الأربعاء ١٠ آذار (مارس) ٢٠١٠
بقلم مصطفى أدمين

الذِّئْبُ حَرَامٌ... الذئب حلال...

وهي طفلة ترعى الغنم في غابات مدينة «لَقْباب» البعيدة؛ كاد الذئبُ يأكلُ والدتي.

فسألتُها:هل ما زال الذئبُ موجوداً في أريافِنا؟ فتنهّدتْ، وقالتْ:للأسف، لا! ولكنّ الذئاب كثُرَتْ في حواضِرنا.

كنتُ صغيرا، ولم يكُنْ بإمكاني فهمُ كلامِها المجازي. فقلتُ لها بعفوية وبراءة الأطفال:أنا لم أرَ ذئباً قَطُّ في مدينتنا.

فمسحتْ بيدها رأسي، وقالتْ:أرجو من الله أن ينجّيك منها.

وفي بداية مراهقتي، ببوادي مدينة قلعة السّراغِنَة، أكلتُ الذئب. اصْطادَهُ (لنا) عمّي خليفة الخبير بتربية الكلاب السّلوقِية، والصيد بمختلف الأدوات:الحجارة،الهراوة، الفخاخ، المصائد، البندقية، والكلاب. عمّي الذي كان فخرُه كبيرا لمّا يصطادُ الوحيش بما أعطاه الله من وسائل طبيعية.

فجاءَنا ـ ذات صيف ـ بذئب؛ وسارعت النسوة إليه ليتحقّقن من صيْدِه «الثمين». وابتسمت جدّتي حليمة، وقالت لكنّاتِها:إنّ في لحمِه دواءً وشفاء. وتغامزت النسوة تغامُزاً فهمتُ منه أنّهن يفكّرن في استعمال بعض أعضاء الذئب في أمور تعنيهنّ؛ ربّما فروَه، قلبَه، مُخَّه، حُويْصلتَه الصفراوية، أنيابَه، رجْلَه، ... في أمور السحر، التّقية، التجميل، الاستشفاء، أو في الخرافة من قبيل، جلب الحظّ، الشجاعة، أو الفُحولة...

فقُمن إلى الكُشِّينَة «المطبخ» لتهيئة الذئب كوليمة متعدّدة الفوائد. وجلس الرجالُ في فناء البيت وضوء القمر ينتظرون. وكان من بينهم صديقُ عمّي الملقّب ب"السَّبُع" بسبب الزغب الذي يكسو كاملَ وجهِه، وعمّي عبد القادر الفتي، ووالدي أحمد المُقاتِل…

لقد كانت أمسيةً عظيمة لن أنساها ما حييت؛ إذ كانت أمسية الحكْي قبل أن تكون أمسيةَ "الوليمة الذئبية".

حكى والدي (وهو كبير إخوتِه) عن بطولاتِه العسكرية والفدائية في حرب الهند الصينية، وحرب التحرير الوطنية، وحكى عمّي عن الطريقة الذكيّة التي نهجها سلوقياهُ "الحَمْري" و"الأشْهَبْ" في مُحاصرة ذلك الذئب، وكيف عالجَهُ بضربة من هراوتِه، وحكى "السّبُع" عن اصطيادِه لقنفذٍ ضخم بمساعدة كلبِه "العَرْبي"؛ في حين سأل عمّي عبد القادر والدي:هل تسمح لي بالمشاركة في المسيرة الخضراء؟ وأنا سألتُه:الذئبُ يشبِهُ الكلب، فهل هو حلال؟

فجاء الكُسْكُسُ بلحم الذئب. ويا أ الله كم كان لذيذا!

واستمرّتُ السهرة حتى مطلع الفجر. وأنا أقاوم النُّعاس؛ أعدتُ السؤال. فقال لي:الذئابُ تأكلُ مواشينا، ومن حقّنا أن نأكُلها. ولأخيه قال:شارِكْ في المسيرة، فهذا واجبُك!

فكبرتُ وتعلّمتُ، وصِرتُ أفهمُ اللغة وتلويناتها. فرأيتُ وسمعتُ، وتألّمتُ وقرأتُ، وتحرّكتُ وتجمّدْتُ، وتكلّمتُ وسكتْتُ، وكتبتُ ومحوتُ، فوُبّختُ وحُذّرتُ، وهُدِّدْتُ وأفْرٍدْتُ. ففهمتُ أنّ الذّئاب "الحضرية" التي كلّمتني عنها والدتي، ما هي إلاّ البشرية المتوحِّشة، وفهمتُ أنّ أخطرَها، تلك التي لها أنيابَ السلطة، وبراثن القانون المخدوم؛ لأجل "أكْلِ" الخراف الوديعة، وإخمادِ صوتِ الكلاب السّلوقية النبيلة، وتدجين السِّباع الضارية...

الذئبُ حرام! أخبرني بذلك مُعلّمي الفقيه المصْلوحي في مدرسة الحارة القرآنية بمراكش.

الذئبُ حلال! أخبرتني بذلك أمّي، وتجربتي الوجودية؛ فعلى سبيل المثال:ترويج الخمور، زراعة الحشيش، القُمار في الكازيهونات، وفي المقاهي البائسة حول كرة القدم، وفي غيرها من المقامرات، نزع الملكية، الاختطاف، القتل، التفقير، التهجير، السكوت عن مختلف أشكال الدعارة، الرشوة، اختلاس المال العام، التجهيل باسم التعليم، الفتاوى الظالمة، المحسوبية، الزبونية، دعارة (بعض) المثقفين، الافتخار بالرّداءة في جميع المجالات، إسنادُ الأمور لغير أهلِها... أمّي كانتْ أمِّية فاهمة؛ فما من ذئب حلال أو حرام سوى "الإنسان"... أمّي فقط.


أي رسالة أو تعليق؟

مراقبة استباقية

هذا المنتدى مراقب استباقياً: لن تظهر مشاركتك إلا بعد التصديق عليها من قبل أحد المدراء.

من أنت؟
مشاركتك

لإنشاء فقرات يكفي ترك سطور فارغة.

الأعلى