوتِ الرّعود القاصفة

في نـُغیَة الجمل الودیع، و في أناشید الرُّعاة

یقول هنا إنّ الأم في زمن الولادة أو الحمل صوتها مثل صوت الرعود من المطر الذي یسقی بعمقها و هذا الصوت یشبه الرعاة التي تنطبق أصواتها إلی الحیوانات لکي تمشي علی مسیرها الخاص و یدور من خلال فواصل البعیدة.
 [14]

بین الـمروج الخُضـر و السَّفـح المجلل بالنبات
في آهة الشاکي، و ضوضاء الجموع الصاخبة
في شـهـقة البـاکي یـؤجـِّجُهــا نُـواحُ الـنــادبَة
في کلّ أصوات الوجود: طتروبها و کئیبها
و رخیمها و عَنیفها، و بغیضها، و حبیبُها
 
...
في رقص اَمواج البحیرة تحت أضواء النجوم

یصف الأم التي تلد الطفل بالمطر الذي یعشّب الأرض و صفحة خضراء بأنواع النباتات و الآهات التي تشتکي منها بین جمیع الناس و تحدثُ الضوضاء بصوتها العالي یؤدی التحیة لها النواح بکلّ الأصوات الموجودة من الفرح و السرور إلی الحزن و البکاء و یصوّر لنا الحیاة بهاتین الحالتین في حین الولادة ثـُمَّ هناک یدخل في الطبیعة بما فیها من أحداث هي صورة من رومانطیقیة الشاعر التي توصل الحب بالطبیعة مباشرة ً.
 [15]

2- النزعة الثانیة في الاجتماع: (المرأة)

کانت المرأة نعیم الشابّی و جحیمه فغنّی لها في کلّ مراحل حیاته و إذا کنّا قد ذکرنا شیئا ً عن زواجه في تلک المقدمة، فسندرس في ما یلي حبّه خارج إطار العلاقة الزوجیة. فقد انقسم الناس حول حبّ الشابی قسمین: أحدهما یری أن الشاعر یصف في غزله نساء من عالم الواقع، دعاه إلی وصفهنَّ میله إلیهنَّ في وقت کانت فیه نفسه منصرفه إلی الحیاة، و کان یتمتع بصحـّة و نشاط، أو کان في هدنة مع مرضه أما الفریق الآخر، فیری أنّ الشابي خلق لنفسه مثالا ً للمرأة و راح یتحدث إلیه، ملقیا ً علیه من خیاله الشيء الکثیر.

إنَّ الشابی أحب رفیقة طفولته، و تغنّي بحبها حبّا ً عذریا ً خاصا ً. ثمّ ماتت تلک الحبیبة و هما في سن المراهقة، و ماتت و ترکته یندب الحبّ و یرثیها، إذ بقیت في نفسه حاضرة، و قد جاء هذا الشعر عذریا ً عند الشابّي، في مستهلّ صباه، و ذلک قبل أن یبلغ العشرین من عمره، کما جاء ضعیف الأسلوب بالمقارنة مع شعره الذي جاء فیما بعد، و کان یسیطر هذا الشعر لون من الحزن و الکآبة و الحنین:

ماتَ من تهوی! و هذا اللـّحد و قد ضَمَّ الحبیب،

فَابکِ، یا قـلبُ، بمـا فیک من الـحـزن الـمذیب
 [16]

أمّا الطور الثاني فقد أحبّ الشاعر حبّا ً صریحا ً مادّیا ً و أحبَّ نساءً بعینهنَّ. ذلک أن الشاعر نضج باکرا ً و انتقل في بیئة منفتحة، بعیدة کلّ البعد عن الرقابة، و ملیئة بالمغریات. فساهم ذلک في إذکاء الجانب الغریزی في نفسه فقصیدته «صلوات في هیکل الحبّ» لا یمکن إلاّ أن تکون في فتاة بعینها حیث یقول عنه:

کلـّما أبصَرتکِ عینایَ، تمشیـ
ـــنَ بخطــو ٍ موقـّع ٍ کالنشـــید ِ
خفق القلبُ للحیــاة و رفّ الزّ
هـرُ في حقل ِعُمريَ المجـرود ِ
کـُلّ شـئ ٍ مُوقـّع ٍ فیک ِ حتـی
لفَته َ الجیـد ِ و اهتـــزار النهــودِ
 
