الأربعاء ١ حزيران (يونيو) ٢٠٠٥
بقلم هشام محمد العلوي

البنفسجي

سيدي..

" أنا أجف مثل أوراق الضياع التي أقطف كل ليلة. كليلة البارحة و ليلة اليوم. أنكسر إلى بلورات مثل قنينة النبيذ الأسود التي يحملها حارس أحلامك البرية. يغيب عني النوم، فأشعل نور يأسي. أقوم, اللحظة تتساقط نجيمات الليل من السماء. يبدأ في البهوث لون الليل الأسود كما تعود أن ينزف شوقي بك ويغطي كل مساحات وقتي البنفسجي.. أدرك أنك تكّن الولاء لغطرستك التي لا تعرف الحدود و لا الملل. لكنني مصممة هذه المرة على كسر زجاجة أنفة الأنوثة على رغبتي الجانحة ومرضي بك. الليلة قررت أن لا أنظر الرجال سواك. و صباحا على طاولات الاجتماع أتسلم عبارات جنونك الذي لاينتهي و التي تنثرها على مسامع المجتمعين...".
جاءت زرقة الصباح. نزعت رداء الليل الأسود. سقط القلم مثخنا بجروح الأبجدية.

هاجمت الحرارة كل السيقان البيض. امتد السكون طويلا حتى شارف على السقوط من أعلى مكتب المدير. النوم داعب كل أجفان البنفسجي. الذباب في مقتبل العمر منتصف المراهقة، حج بكثرة ولم يتوان عن جثم البشر الناعمة، المطلية بالمساحيق.. لا تنسوا أن توقعوا على محضر الاجتماع. جملة وحيدة، تخرج من فم بّالعربي، لا ننساها ما بقينا هنا و ننتظرها بشوق كي تمنحنا ساعة الحرية.

- يوسف. يوسف .. لا أعرف أين تقتني أفكارك، لكني معجبة بها.
 آه. ه.. لا عليك. مجرد اقتراحات لـن تجد طريـقها إلى واقع.

صافحته دون سابق علم فبقي جاثما في مكانه كمركب دكتاتور يُحدث الصمت. يتهاوى عليه وابل من التخمينات. خليط من صباغات الأحاسيس. صافحته مودعة بيده حجيّبا صغيرا، كما يودع سائق سيارة الأجرة المكتظة بركاب يوم الثلاثاء ذلك الواجب " القرفية " في تلك اليد الأمينة لذلك الرجل الأمين.. بعد برهة من الزمن تعود، تبتسم لتقول بالبنفسجي : إبقى قابلني بعد بكرة قرب بوتيك " سي مصطفى".

ذهبتُ يومها مسافة عمري، عمر أشجار النخيل التي تغطي لحية وجه الطريق الممتد و المعانق للجبل. كان ذلك اليوم الأول في الربيع الذي لا يشعر بالتكرار و لا يجيد الاجترار. على صهوة دلك الجبل، دونت الحكومة عقد زواجي بالمدرسة علّه يُكتب لنا إنجاب المعرفة. على هذا الجبل الذي لا يتسع إلا لي، رُسمت أجنحة للفراش البنفسجي، و تطفو أحجار لكثرتها لا أذكرها، كنهد العذراء أو كذلك الفستق البري الذي شب خلف الإدارة. هنا كان كل شيء كالخطيئة ينمو بشكل عشوائي.. و ذلك الحجيب الأبيض المطرز بالبنفسجي لا يلبث يمتص من نظرات عيني. كلما أعدته إلى الجيب إلا وأصر على الالتصاق ببياض يدي القاتل، لأفتحه فوق راحتي مرة أخرى..
كلما فعلت، إلا و تراءى ونبت أمامي ذلك السراب لذلك الزين االرباطي بالشعر الكاري و اللكنة البنفسجية.. كانت المسافة هذه المرة ربما أطول من أي يوم مضى..

الله أكبر. الله أكبر. هكذا بدأ " شامّو" الأذان بصوته المدفعي يـشق السماء.. مختـرقا حواجز الحجـيب المدفـون بالـجـيب و المحضون بالأنامل. فتراءى لي الجبل، تلك القبة التي رمت بي الحكومة فيها.

