الأربعاء ١ حزيران (يونيو) ٢٠٠٥
بقلم عبد الباسط محمد خلف

كشف حساب

عبد الباسط خلف:

تحاول تقديم ما يشبه" كشف حساب" للطريقة التي تختار فيها محاور موضوعاتك، وتهدف لإحداث إصلاحات في آلية عملك، بحيث تقرر الابتعاد عن "هضم الكلام" أو إعادة تكرار ما لا طعم أو لون أو رائحة له.

فليس مهماً أن تغالي في التعاطي مع موضوعات نمطية أو مستهلكة أو جافة أو "عرجاء"، بل الأفضلية للجدة….

في مهنة الصحافة" صاحبة الجلالة"، والبحث عن المتاعب، يكون رأس المال القراء وثقتهم بما يكتب هذا وذاك، وفي نهاية المطاف فإن الاختيار على "غير معدة" أو لو مجرد الكتابة، سيكون كعازف القيثارة الذي لا يجيد الإمساك بها، ويدعي أنه رئيس جوقة، في حين أنه لا يعرف السلم الموسيقي .…

في مهنتا لا بد من شفافية وإصلاح وبراءة ذمة وأداء يمين قانوني ومراجعة نقدية ذاتية قاسية غير مجاملة. وبالطبع ستتعقد المهمة عند الحديث عن صحافة تخصصية.

تتسلل إليك طائفة من الأسرار والخفايا، وتعلم أن زميل ما، نسب ذات مرة تقريراً باسمه كان نقلاً حرفياً حتى في علامات الترقيم عن مؤسسة محترمة، وعندما وضع على المحك، أدعى أنه غفل ذكر المصدر!
والطريف أن صحافياً، اعتاد على الإشارة لقضية مواطنين ما كدليل على المعاناة التي خلفها جدار الفصل العنصري، المفارقة العجيبة أنه بالغ في وصف حالة العجوز وما يتعرض له وكيف كان يجري هرباً من جنود الاحتلال رغم أنه الأخير بالكاد يستطيع المشي على قدميه، فالأيام تآمرت على عافيته، ولم يعد يخرج من بيته!

بعد ثمان سنوات من التخصص في الصحافة النسوية و مشتقاتها، لابد من مراجعة نقدية وصريحة تسعى للإطاحة بمعيقات قاتلة قد تشوه قوام العمل برمته وتبخر ثقة القراء بالكاتب.

مع تكاثر الأيام، تتعاظم الأسئلة وتتعقد، و تصيح مسألة الإجابة عليها مسألة صعبة المنال.

 فكيف نصنع ما نكتب، ولمن؟
 ولماذا ننحاز لقضية دون سواها؟
 وكم من الجهد نبذل في التفاعل مع موضوعاتنا؟
 وكيف نتعاطى مع ردة فعل القراءة والقارئات؟
 وهل نوثق ما نكتب؟
 وماذا عن الموضوعية؟
 وهل نؤمن بالرقابة الذاتية؟
 ولماذا نكتب؟
 و كيف " نُجندر" مقالاتنا وقصصنا؟
 وماذا عن آرائنا الخاصة؟
 بأرشفة موجزة لحصاد ثمان سنوات يمكن وضع " خارطة طرق" تمنح القراء والكتاب مؤشرات ما:
تستهل موهبتك عشية الانتفاضة الأولى 1987، بكتابة و نقد متواضع لأعمال تلفزيونية وتسلط الضوء على شخصيات نسوية أثرت في طفولتك، كاللواتي قمن بأدوار النساء المكافحات و المظلومات و المناضلات، و"تقصقص" من جرائد ومجلات بعض الأحاديث عن أمهات الشهداء والمناضلات، وتستوحي من كفاح والدتك الكثير من المحاور، وتحتفظ بها، وتشرع في عملية توثيق لأسماء الشهداء، وتخصص حيزاً خاصاً للشهيدات.

في العام الأول، وعشية دراسة الصحافة، تتبنى أحاديث عن قضايا شائكة عنوانها الرئيس تمييز ضد المرأة : التمييز بين الذكور والإناث، الزواج المبكر والمبكر جداً، مصادرة حقوق المرأة في الميراث، الحرمان من التعليم، الإكراه في الزواج، القتل خارج القانون، العاملات في القطاع الخاص ، ويساعدك عملك في صحيفة يومية على إبراز الكثير من الشهادات النسوية في قضايا عامة…

في العام الثاني، تطور قليلاً من أسلوبك بعد رحيلك عن مقاعد الجامعة، وتشرع في تطوير فن المقالة فتكتب في دوريات مختلفة عن الأسيرات المحررات اللواتي زرن الجامعة،وتبحث بين السطور عن موضوعات مشتقة تدلل على الظلم الواقع على الفلسطينيات.

عشية السنة الثالثة التي أصبحت فيها شريكاً لزوجة، ترشق إنتاجك المنشور وغير المنشور، وتسجل في يومياتك وخلال عملك الرسمي في قياس الرأي العام، العشرات من الوقائع عن النساء و المجتمع، وهنا يندلع أيضاً العدوان والانتفاضة و يضاف للنساء المزيد من الأوجاع.

