الأربعاء ١ حزيران (يونيو) ٢٠٠٥

حامد الآمدي ... عبقريُّ الكتابة الإسلاميّة

بقلم الخطاط : معصوم محمد خلف - سورية
بريشة الخطاط السعودي عدنان العباد

الفن لغة تواصل إنساني ، ووسيلة تبادل المشاعر التي لا تعترف بحدود أو مصطلحات ، إنه قيمة تعبيرية ، جمالية وأخلاقية .

والفن رسالة سامية تنبعث من الضمير الإنساني اليقظ ليرسم الملامح المتوهجة بألق النور وصدق العزيمة ونبراس الحقيقة .

والفن الإسلامي يعدُّ خطاباً متحد المعاني ولغة متفردة عبّرت عن وحدة المسلمين واتصالهم الوجداني على الرغم من تباعد الأقطار والأقاليم ، والفنون بوصفها وعاء لقيم الشعوب وانعكاساً لمفاهيمها هي القوة الخلاقة التي تستطيع أن تبني عالماً بأكمله ، حيث سجلت بصدق مفهوم المسلم للكون وللحياة ، وقدمت البديل الواقعي للتصورات الجامدة والرتيبة والخاوية التي راوحت عندها فنون الأمم الأخرى حقباً طويلة .

والخط العربي إحدى صيغ الفنون الإسلاميّة أثرى حياة المسلمين ولا يزال بتوكيده الصلة الوثيقة بين العقيدة والتعبير الفني الملتزم ، ولما له من ارتباط بفنون التشكيل والزخرفة مما منحه القدرة على التأثير العميق في فنون الحضارات الأُخرى .

والخطاط حامد الآمدي يعد أحد عباقرة فن الخط وشيخ أقطاب أهل هذه الصناعة ، حتى أن بعض الباحثين والمفكرين وصفوه امتداداً للعظماء الثلاثة الذين كتبوا في تاريخ الكتابة سِفراً لا يمحى على مر العصور والأزمان ، " ابن مقلة ، وياقوت المستعصمي ، وابن البوّاب " .

وهو صاحب أشهر ثلاث طغراوات (1) منها طغراء الملك فيصل/ رحمة الله عليه/ ملك المملكة العربية السعودية ، وطغراء السلطان عبد الحميد الثاني ، سلطان الدولة العثمانية ، وطغراء الإمبراطور محمد رضا بهلوي ، شاه إيران .

ولد حامد الآمدي عام 1309هـ / 1891م ، في مدينة (آمد ) ديار بكر ، الواقعة في منطقة كردستان التركيّة ، فهو كردي الأصل ، تركي الهوية ، مسلم الانتماء ، عربي الإبداع .

فهو مزيج فسيفسائي من القوميات المتعددة التي تستظل في ربوع الدين الإسلامي حيث التعزيز والتكريم محاطاً بهالة تقديسية تحت قُبّة الفن الإسلامي الفسيحة والواسعة لجميع الأطياف والأجناس من الشعوب والأمم .

ولهذا نرى في بعض لوحات حامد توقيعه عليها ( حامد الآمدي ) أما اسمه الحقيقي فهو الشيخ موسى عزمي ، الذي كان معروفاً به في تلك الفترة وكان يستخدم اسم ( عزمي ) الذي كان معروفاً به في تلك الفترة وكان يستخدم اسم عزمي في التوقيع على كتاباته في شبابه ،
والده كان قصّاباً ، أما جده لأبيه فكان خطاطاً ويدعى آدم الآمدي . تعلم القراءة منذ صباه فالتحق بكتّاب الصبيان والملحق بالجامع الكبير في ديار بكر ، ولع بالرسم والخط وكان شغوفاً ودؤوباً على الكتابة ، مما لفت أنظار الناس إليه ، ومن ولعه وشوقه للخط أخذ يقلد الآخرين في صباه .

تتلمذ الآمدي على يد خطاط يدعى / مصطفى عاكف / وهو أول معلم للأستاذ حامد .

أنهى حامد دراسته الأولية ودخل المدرسة الرشيدية العسكرية في ديار بكر حيث تعلم خط الرقعة من أحد معلميه وخط الثلث من أحمد حلمي بك وكان إذ ذاك معلماً للرسم ،
كما أخذ حامد خطوط اللغة اللاتينية والرومانية والقوطية من هذين المدرّسين ، كما مارس الخط أيضاً من قريب له يعرف ب ( عبد السلام أفندي ) ومدرّس يدعى سعيد أفندي وكان هذا إمام مسجد وكان له أسلوباً خاصاً في التعليم حيث يأمر التلاميذ بكتابة الآيات الكريمة عدة مرات .