يا لغدر الزمن، الأطفال سذج. الابتسامة لا تفارق محياهم. جيوبهم حبلى بقطع أشياء حياتهم الصغيرة. و هذه الحياة التي لا تمنحنا فرصة أخرى كي نشعر بالطفولة. إذا و جُدنا في عالم من أطفال، هم أكثر منا طفولة.. كلما أنتقل من درس لآخر، أو من حصة لأخرى إلا وقابلني وجه الطفلة نجاة. فهو وديع . صغير الحجم. شاسع الذكرى و الزمن. فيه فكري يغوص مرتين، قبل الشرود. أو يدوي في أعماق محيطه. ما ذاك السر الغامض؟ التشابه الكامن بين طفلتي القروية. و ساحرتي الرباطية؟ هذا التجانس ما أقساه و ما أقساني. هو ليس كالزمن البنفسجي لكنه كالوقت الرهيب. يمر بطيئا رتيبا. وذلك " بعد بكره" لا يصل قريبا. فأظل أنتظره كما لو ساعي بريد يوم السبت، يأتي أولا يأتي. ذلك الرهين بنشرة الأرصاد الجوية.

هل ساعتك مضبوطة مع زمن العشق الجميل؟ ما هذا !! هراء! و يحك هو لم يلقاك بعد! لم يقل بعد أنه سيحبني ! هكذا شطرت فاتي ظهيـرتها ذلك اليوم إلى شطـيرتين. واحدة تناولتها و هي تقف أمام المرآة. و الثانية أمام صديقتها رفيقة، التي تتهاوى على ذلك الوجه العذب لترسم فيه الحاجين النحيلين، الوجنتين ورديتين. الشفتان بنفسجيتان. وذلك الشعر " الكاري" بلون الشمس، أو الخشب. دون تجاهل الخالة لتصير كحبة كرز . تنضج في علبة تصبير..

قرب حانة "سي مصطفى" ثمة رائحة غريبة تشبه رائحة قلب يحترق، عود زيزفون أخضر به نار. بعيدا عنه قليلا، و بعيدا عن أنظار التلاميذ المنبعثة من ثقوب سور القصر القديم، و عن أنظار القرويات المتشحات بالأسود المتعطشات لقراءة هذا المعلم، ذلك الذي لم يكن يأتي كالمطر إلا قليلا. كن متعطشات لهدم سور العار الوطني الفاصل بين تجاعيد الجهل، وطراوة المعرفة. لاقتحام عالم الكراسة و الصفوف الطويلة أمام الحجرات الدراسية.
بالكاد أجد حجرا أهلا للجلوس. فكل الأحجار زينت برسوم فحم الأطفال المتمردين لشخصيات المعلمات، معنونة بالأسماء. ورغم الأخطاء الإملائية و هشاشة الفكرة، إلا أن ذلك الفحم الأسود كان يعطي لتلك الأجساد الرغبة و الإلحاح..

لا أحد يدري لماذا لا يسقط المطر بنفسجيا اللحظة. فالكل كان يستمتع، يطرب له و لطنين قطراته فوق حاوية الطن التي يرمى بها "علي بن الطيب " طباخ المطعم المدرسي..

 ربما تأخرت قليلا.. أزعجك هذا ؟
 لا. على العكس. وجدت هذا مسليا وأنا أتأمل هذه الطبيعة الساذجة. المحيطة بالمدرسة. والتي حاك خيوطها كل من له مسؤولية في ذلك.
 يكفينا هذا.. فلتقترح علي مكانا نذهب إليه.
 لا أدري هل آخذك إلى مقهى « حيفا » بحي ي. إسماعيل أم إلى منتجع « أصالة » بباحة سيدي حرازم. فقي أبنت الناس، هذا دوار و ليس الرباط المدينة.