أمّا القصیدة فقصة متکاملة لما تحتوي علیه من السرّد و الوصف و الحوار حیث نجد فیها الأبیات التالیة:
 
راعـهـا مـنـه صـوتـُه و وجـومُــه
و شجاها شُحوبُه و سهـومُـه
فأمرت کــفـّا عـلی شــعـره الـعــا
ري بـرفـق ٍ کأنّتهــا ســتـنیمه
و أطلقت بـوجههـــا الــباسـم الحلـ
و عـلی خــدّه و قـالت تـلومــه
خـلّ عـبء الحیــاة عـنک، و هـیّا
بمحیّـا کالصـبح ِ طلـق ٍ أدیـمُـه
واحـتـضـنـّـي فـإنـنـــی لـک حـتـّـی
یتواری هـذا الـدّجـی و نجومـه
واقطفِ الورد من خدودي وجـیدی
و نهودي، و افعل به ما ترومُه
 [17]

أمّا في قصیدته، «تحت الغصون» فیصف الشاعر خلوة کانت في منتهی الصّراحة، النزوع العاطفي، و جاءت وصفا ً لمغامرة واقعیة تعبّر عن رغبه مکتوبة عند الشاعر، و سنورد بعض أبیاتها للوقوف علی التطوّرالشعري عنده، و لیس لتتّبع العلاقات العاطفیِة و فیما یقول:

ها هنا في حمائل الغاب تحت الرّمــ
ان و الــسِّـــنـدیـان و الــزّیـتـــــون
ما أرق الشـبـاب في جســمک الـغــ
ض ِ و فـي جـیـدك البدیـع الثمیـن
قـُبُـلا ً عـلـّمــت فـــؤادي الأغــــانـي
و أنـارت لـه ظـــلام الــســـــنـیـن
أي خـمــــر رشـــفـتَ، بـل أي نــار ٍ
فـي شـــفــــــاه ٍ بـدیعـة الـتکــــویـن
و ســکرنـا هـنــاک في عـالــم الأحــ
ــلام، تحت السماء، تحت الغصون ِ
و نســینـا الـحیـاة و المـــوت و الکــو
نَ، و مـــا فیـه مــن مـنیً و مـنآون ٍ

إنَّ الغزل في هذه الأبیات حسّي مادّي، و إذا ترکنا المعانی و الصور- و بعضها یمکن أن نحمله علی المجاز- فلابدّ من التأکید، في هذه القصیدة و في غیرها بأن لا یمکن أن تؤخذ إلاّ علی سبیل العلاقة المادیة مثل:
و أینا النهود تهتزُّ ... وابعثي في دمي الحرارة ... واحتفنّي... قبـّلیني... آه ما أعذب الغرام... خضمّ یموج بالإثم.

علی أننا نبادر إلی التأکید علی أنَّ غزله لا یمکن أن یقارن بالغزل الروحی الذي رأیناه عند الصوفیین أمثال إبن الفارض، و إبن العربی و غیرهما، لأنَّ تعابیر الصوفیّة لا تنکشف انکشاف ألفاظ الشابي، بل تشکّل مع غیرها من القصائد وحدة منسجمة متکاملة لا یمکن تجزئتها.
(المصدر نفسه، 1993م، ص 21)

المرأة الحالمة بین العواطفِ
أنت کالزهرة الجمیلة في الغــاب
ولکـن مـا بـیـنَ شــوک ٍ ودود ِ
و الریاحین تحسبُ الحک الشریـ
ــرَ و الدودَ من ضوف ِ الورودِ

یصوّر المرأة کزهرة من الزهور في البستان ما بین الشوک المترافق للمودة هذه الریاح تجعل لک صوتا ً من أی زاویة و هذه الصداقة و المرافقة هي من عادات أو ضعف الورود، یقول الشاعر إنّ الصداقة الحقیقیة أو الواقعیة فقط تأتی من الورود و تراهمك في أیة حالةٍ من لحظات حیاتك.

