الأربعاء ١٧ آذار (مارس) ٢٠١٠
بقلم غزالة الزهراء

الدرب المضيء

ضربات والده القاسية في قسوة الردى تنثال على جسده الضامر، يصرخ والبصاق يتطاير من فيه كالهشيم: لم تعد عنصرا صالحا أيها الأبله الوضيع، لا فائدة منك ترجى أبدا.
تكشر الزوجة عن أسنانها الصفراء المتآكلة، وترعد موبخة، مهددة: اقذف به بين فكي الشارع المارد لنتخلص من عبئه الثقيل، لسنا بحاجة ماسة إلى هذا الأبله الحقير.

المسكين يتلوى اضطهادا تحت وقع السوط، أنفاسه اللاهثة على وشيك التوقف، لم يجسر على الإفلات من قبضة أبيه، الوضع الراهن بالغ التعقيد لا يدعمه بتاتا على الفرار من هذا الجحيم المسعور الناطق.
كانت زوجة أبيه المتسلطة تشهر باستمرار في واحة وجهه اتهاماتها الباطلة دون محاسبة نفسها على اقتراف الذنب الجسيم.
ـــ ابنك اختلس مني أقراطي الذهبية.
ـــ ابنك أمطرني بشلال من الشتائم المقذعة التي يتندى لها الجبين خجلا.
ـــ ابنك لم يرضخ لأوامري رضوخ الابن البار رغم أنني بمثابة أمه التي ولدته، وربته.

ذرع الأزقة جيئة وذهابا من غير هدف، آلام السوط لا زالت تلسعه لسعا، كاد جسده النحيل ينزف من كل جهة، وفي حالة التوهان المريعة التي ابتلعته ابتلاعا راح يناجي والدته الحبيبة التي أعلنت فراقها عنه منذ عامين فقط: لو كنت على قيد الحياة لتوسلت إلي بدموعك الماطرة ألا أرحل، أنا أدرك تماما أنك تكنين لي بين جوانحك أعمق الحب، وأبلغ التقدير، ولا تقوين على فراقي المر.

أثناء فترة الاستراحة يتسابق إليه التلاميذ، يتحلقون حوله متلهفين، يطالبونه بأداء أغنية جميلة من أغانيه.
يهتف أحدهم مترجيا: أسمعنا ما في جعبتك يا صاحبي، صوتك ساحر يخلب اللب.
ينطق آخر محفزا إياه نحو الدرب المضيء: ستكون مطربا لامعا تشنف آذان معجبيك، ومعجباتك.

تحت هذا السيل المتدفق من التوسلات ينطلق بحنجرته يغرد كالبلبل، ويصدح من غير قيد، ويوقع على محفظته بأصابعه النشطة كأنما يوقع على أوتار عود.
سأله والده ذات مساء مستفسرا: أتهوى الغناء؟ إني أسمعك دوما تدندن في غرفتك.
ـــ عشقي للغناء لا تحده حدود، أملي الوحيد أن أحقق حلمي الذي ما فتئ يراودني.
عرك أذنه بقوة حتى احمرت وكاد يطفر منها الدم، ثم زمجر في وجهه كعاصفة رعناء: أي حلم تريد تحقيقه؟ أأنت مختل عقليا؟ من اليوم فصاعدا فلا أود سماع نقنقتك، هلا فهمت؟

سرب من الشبان المتشردين يتقدمون نحوه، اعتدلوا بقاماتهم، وبرقت عيونهم المحرومة قسوة وضراوة.
بادره كبيرهم: هات ما عندك.
ـــ ليس عندي شيء
نطق آخر وهو يعبث بسكين حاد بين أصابعه: سنوسعك ضربا مبرحا إن لم تجد علينا بما تزخر به جيوبك أيها الكلب.
هجموا عليه كبني آوى، أشبعوه ركلا ولطما، ثم تفرقوا صائحين صاخبين كهنود حمر.

طفق النهار يلملم وشاحه الدافئ ببطء من على كتفي المدينة فاسحا المجال لذلك الليل البهيم ليستقر من جديد.
ـــ ماذا تفعل هنا في هذا الوقت المتأخر؟ هيا عد إلى البيت.
ـــ كيف لي أن أعود وقد طردني والدي شر طردة؟
باندهاش سأله زوج أخته: طردك!؟ أيعقل هذا!؟ ألا تختلج بين ثنايا قلبه رحمة؟
ثم مسكه من يده بلطف، وقال باطمئنان كبير: الشارع لن يكون لأمثالك، أنت مطرب ناشئ ومن واجبي أن أرعاك حفاظا على موهبتك حتى آخر نفس.
راح يخطو إلى الأمام بجانبه في ثبات والأمل القزحي يغمره بهالة مشعة من الاطمئنان والرضا.


أي رسالة أو تعليق؟

مراقبة استباقية

هذا المنتدى مراقب استباقياً: لن تظهر مشاركتك إلا بعد التصديق عليها من قبل أحد المدراء.

من أنت؟
مشاركتك

لإنشاء فقرات يكفي ترك سطور فارغة.

الأعلى