 فكرت أنا أن أعزمك إلى قاعة الدرس، لكنني أبقيت فيها تلامذتي..
 لا مفر إذن. فهيا إلى الوادي.
هبت من جديد ريح طفيفة، تحمل تلك الرائحة لقلب يحترق. لعود زيزفون أخضر به نار. ما هذا الوادي! هذا الذي لا يحمل في عنقه إلا تميمة الاسم. و قطع أحجار صالحة للبناء. أين الماء، الخضرة؟ وهو يقف بحضرته هذا الوجه الحسن. أين كل تلك " الأين " التي تسكن الوادي. وتلك التي تبقي الناس يسكنون الوادي.. تلك الابتسامة البنفسجية، تصنعها الشفاه الرقيقة و الفو الصغير. كما لو كانت بؤرة آلة التصوير جيبية. أين الخواطر و الأشعار. هل ولى وانقضى عهد الأنبياء و الرسل.. أكاد المعلم حقا أن يكون رسولا ؟؟
 لم آت بك إلى هنا كي تناجي الوادي أو..
 خيوط الكلام شعتاء رتيبة. تمتد إلى كل شيء، كأشعة الشمس ليوم الاجتماع. أتوقع أن تكوني غاضبة أو عل الأقل غير راضية عني. مند التقينا لم أسمع لكنتك البنفسجية و لارنين أساور قدميك النحيلين.
 كف عن هذا. أنت تجيد.. تجيد فن الخطابة. وتبيع الكلام بأبخس الأثمان و لاريب في أنك تجيد فن الجريمة أيضا..
- و يحك يا شيخة !! ألهذا طلبتني ؟!
 طلبتك. و لطالما جلست كل مساء قرب مدفأة قلبي أقرأ خطاباتك التي تتشدق بها في اجتماعات مجلس المعلمين. ينقرها سمعي ليجترها كحد سيف التيه..

طلبتك لأنني أستبيح لك في نفسي القتل. لا هذا الموت. أريدك أن تقـتلني. أن تصلبني على قـوائم إحدى طاولات الصف. و أن تجعل قتلك في مباحا كلما هممت بفتح خزانة الكتب، أو حملت بين يدي كراسات المتعلمين. ضع عينيك في عيني . ألحظ فيهما البنفسجي. خدني معك لنقتل غرقا و صلبا على بعضنا البعض..

في ذهن يوسف تصارعت الكلمات. تضاربت أنباؤها. من تطفو في برصة أفكاره. أين هو ذلك الذي كاد أن يكون رسولا؟ كيف هو هذا الإبليس البنفسجي؟ هل يأتي طوفان نوح جديد ليغرق الكل في البنفسجي؟.. لماذا تحدق بنا تلك الأحراش التي تدلت من بطن الوادي. ما هذا الناموس، ناموس العشق الفقير الذي يأكل من رغيف حياة معلمات و معلمي الدواوير. سكان الدواوير أنفسهم. هل هو أيضا يأتي على الأخضر و اليابس. و ما ذاك الناموس الآخر. الذي ترجل عن أجنحته ليتسلق ساقي فاتي البنفسجيتين.. تلك التي تعيش اللحظة تستبقها اللحظة. تعيش في دوار.. الدوار و وجع الرأس.. الوجهان لعفريت واحد. استحلى جسدها الأبيض الضئيل كلما طال ليلها البارد. وقل شمعها البنفسجي المارد. هو أرق، أرق لحزن مؤلم. يسدل الوحدة عليها دوني. ويقتل خريفها بعدي على باب قسمها الأخضر الباهت..

 الوقت يداهمنا اللحظة. هذه الأحراش لا تكف عن الحملقة فينا. هلا عدنا فالشمس أوشكت على النوم في مهدها الكبير،و خيك باقي قدامو طريق طويلة.

راح ظلان نحيفان، طويلان. يرسمان الغروب كظل واحد يعبر الوادي. أرملة الرمال تتعلق به، تستفتيه، تستنجد به... لا أحد يرد.. عندي سؤال أتردد في طرحه! لماذا كل شيء فيها بنفسجي؟ حتى الخالة التي تزين مفترق الحاجبين هي أيضا تبنْفَسَجَت.

 يوسف، بح لي بكلمة أعشقها من فمك فنحن على مشارف الوداع، قلها.
 لا. بل أنت أولا وأنت أولى بقولها. افعلي حتى و أنا أدير ظهري لأرحل عنك..

المسالك الثانوية بين القصر والجبل. في خفاء تام و رذيل. تُحشر كل نهاية المساء بقرويات طبعن بالبساطة. بأثوابهن المنمنمة الكثيرة الألوان. على رؤوسهن هم وحيد ثقيل و شائك، حزم جريد النخل. مشاغلهن على كثرتها قليلة، عطشهن واحد و وحيد أيضا. لا يأتي إلا مع سعف الجريد. ملء الأفواه والفروج بالماء والماء.. وأنا في الطريق نادرا ما تُرفع في تلك العيون المغرورة بالجهل والأمية لتتفحص هذا الغريب القادم لبلدتهم بحمولته. لكنهن لا يتوانين عن الاستدارة نحوه للتملي في خلقته. مشيته. شعره. دون أن يتجرأ هو الاستدارة إلى الخلف ليرى ما إذا كن استدرن أم لا..