فأفهمنی الناسَ: إنّما الناسُ خلـقٌ
مفسدٌ في الوجودُ غیرُ رشید ِ
و السعید السعیدُ من عاش کاللیل
غریبا ً في أهل هذا الوجـود

قبل أن تعرفین الناس علیک أن تواصلی لهم في الکون إنما هؤلاء الناس هم من المفسدین و المتکبرین في الأرض ولا فیهم حمیة و لا رجولیة و أحسنهم من یعیش عیشة ً مثل اللیالی التی تمرّ من حیاة الانسان و تقترب لأهل الحق و المصلحین بالوجود و یعبدون ربّهم لیل و نهار و یعملون الطیبات.
 [18]

و دعـیهــم یحیـــون في ظلمة الإثــم
و عیشی في طهرک المحمود ِ
کالملاک البريء، کالورود البیضاء
کالـمـوج فـي الخضــمّ الـبعیـد
کأغانی الطیــور، کالشــفق السـاحر
کالکوکـب ِ الـبعیـد ِ الســعـیـد ِ
کثلــوج الجبــال، یَغمــرُهــا النــورُ
و تسمــو عـلی غـبار الصعید ِ

یقول الشاعر إنّ الأشخاص الذین یتوالون إلی الأعـمال السیئة و الغـیر طیبة علیک أن
تدعیهم إلی الظلمات و أنت عیشی عیشة ً في الطیبات وطهارتک الحمیدة مثل شخص ٍ فارغ من الظلمات وعیشی في الحیاة الحقیقة کوردة بیضاء و کإنسان في السکون أو کموج ٍ عمیق من أمواج البحر و کأنّک تغریدین مثل الطیور و کالعطوفة الساحرة التي تنقلب في قلب الإنسان مثل کوکب بعید عن الحیاة السعیدة و الملیئة بالأرواح مثل الثلج الذی یذوب و یصعد بخارا ً إلی السماء و یصبح غبارا ً أسود و یعطینا المطر.
و في آخر المطاف یصوّر لنا الشاعر الناس و طبائعهم في الأرض و النساء الطیبات اللـّاتی یحملن الصفات الحمیدة و ینتقم من الأشخاص السیئین و المفسدین في الأرض.
 [19]

3- النزعة الثالثة في الاجتماع (الأسرة)

ذکری الأسرة

کـُنـُـا کزوجي طائــر، في دوحة الحبّ الأمین

نتلو أناشــید المُنـی بینن الخمــائل و الغصــون

متغردین مع البلابل في السهول و في الحزون

ملأ الهوی کأس الحیاة لنا، و شعشعها الفُتون

یقول الشاعر في هذه الأبیات و هي من بحر المجزوء الکامل نحن متزوجون علی سنة الله و رسوله في ساحة واحدة أو کطائرین علی جناح الأشواق و الحبّ العاطفي و المقدس الذی یأتینا من خلال هذه الغربة و في أسهل و أصعب الحیاة بالکلام المنطقي و العذب لکي نصل إلی مرحلة من الحیاة الملیئة بالعشق الشدید و کؤوسها تنوّرنا من خلال إعجابها بالکون.

حتـّی إذا کدنا نرشّف خمرها، غـُصب المنون

فتخطف الکأس الخلوب، و حطـّم الجام الـثمین

إذا أردنا أن نشرب من الخمر لیغضب الله بسبب أعمالنا في الحیاة و هذا الانتقام کسـِّر هذا الجام الثمین و أغلافه.
و أراق خمر الـحبّ في وادي الکآبة و الأنیـن

و أهـاب بالحبّ الودیـع، فـودّع العُـشّ الأمیـــن

وشدا بلحن الموتِ في الأفق الحزین المسـتکین

ثـم اختـفی خلـف الغیـوم کأنّه الطیـف الحـزین

و یقول الشاعر لمّا الإنسان یذوق شراب الحب علیه أن یتحمّل الصبر الجمیل في وادي الحزن و العذاب، و عندما یتخلی عن هذا الصبر الجمیل فیودّع الحیاة الزوجیّة و یترک لها الوداع من أجل الحب الصادق و الخالص و عندما یسکن في مکان ٍ وحده و یحسُّ بالحزن المدید و ینشدُ بصوت الموت و یخرجُ من ساحة الحیاة و یظلُّ کطیفٍ من الحزن و الکآبة.
 [20]
و کان مصورا ً آلام وطنه، موقظا ً في أمته الروح الوطنیة، منمّیا ً فیها روح الأخلاق و الجهاد في موهبة نفسیة أصلیة و کان یعیش اللغة العربیة و الشعر العربي.
یتکوّن شعره من روح الاجتماع و ما حوله من الجریانات التی تمرّ علی الانسان في مجتمع فیه الصعوبات و الآلام و الکوارث و العواطف هي تهزّ الانسان العربي و الشاعر من خلال أبیاته الوجیزة و ذات المعنی.
 [21]
و ینتفض في کارثة الزلزال التي أصابت بلدته نابلس، و هو یری دموع النساء و الأطفال، فیصوّر ذلک ببراعة تامة، فیقول في المطلع الأول.