خلال السنة الرابعة، تشرع في توثيق حكايات مرة عن علاقات الأمهات مع الدموع والقيود والجراحات، وتنشر غير قصة تفطر ألماً.
في السنة الخامسة، تشرع في توثيق شهادات لأمهات فقد أولادهن الحركة، وأضيفوا لقوائم "المعاقين"، وتعيش أحزان الفلسطينيات في هذه السنة، حيث نيسان أحمر ومجازر ودموع لا تتوقف، وتبدأ في الانحياز لأسلوب القصة الصحافية كونها تحول الكلمات لناطق رسمي يشير للألم .

في العام السادس، تتسلل الاعتيادية إلى أقلامنا، ويصبح المشهد مكرراً، فنبحث عن طريقة أخرى للقص، هنا يتصاعد العدوان والحصار، وتبدأ الفلسطينيات في تحمل المزيد من المعاناة، تنقل للقراء، كيف تحولن إلى مناضلات على عدة جبهات، فيواجهن الحصار و يؤسسن لمشروعات اقتصادية تخفف من حدة الفقر، ويشاركن أزواجهن في الإطاحة بالضنك المتصاعد..

في السنة السابعة، تقرر تبني مزجاً صحافياً أدبياً يكون كفيلاً بالفرار من قسوة الرقابة الذاتية والغيرية، فتكتب مجموعة أولى تتحدث عن ممارسات عمياء للمجتمع تطارد النساء ليس لسبب سوى أنهن نساء، وتشرع في الحديث عن نماذج رياديات من النساء تفوقن واثبتن جدارتهن، وتحاول البحث عن عناصر ناعمة في قصصك البيئية و التنموية.

في السنة الثامنة:تقارن بين نساء وطنك المضطهد، ونظيراته في الولايات المتحدة وأوروبا ومصر، وتحظى بجائزة أدبية عن نص انحاز لمعاناة نساء عاملات كررن تقريباً حكاية" رجال في الشمس" الشهيرة وتتبنى نموذج الحديث في ذات الموضوع عن عدة حالات تتيح الانتصار لغير امرأة.
مع كل مطبوعة محلية وعربية وملموسة أو تحتل حيزاً في الشبكة العنكبوتية تضع تقييماً لها، وتتمنى لو عدلت قليلاً من النص.

ومما يسيطر عليك، كيف أن الكثيرات من الكادحات في الظل أو المضطهدات اللواتي عرفن أنك الذي تكتب في الشأن النسوي، يشعرن بالانتقاص من حقهن، فهن صاحبات قضايا ولا تستطيع الإشارة إليهن، لغير سبب وتكتفي بتلميح وأن قل.

عقب هذا التخصص، يمكن الحديث بشفافية عن قضايا تقطع الطريق عليك وعلى غيرك، فالحقيقة والتعاطي معها تقع ضحية لأصناف الرقابة. وأيضاً تراجع القراءة تجعل الكلمات منزوعة التأثير، وعندما تكبو قليلاً ولو بصرف أو نحو أو قفز عن الرقابة أو خلل في الصف والطبع، فإن الكل يتذكر، وتصبح بحاجة لتبريرات وأعذار.

أكثر الذي يؤرق صناع الكلمات، غياب التقدير أو تأجيله أو تقزيمه، فكم من ناشر و رئيس تحرير ومسؤول يقول للكاتب: شكراً، ولكن الموازنة عقيمة لا تستطيع تقدير جهودك، في حين أن الورق والحبر والحاسوب والتيار الكهربائي والبائع والطابع وغيرهم يستلمون أجورهم قبل جفاف عرقهم.
بخلاصة مقتضبة يمكن تقديم نصائح لمن يود الكتابة في الشأن النسوي وسواه:

  القضايا أكثر من شعر الرأس، لمن لم يتآمر الصلع عليه، فعلينا اختيار ما نشعر أنه الجديد الذي سيضيف.
 إذا لم نعثر على ما هو مهم، وهو أمر نادر، فالأولى أن نحتجب عن الصدور، فالكف عن الثرثرة فن أيضاً.
  الموضوعية، تقضي أيضاً أن نقتصد في الإثارة، ولا يعنى تأجيل النشر أو عدمه إذا كانا في سياق إيجابي، أن الدنيا ستتوقف عن الدوران.
  الفصل بين الرغبات والحقائق والأحلام.
  الكف عن التكرار.
  الابتكار، فبوسعنا الانطلاق في أفكار غير مستهلكة.
  احترام القراء، وهذا يعني أن نتعامل معهم كحلفاء.
  تستحق النساء العاديات أن نتحدث بلسانهن، فمن أفواههن نصنع حكايات تقدمية.
  إذا لم نفلح في نشر الحقيقة، يمكننا الاستعانة بالأدب والرمزية، فالمهم أن نخفف من حدة الظلم الواقع على "شقائقنا".
  لنتحدث قليلاً عن الأمل.
  الحديث عن الناجحات يدفع سواهن للحاق بالركب.
  "الفبركة" ستنكشف يوماً.
  بوسع الكلمات ممارسة حرفة الرسم ونقل الألم، تماماً كاستطاعة الصورة تجسيد الكلام واختزاله.
  تبني قضية لا يعني التمثيل والادعاء، فعلينا الكتابة من الأعماق.


أي رسالة أو تعليق؟

مراقبة استباقية

هذا المنتدى مراقب استباقياً: لن تظهر مشاركتك إلا بعد التصديق عليها من قبل أحد المدراء.

من أنت؟
مشاركتك

لإنشاء فقرات يكفي ترك سطور فارغة.

الأعلى