طلبا لتلك الحرية الحمراء. ذلك الحق البنفسجي. ذات مساء نزلت إلى الحقول عن طريق المثل العربي: رب صدفة خير من ألف ميعاد لقضاء حاجتي، متسترا بجنح الغيوم السوداء التي كست كل شيء حتى وريقات شجر اللوز والرمان. استرقت السمع يدوية تقول لأخرى: أنا سئمت نوم الليل وحدي، بينما"مباركة بّيه" تقضي طوال الليل تتقلب مع زوجها في الفراش يفضحهما صوت الحصير. أنا راسلت زوجي مع" رحال مول الكاميو"، طالبته ألا يغيب عن أبنائه كثيرا فهم بحاجة إليه، وأن يعود ليفسح المجال لأخيه كي يرى أضواء العاصمة حقه أيضا. فهو قضى ما يزيد عن ستة أشهر بعيدا عنا.. كنت أسمع تلك العبارات تخرج من حنجرة مخنوقة بدموع الحريق الأحمر وغريزة الحق الطبيعي البنفسجي.

لما يجن الليل.لا يعرف النوم طريقه إلى أي من أجفاني. أستلقي على ظهري. أتذكر حديث البدويتين. أتلهف على الحرية الحمراء. على الحق البنفسجي. أتأمل السقف. أشهد ولائم الذباب. أعراس الذباب. لعبته المفضلة و القذرة. أجتر حديث الوادي كاملا لا تنقصه قدر أنملة كلمة لصديقي فتركبه اللذة لكن دوره لا يصل أو ربما لن يصل أبدا..

« يوسفي أنا

كنت واثقة أنك لن تخيب ظني. أنت الأروع كما أحببت أن يكون فارسي المغوار، بطل أسطوري يبقى في المخيلة حتى بعد رحيله. واهم عاشق للمجد اللامنتهي، كاره سكون زعانف الحركة.. أريدك عندما تقابلني أي مرة أن تجعل من راحة يديك كبسولة أحلامي، كي لا يذبل المطر البنفسجي و كي لا يسقط القمر خلفنا. أريدك أن تشعرني بالبرْد و البرَد، أن تغمسني في بعض مرق الشهوات. فلا تتردد بالبوح لي بكل الغزل، الخطابة و الشعر الأعزل." وإنت طبعا عارف ليه ". كل ليلة أضع يدا تحت إبطي وأخرى تحت ركبتي، أحمل جسمي النحيل. أناغيه و أداعبه، لكنه يرفض أن ينام. وقد يكون النوم هو الذي بخل علي بمحبته.. ».

كل يوم. يأتي الصباح قريبا دون ملل أو كسل، وكأنه ينام خلف الجبل فقط. هو لا يتأخر عن مواعـده كريـاح الزاوية، فهي لا تخلف موعدها. تهب كلما حلت ذكرى المولد النبوي، تحمل معها كل ما هو خفيف الوزن: أوراق واجبات التلاميذ المهملة، بلاستيكات سوداء، قرويات موشحات بالأسود.. تحمل كل ذلك بالأسود كزوبعة. الشموع، اللوز، تمر البسكري و قطع فضية نقدية "لمول الخبزة " المدفون بقبة المقبرة.. و أولائـك الرجال السود عبـيد الزاويـة لا يجيدون إلا الحفر. يحفرون الخندق ليوقعوا بالجمل الأسود دون الجمال يوم الموسم قربانا للسيد. تلك النساء تعود مرة أخرى لتكتنز من دم الجمل في قنينات طينية. أفل ما يقال عنه: يشفي أمراض الحساسية، العقم والغليل. يشفي من البرد وبرودة الدم.. هكذا الحال، أولائك الرجال غلظاء لا تعرف فؤوسهم الرحمة و لا الشفقة. يسنونها كل ليلة ليمارسون ثقافة الحفر والحفر. فالمطر على قلته والعطشى على كثرتهم. هم يحفرون أبار الماء و خنادق للجمل الأسود وليلا الحرية الحمراء: فروج النسوان. هكذا تعلموا منذ الصبا ثقافة الحفر و البنفسجي لعبة الذباب.