دموعُ النساء و الأطفال

یجرح ُ القلبَ أم دموعُ الرجال ِ

بلـدٌ کـانَ آمنـا ً مطمئنا ً

فــََرمــاهُ الـقـضــاءُ بـالـزلـزال ِ
 [22]

4- النزعة الرابعة في الاجتماع (الطفولة):

لله مــا أحـلـی الـطفــولة! إنّهـا حُلـمُ الـحیــاة
عهدٌ کمعسُول الرُّؤی ما بین أجنحة السـُّبات
ترنـو إلی الدّنیـا و مـاضیهــا بعیـن ٍ باســمة
و تسـیرفـي عـدواتِ وادیهـا بنـَفس حـالـمه
 [23]

یتذکر الشاعر عهد الطفولة و یصوّرها أحلی أیام عمره و کأنّها أحلام تسیر إلی الأمام و شَبـَّهَها بالعسل ِ ما بین الراحة و النوم و هذه الأیام تنظر إلی الدنیا بعین ٍ مفرحة و یمشی بشکل ٍ صعب و فیها العذاب و الأحلام، ینظر إلی أول أیام عمره سهلة و فیها أحلی و أروع لحظات الزمان و حین تبدي هذه الأیام إلی الحرکة تسیر سیرا ً حامل المشقات و الآلام و الخمودُ و الیأس و الحرمان.

إنَّ الـطـفــولة تـهـتـزُّ في قـلب الــرّبـیع
ریانة من ریّق الأنداء في الفجر الودیع
غَنـّت لها الدنیا أغاني حبـّها و حُبورهـا
فَتأوَّدَت نشوی بأحلام الحیاة و نـورها
 [24]

و من جهة ثانیة یقول إنَّ أیام طفولتی تهتزُّ قلوب الربیع و النوروز کأنّها أشجارٌ تتحرک و محرّکها الطبیعة الباسمة و في الفخر الهاديء تسقي الأشجار و ترویها لکي تنمو و تصل إلی مرحلة النضوج و یغنّي لها النسیم و یفرح بحبّها و تسیر الأغصان و تعوّج إعواجا ً کأنّها شخص سکران في العلوّ بنور الشمس، و الحیاة تنهب من حالة الحلم التي تعیش فیه، و تعطی لنا حیاة جدیدة فیها الکثیر من الأماني و الشوق الشدید.

إنّ الطفولة حقبة ٌ شعریة بشعورها
و دموعها، و سرورها، و طموحها
لم تمش ِ في دنیا الکآبة و التعاسة و العذاب
فتری علَی أضوائها ما في الحیاة من کِذاب
 [25]

و من جهة أخری طفولة الشاعـر کأنّها حقبة فیها الذکریات من عـمره بإحساس طیب. و هذه الخواطر کلـّها کذب و افتراء، الفرح و الحزن و المغامرات و الکبر و الغرور، لم تسر بطریق صحیح بل هي حاملة حقیقة الحزن، و الیأس و الحرمان، ترجع إلی أحلام العـمـر و تنتهی بشکل غیر صحیح و غـیر مباشر ربّما أحداث من الزمن و ما فیه من أهـوال مهلکة و ظاهره سیئة.

5- النزعة الخامسة في الاجتماع (حمایة الدین)

لقد نـام أهـل العلم نوما ً منغـطســا ً
فلم یسـمعـوا مـاردَدتـُه العـوالــم
ولکنّ صوتا ً صارخا ً، متصاعـدا ً
من الروح یَدري کنهه المتصامِم
سـیوقظ ُ منهـم کلّ مَـن هــو نـائــم
و یُنطلقُ منهم کلّ من هو واجـِم
 [26]

یقول الشاعر هنا عندما الشعب لم یجب ما قالته العوالم و العلماء یستمرُّ بنومه و له تکن له حرکة و سیر و لم یعط فکرة قویة للعالم و یکون صوته خافضا ً فیه السکون