هذا الصباح، لم يكن عاديا، تلامذتي حضروا باكرا دون وقت الصف الطويل. لم يحملوا محافظ يتحفظون بها. أياديهم صغيرة سافرة أحيانا.. أخذوا كل قنينات الماء الفارغة من كل شيء, من هواء الفرس المحموم و فروج الذباب الحديث العهد باللعبة و بمقر سكناي. يُنثرون كحب الشباب في محيا البالغات، بين السهول يختفون و سرعان ما يعودون محملين بالماء المرير، بيضات بلدية، قبضة نعنع، خبز حار.. قالت لك أمي اليوم يوزع المعروف في قبة مول الخبزة، تعال أنت و صديقك الرجال يحضرون أيضا. هكذا زفت لي إحدى التلميذات النبأ. نبأ الموسم.

كانت هذه الفرصة بيضاء تسنح لكل شيء. تترك باب الحدث مفتوحا لكل الاحتمالات. سكان الجبل، هذه رحلتهم الجماعية الوحيدة سنويا للقبة لجلب بركة مول الخبزة. و أهل القصر أشد منه شوقا. الجميع متلهف لتناول خبزة النميمة. كل أحداث العام الهجري بتفاصيلها تروى هناك على الأقل ثلاث مرات بثلاث طرائق سرد مختلفة من طرف كل حاك. يقايضون حتى وهم بحضرة تابوت مول الخبزة أخبار المعلمين الغرباء. لا شيء أشهى وقتها من لحم الوليمة المنثورة على الأطراف فلا أحد لا يحتسي شربة الغيبة أو النميمة..

نحن أيضا خدام الوحدات. كنا الأقل حظا في لعبة التعيين. وعلى ندرتنا ترامينا في الهوامش. لا نفوت علينا الفرصة. نتهافت على عزل الغنائم و اقتسامها. في باحة المدرسة الحسناوات كثيرات، ينتظرن بشوق دفين وكثير كأسير لساعة الحرية. يذرفن بعض الكراسي لنقتعدها في الساحة. القرويون يزاولون طقوسهم في الضريح. الشيء ذاته نفعله نحن في دار المعرفة.

يوم اللقاء يذر الكثير على الكثير. العطارون الوافدون من كل صوب. بّالعربي الذي لا يأتي مكتنزا دريهمات الذهاب و الإياب. الراغبات في الزواج، الباحثات عن قطرة الحرية الحمراء فقط. الدجالين.. إلا واحدا، سي مصطفى الذي لا يخرج بضاعته إلى ساحة الضريح طمعا في قرب المدرسة و تقديم المشروبات للمدرسين.. إذا ما نكهت الشمس وحرارة اللقاء اختفينا كظل العشية في حجرات الدرس، نتهامس لفظ بكارات الصمت المتربص بها.

هذا اليوم تبقى فيه المدرسة كامرأة ذات وظيفة في الثلاثين من عمرها، تكسد في يد الزمن المقايض في سوق الزواج، لا أحد يساومها.. تحاشيا لتقاطر البنفسجي كل الأزواج وجدت من تلك الحجرات مرتعا أخضرا للاسترسال. لا أحد يساوم إلا بالبنفسجي.. وعنّا نحن يستدرجنا يتم العزلة لرطوبة قهر الوادي المفتعلة. تسوقنا شفافة النهار و تحت إلحاحها نترك اضطرارا راحة أيدينا في راحتها نمضي كسهاد في سعادة شاملة.. عندما يتحدث الصمت نيابة عن البنفسجي ربما يسقط المطر، تصدأ الأبجدية في الأفـواه. لا ننبس بكلمة حتى ونسترق النظر باقتصاد.. تبتسم فاتي في توهج، تفتح فاها، تنزل عينيها..

 أنت متحفظ معي، تتجاهليني حتى. جميع زميلاتي لهن أصدقاء لا يحرمونهن حقوقهن البنفسجية من عناق وقبل، همس ولمس. أنت تغيضني ببردتك هذه..
هكذا تلظت، عصفت في الوادي، في السكون و في دهشتي المطلقة، بحنجرة مليئة بمضاجع الغيث.

 تدركين جيدا، أصدقاء زميلاتك ليسوا أنا. ولست أنا هم.أنا..
 هنا أو هناك. كما في كـل الدواوير لا مجال للـمثالية أو التستر.ننبهر أحيانا، الوهلة الأولى جميلة المحيا كاذبة التعابير. ما أحد يسلم من سنبك الليل. حتى الرجل الأول في جمعية أولياء التلاميذ في سنبك الليل يتدافع منكباه مع مناكب البقية حول عتبة باب " تافروخت " التي لا يعود زوجها إلا من عيد لآخر و في الفجر يزاحم المصلين في الصفوف الأولى..

سجم الدمع في أسكف العيون الحيارى. اهتز الوادي بعنف الفضاء. تلوت الرمال الحزينة كثيرا تحت أقدام ترسم أشياء غامضة المعاني.

فاتي قد تكون أصابت و أخطأت دفعة واحدة. إنها لعبة الذباب، لعنته. لا يتجاهلها الفقر المعدم الذي نال من العواطف. هجرة الرجال. مر ض البقية بالبنفسجي و الحرية الحمراء. قهر الحكومة. سكن الحكومة. عرفها الحقير و غرفها الحقيرة لا تشجع إلا على استقطار نقاط تلك الحرية و لا تمنح أكثر من فرصة أو فرص للارتياد وللحظات..

وحدنا ذلك اليوم جئنا الوادي، وحدنا رقصنا مذبوحين من ألم اللهاب حافي القدمين. وحدنا رسمنا ناموس اللعبة فمذاق البنفسجي غالنا نحن أيضا.. لا أحد يتناسى اللعبة ولو للحظات على أرض الدواوير. حتى المحتفون في ظلمة قبو ضريح مولانا : خيمات العطارين بعد تنكيسها، ظلال أشجار الرمان المتداخلة. دون إذن مسبق نغط المسار العميق، نحلم، نهزم الضياع بداخلنا. نهزأ، نسخر مرددين؛ أيها البنفسجي الذي نسكنه ويسكننا كن معنا، كن رفيقنا.. هكذا عبرنا المدار إلى الجبل. الأفاق كانت مشدودة العصابة. و الزمن لا يعود خال الوفاض.. قبر الحكومة، سكن الحكومة يثير سيل لعاب الذباب. في غرفتي، كل شيء لم يعد مستحيلا أن يصبح بنفسجيا، حتى لباسها الداخلي، الأمل كان محدودا لكن مبدئيا مجانا، و جميل معانقته بأياد باردة وصدر دافئ. في ذلك المساء.. المساء الأول له، اهتز السرير كثيرا. عزف سيمفونية البنفسجي لعبة الذباب.

يقولون منذ أن دخل القبيلة الثالوث_ كهرباء الحكومة، صحونها المقعرة و معلموها_ و عدد الوفيات في ارتفاع مدو. نجاة المعلمين و غرق شباب القبيلة يوم مجيء الوادي، انقطاع الإرسال لحظة أخبار الظهيرة.. هذا كان كافيا ليكثر الحديث عن لعنة ما حلت بهم. بعض رجال القبيلة يؤكدون أن الأمر لا يعدوا أن يكون طبيعيا. هي مسألة أعمار، قدر و مكتوب الله. إلا أن القائم بأعمال الزاوية له رأي أخر، هو والبقية يركبان نفس العود، عود الريح. فيصرح أنها لعنة الذباب فلذّتها تفشت بالقبيلة مطلية بالجنس و الكثير من النحس.

الناس هنا وكما في باقي الدواوير البعيدة عن الطرق المعبدة، القريبة من الصحون المقعرة يعيشون جالية الداخل. يستعملون قبعات لا تقيهم من هجمات الجراد أو الناموس الأبيض. هم لا يؤمنون إلا بالوطن قبل الحياة. و وطنهم يكمن في مؤخرة الذبابة. الذبابة العالقة بين زرقة الماء وقبة السماء...


أي رسالة أو تعليق؟

مراقبة استباقية

هذا المنتدى مراقب استباقياً: لن تظهر مشاركتك إلا بعد التصديق عليها من قبل أحد المدراء.

من أنت؟
مشاركتك

لإنشاء فقرات يكفي ترك سطور فارغة.

الأعلى