سـکـتم حُمـاة الدین! ســکنة واجـم
و نمتم بملیء الجفن، و السیلُ داهم
سکتم و قد شمتُم ظلاما ً، غصونه
عـلائــــم کفـــر ثـائــر و مـعـالـــــمُ
مــواکـب إلحـادٍ وراء ســکوتِکــم
تضجّ، و هـتا إنّ الــفضــاء مـأثــــمُ
 [27]

و في هذه المرحلة یقول إنّ حماة الدین سکتوا سکوتا ً عمیقا ً و ناموا بعین ملیئة بالأحزان و هذه الأخطار مستمرّة و یصبحون کفرة.
و یقول الأستاذ مختار بن محمود عن الشابی: إنّه رجلٌ قوي الإیمان، ثابت العقیدة، متلاعب بدینه. فلیس هو من اولئک الذین یستترون بحجاب الفلسفة و الذکاء و اتساع النظر لیتوصلوا إلی العبث بالأدیان و المعتقدات، ثمّ یتخذونها سخریة و یجعلون مبادئها مجالا ً لعبثهم و سخافاتهم، ذلک الأمر الذی لا یسلم منه الشعراء المتقدمون، و الکثیر من الشعراء المتأخرین و إنّی لأتعجّب من بعض الناس الذین یحکمون بسرعة علی شاعرنا بأنّه شاعر مستهتر متلاعب بدینه.
 [28]
ها هو یرکز موقفه الإیجابی علی التندید بموقف «رجال الدین» المسلمین السلبي، و هم المسؤولون الأولون عنه.

أفیقوا قلیل النوم ولـّى شبابه

و لا حبّ لآلاء الصباح علائم
 [29]

و قال إن «حماة الدین لم یفیقوا من نومهم، نوم الرفاهیة و الاستسلام للاستعمار و لم تکتحل أبصارهم بنور الحق و الحریة و هذا النوم و الخمود أتاح الفرصة للاستعمار لکی یستمرّ في طریق الاستغلال و الاسترتاق و أتاح الفرصة لحماة الدین لکی ینالوا فرصة المناصب الکبیرة و الرواتب العالیة».
 [30]
ولکن الشابی لا یترک لهم و للاستعمار الفرصة لسلب الشعب قوته و حقّه في الحیاة و الحریة و الکرامة.

6- النزعة السادسة في الاجتماع: (الوطن)

و لابدَّ هنا من وقفة عند قصیدة الشابي الشهیرة «إرادة الحیاة» و فیها خلاصة من آرائه الاجتماعیّة و صورة واضحة لأسلوبة الشّعري و للحیاة المتأججّة في شعره.
دواعي القصیدة أنّه في خضم الحیاة القلقة التي تعیشها الأمم، ینبری الشعراء فیطلقون کلمة وحیهم لیوقظوا العیون الغافیة، و یهتفون في أعماق تلک الأمم لیثیروا أصالتها و نبوغها فتتحوّل هتافاتهم إلی دم جدید یمسح من جبینها تغضُن العجز، و تنقض عن کتفیها غبار الحمول. فالشعراء في الحقبات الحالکة من تاریخ الأمّة یستنفرون قرائحهم منارات إشعاع و إثارة، فیقلقون الجمود، و یفجـّرون القوی الکامنة في وجدان الأمة لتنبعث منه طاقات التغییر، و معطیات العافیة و الکرامة و السیادة. هذا ما فعله الشابي عندما فتح عینیه علی وطن یتخبّط في قیوده و أدرک أن الأرض التونسیة، لم یزلزلها صوت یحمل نبرة النبوة لن ترتعش فیها نبضات العزة، . و أن هذا الشعب لن یحطـّم أصنامه إذا لم تهزّه صیحة واحدة من الأبناء و الأحرار إنّ إیمان أبی القاسم بدور الشعب و وعیه وإرادته، هذه الإرادة القادرة علی بناء المصیر المُشرق إنّ هذا الایمان هو الذی فجّر في قلبه هذه الحُمم فکانت « إرادة الحیاة».
الفکرة الرئیسة في القصیدة هي أن الطموح هو الذی یهتک حجب اللیل و یُطلع الفجر تقیـّا ً، و حبّ الحیاة وحده یشحذ الطموح حتی جنون التضحیة و البذل، فیُحطم القید، و یشرق نور الحریة و الاعتزاز:

إذا الشعب یوما ً أراد الحیاة

فلابدّ أن یستجیب القدر

و لابـدَّ للـّیـل أن یـنـجـلـــی

و لابدّ للقید أن ینکسـر

إنّها إرادة الشعب التي تقهر، فعلی الشعب أن یرید الحیاة، و الذین لا یعشقون الحیاة الکریمة یندثرون کالهباء في مهبّ الریاح. فالحیاة تکره النفوس الضعیفة و الأیام لا تلین لغیر الأقویاء تلک سنّة الوجود، و تلک هي الحقیقة التي یفضي بها إلی الشاعر روح الکون الخفيّ:

وَ مَن لم یعانقه شوق الحیاة
تبخّر في جَوّها و اندثـر
کذلک قالـت لي الکائنـات
و حدّثنی روحها المستتر
 [31]

و ما هي ذی الریح تروي حکایة الطموح و إذا هی جرأةٌ، و إقدام ٌ، و تطلّع ذلی الأعلی في غیر خوفٍ و لا حَدَر:

وَ من لا یحبُّ صعودَ الجبال
یَعش أبَد الدهر بینَ الحفر
 [32]

ثم یتوجه الشاعر إلی الأرض و یسألها قائلا ً«یا أمّ، هل تکرهین البشر؟!» فتجیب الأرض أنّها تبارک في النّاس أهل الطموح، و تلعنُ من لا یماشی الزمان و لا یعرف الجمود، و ذلک أن الکون حيِ، و الحیاة حرکة متطورة:

هـو الکون حيٌّ، یحبُّ الحیـاة
و یحتقر المیتَ مهما کبـر
فلا الأفق یحضنُ میتَ الطیور
و لا النحل یلثم میت الزهر
 [33]

و هکذا الوجود لا یکبر إلا أبناء الحیاة الـذین یعملون في صراع مُمیّز و بإرادة، بطلة
في سبیل الحیاة، أما الموتی فیدوسهم و یرمیهم في زوایا الیأس و ظلمات الکآبة و ینطلق الشاعر في تفضیل حکایة الحیاة، و في سَرد قصّة الطبیعة التي تنفجر، بعد الشتاء وآلامه، حیاة ً تملأ الدنیا أزهارا ً و ثمارا ً.
و هکذا فالمعاني تتلاحق و تتدافع کأنّها أمواج بحر خضمّ، و کأني بالشاعر یخاطب بنی قومه و یستنهض عزائمهم، و في موسیقي شعره و قوافیه ما یواکب معاینه و ما یزید عصفا و شدة تأثیر. و تمتاز هذه المعاني بعمقها و بُعد الرؤیة الشعریة. فکأن أبا القاسم یُغمض عینیه عن الوجود و یغیب في یقظة الشعوریة، فتفتح أمامه آفاق الإبداع طلیقة، و یرفرف جناحاه في عوالم یکثر فیها الجمال فیختار منه أجمله، و إلی جانب العمق و البعد الشعوري تتجلـی العاطفة جیّاشة تتدفق من الألفاظ إندفاقا ً و هذه العاطفة ولیدة الثورة الصاخبة في ضمیر الشاعر، و الإحساس العصبيّ النبـّاض المختلج في أعصابه.

أمّا الخیال، فابتکارٌ في الصورة علی بساطة، و شرود ذهنيّ تائه لا یصحو إلاّ علی صیحة خارجة من أعماق النفس التي تـُعاني:
فلا الأفق یحضنُ میتَ الطیور
و لا النحلُ یلثم میت الزهـر
و لـولا أمـومــة قـلبي الـرؤوم
لفرّت عن المیت تلک الحفر

ففي هذا البیت الأخیر، الذی جعله الشاعر من لسان أمنّا الأرض، و ثبة تـُثیر الدهشة و الخشوع لما فیها من قوة في الابتکار و قدرة علی تصویر الاحتقار للأموات.
 [34]
یتحدث الشاعر عن إرادة الشاعر (إرادة الحیاة) و کیف أنّه إذا أراد شعب ما أن یعیش حیاة التحرّر و الانطلاق و یفضّ أغلال الماضي، فلا یملک القدر، إلاّ یحقق هذه الرغبة، فکأن الشاعر یرید أن یکون بحقیقة مؤداها من إرادة الشعوب.
(خورشا، صادق، 1381هـ.ش، صص 137-139)
الفکرة في هذه القصیدة یرید الوصول إلی غابة ٍ رکب الصعب و من لا یسعی إلی المعالي داسته الحیاة و لا وسط بین المرتبتین، حتی الأرض نفسها تبارک الأقویاء الساعین إلی مطامحهم و تحتقر الکسالی المتقاعسین، و لو لا حنان الأم للفظت القبور ما بها من موتی، کما یلاحظ الشاعرأن الشاعر خلع الطبیعة مشاعره، و مزج بینها و بین حالته النفسیة الداخلیة، و هو أسلوب شاع بین شعراء و کتّاب المدرسة الرومانسیة و خاصة مدرسة المهجر.
 [35]
ذلک بأنَّ الشابي انطوی من تجاربه النفسیّة القاسیة علی مفکـّر عمیق التفکیر، فکان لا یکتفی بأحاسیسه، و إنّما یحاول دوما ً أن یواجهها و أن یصرفها عن المرارة، و أن یمیل بها إلی الحیاة و هي التي انصرفت بطبیعتها نحو الأسی و الکآبة، و وقفت عند الموت لا تریم، و لا تحول عنه و لا تزول. و هذا هو مغنی قصیدته «إرادة الحیاة» التي شاعت و انتشرت و أحبّها کلّ قاريء عربي:

إذا الشعب یوما ً أراد الحیاة
فلابدّ أن یستجیب القدر
و لابـدَّ للـّیـل أن یـنـجـلـــی
و لابدّ للقید أن ینکسـر
 [36]

و هو معنی شاعریته نفسها في صمیم العذاب الذي أطبق علی حیاته منذ أحبّ تلک التي ماتت إلی أن أصیب بالداء العضال في قلبه أي أنّ الآلام التي عاناها أبوالقاسم کان من شأنها أن تصدّه عن الحیاة، و الحبّ و الأمل، و عن کلّ ما هو فرح و متعة و حماسة، ولکن قوة نفسه، و صلابة عوده، و تعلـّقه الأصیل بما یسمو علی الأوصاب و الآلام، أمور أیقظته علی الفنّ الشعري لا في کیانه، بل في العالم کلـّه و بهذا کان أقرب النالس من أبناء الشرق.

النتیجة:

إنّ الشابي کان شاعرا ً رومانسیا ً ولکن لیس من جهة الإبداع بل من جهة تقلید الغربیین و رومانطیقیتهم التي أتخذها فکرة حیـّة من خلال شعره مع أنّه أصبح من اًعظم الرومانسیین ولکنّ خبرته الفنیة عرضها من خلال آلام شعبه و الطبیعة الساحرة. هو شاعر ذو مواهب و انفعالات صادقة و إحساس حيّ من خلال الوجود، خلـّاق في تعبیراته و تصنعاته الشعریة و شخصیته تتکون من وطنیة صادقة و رومنطیقیة متشائمة أو بعیدة الأغوار في کلّ مکان و زمان و أحداث، و في أشعاره یذکرلنا الحب و الحیاة هذان اللفظان یتأثر بهما في کلّ منهج من مناهج قصائده. عشق الحیاة و الإنسان من أهم موضوعاته الاجتماعیة.

جمیع أشعاره تدور حول موضوعات ثلاثة: التشاؤم و التفاؤل و الخروج من التشاؤم إلی درجات الصفاء الروحي.
و نری الشعرالاجتماعي عنده بأسالیب مختلفة و کثیرة و بهذا قد امتاز عن سائر شعراء زمانه.

المصـــادر

  1. أبوالخشب، إبراهیم علی: تاریخ الأدب العربي في العصر الحاضر، دار الکتاب مصر، ط4، 1992م.
  2. البعیني، نجیب: شعراء عرب معاصرون، دار المناهل، لبنان، بیروت، 1991م.
  3. الحر، عبدالمجید: أبوالقاسم الشابي کوکب السَّحر، دار الکتب العلمیة، لبنان، بیروت، 1995م.
  4. خلیل، جحا میشال: الشعر العربي الحدیث، دار العودة و دار الثقافة، لبنان، بیروت، 1999م.
  5. خورشا، صادق: مجانی الشعر الحدیث و مدارسه، دفتر فرهنگ اسلامی، ایران، تهران، 1381هـ. ش.
  6. الزّیات، أحمد حسن: تاریخ الأدب العربي، دار الثقافة، لبنان، بیروت، ط29، 1995م.
  7. الشابی، أبوالقاسم: أغانی الحیاة، دار صادر، لبنان، بیروت، 1996م.
  8. شکیب أنصاری، محمود: تطوّر الأدب العربي المعاصر، دار النشر جامعة شهید چمران، أهواز، ط3، 1382هـ. ش.
  9. شیخو، الأب لویس: تاریخ آداب العربیة، دار المشرق، لبنان، بیروت، ط3، 1995م.
  10. طراد، مجید: دیوان أبی القاسم الشابي و رسائله، دار الکتاب العربي، لبنان، بیروت، 1993م.
  11. الفاخوری، حنا: الموجز في الأدب العربي و تاریخه، ج4، دار الجیل، لبنان، بیروت، 1991م.
  12. فروخ، عمر: الشابي شاعر الحبّ و الحیاة، دار العلم للملایین، لبنان، بیروت، ط3، 1974م.
  13. فروخ، عمر: تاریخ الأدب العربي في المغرب العربي، دار الأوساط، الکتب العلمیة، لبنان، بیروت، 1982م.
  14. فروخ، عمر: تاریخ الأدب العربي، دار النشر توس، ایران، طهران، ط2، 1382هـ. ش.
  15. قدورة، زاهیة: تاریخ العرب الحدیث، دارالنهضة العربیة لبنان، بیروت، 1985م.
  16. محمد، کرو: أبوالقاسم الشابی حیاته و شعره، دار المکتبة العلمیة، لبنان، بیروت، 1995م.
  17. محمّد، کرو: الشابی في مرآة معاصریه، ج6 و 7، دار صادر، لبنان، بیروت، 1999م.
  18. محمّد، کرو: دیوان أبی القاسم الشابی «أغانی الحیاة»، ج2، دار صادر، لبنان، بیروت، 1999م.
  19. هدارة، محمد مصطفی: بحوث في الأدب العربی، دار النهضة العربیة، لبنان، بیروت، 1994م.

[1(فروخ، عمر، 1974م، ص84)

[2(المصدر نفسه، 1974م، ص87)

[3(الفاخوری، حنا، ج4، 1991م، ص699)

[4(فروخ، عمر، 1974م، ص88)

[5(الفاخوری، حنا، ج4، 1991م، ص701 و702)

[6(المصدر نفسه، ج4، 1991م، ص703)

[7(الیعیني، نجیب، 1994م، ص275)

[8(المصدر نفسه، ج4، 1991م، صص704 و 705)

[9(المصدر نفسه ، ج1، 1991، ص 557)

[10(هدّارة، محمد مصطفی، ج4، 1994م، ص 127)

[11(المصدر نفسه، 1994م، ص 127)

[12(المصدر نفسه، 1994م، ص 135)

[13(طراد، مجید، 1994م، ص 116)

[14(المصدر نفسه، 1993م، صص 135 و 136)

[15(المصدر نفسه، 1993م، ص 137)

[16(المصدر نفسه، 1993، ص 19)

[17(المصدر نفسه، 1993م، ص 20)

[18(محمد، کرّو، ج2، 1999م، ص 187)

[19(المصدر نفسه، ج2، 1999م، ص188)

[20(المصدر نفسه، ج2، 1999م، ص75)

[21(المصدر نفسه، ج2، 1999م، ص261)

[22(المصدر نفسه، ج2، 1999م، ص270)

[23(طراد، مجید، 1993م، صص 61 و 62)

[24(المصدر نفسه، 1993م، صص 61 و 62)

[25(المصدر نفسه، 1993م، صص 61 و 62)

[26(الشابی، إبوالقاسم، 1996م، صص 161)

[27(المصدر نفسه، 1996م، صص 161)

[28(محمد، کرّو، ج6، 1999م، ص 109)

[29(المصدر نفسه، ج5، 1999م، ص 354)

[30(المصدر نفسه، ج5، ص 354)

[31(الفاخوری، حنا ، 1991م، ص558)

[32(المصدر نفسه ، 1991م، ص558)

[33(المصدر نفسه ، 1991م، صص559 و 560)

[34(المصدر نفسه ، 1991م، صص560 و 561)

[35(المصدر نفسه، 1381هـ.ش، ص139)

[36(الشابی، ابوالقاسم، 1996م، ص16)


أي رسالة أو تعليق؟

مراقبة استباقية

هذا المنتدى مراقب استباقياً: لن تظهر مشاركتك إلا بعد التصديق عليها من قبل أحد المدراء.

من أنت؟
مشاركتك

لإنشاء فقرات يكفي ترك سطور فارغة.

الأعلى