وبسبب اهتمام حامد بفن الخط رسب في عامه الأول من دراسته فمنعه والده من مزاولة الخط وحثه على مواصلة دروسه ، لكن هذا العبقري لم يعبأ بذلك فأخذ يواصل مشواره الفني البديع ويدافع عن موهبته المتأصلة ورغبته المتأججة في نفسه الأبية عن هذا الفن الجميل .

وقد حدث له حادث أثنى عليه والده وتراجع عن قراره الأول وأمره بمزاولة الخط وهو أن حامداً ساعد بعض مدرسيه في كتابة لوحة خطيّة على القماش تمثل عبارة / يحيا السلطان / بمناسبة عيد جلوس السلطان عبد الحميد الثاني ، فدفعه حبه للخط في هذه المناسبة أن حاول كتابة طغراء السلطان مما حدا بالمسؤولين في ديار بكر أن يمنحوا حامداً " ليرة ذهبية " مكافأة له على هذا الصنيع فأخبر بذلك والده وهو فرح مسرور ، لذلك سامحه وأذن له بمزاولة هذا الفن .

وفي أثناء دراسته العسكرية قلّد خريطة في أطلس مدرسي بدقة متناهية جعلت أستاذه يودعُ تلك الخريطة في متحف المدرسة إعجاباً بها وتذكاراً لصاحبها .

وبعد أن أنهى حامد المدرس الرشيدية دخل بعدها المدرسة الإعدادية وفيها داوم على تعليم خط الثلث الجلي بتقليد كبار الخطاطين كالحافظ عثمان ومصطفى راقم ، وفي هذه المرحلة التي تم فيها تقليد العظام من فناني الخط ترك الرسم جانباً وتفرغ لفن الخط بشكل خاص .

ويقول عن نفسه " لما عزمت على تعلم الخط كنت ( عزمي ) ولما بلغت ما بلغت حمدتُ الله وسميتُ نفس حامداً .

وكان يلتقي مع خطاطي أستانبول المشهورين حيث كان يطوّر بحديثه معهم مستواه في الخط ليس بطريق المشعر عنهم ولكن بطريق المذاكرة والحوار حتى استطاع بموهبته الفذّة أن يفرض نفسه أستاذاً بين الأساتذة في أستانبول التي كانت آنذاك ميداناً للامتحان يتبارى فيه الخطاطون لإبراز مهاراتهم .

أنهى حامد المرحلة الإعدادية بنجاح سنة1906م والتحق بمدرسة الصنائع النفيسة والتي تعرف بأكاديمية الفنون الجميلة باستانبول حالياً ، وكان والده يرسل له ثلاث ليرات ذهبية في كل شهر كمصروف له ، إلا أنه ترك دراسته هذه بعد عام واحد من دخوله لهذه الأكاديمية بسبب وفاة والده عام 1908 م واتجه حامد للكسب بسبب حاجته الملحة فظل يعمل بأشياء بسيطة يسيّر
بها حياته وحياة أسرته ، وفي هذه الفترة أعلنت وزارة المعارف العثمانية عن حاجتها لمدرس للخط فانضم حامد ودخل الامتحان وتفوق فيه ، غير أنه رُفض بسبب صغر سنه الذي لم يبلغ الثامنة عشرة ويختلف هذه السن عن السن القانونيّة بوزارة المعارف وهو عشرون سنة ، لكن إعجاب مدير مدرسة / ركش معارف / بحامد دفع وزارة المعارف إلى قرار تعيينه في هذا المنصب كمعلم للخط في تلك المدرسة .

بدأ حامد يدرّس الخط فكان الطلاب من فصول ثانية يحضرون دروس حامد ومنهم الخطاط التركي / حليم أوزيازيجي / ، درّس حامد الخط سنة واحدة انتقل بعدها إلى العمل في مديرية مطبعة الرسومات ، حيث بقي فيها عاماً واحداً ، انتقل بعدها إلى العمل في مطبعة المدرسة العسكرية ومنها عمل خطاطاً بمطبعة أركان الحرب العثمانيّة في المكان الذي كان خالياً بوفاة الخطاط الشهير ( محمد نظيف ) وبقي فيها مدة سبع سنوات ، حتى قامت الحرب العالميّة الأولى ، فسافر مع مجموعة جيوش الصاعقة في برلين حيث تلقى دروساً خاصة لمدة سنة في دائرة الخرائط التابعة للهيئة العامة لأركان الحرب الألمانيّة . وأثناء عمله في مطبعة أركان الحرب ، فكّر أن يستفيد من أوقات فراغه الذي كان يعاني منه كثيراً حين ينتهي من دوامه الرسمي ، ففكر أن يفتح دكاناً صغيراً يمارس فيه الخط ، ويكتسب منه خبرته ورزقه ،ففتح هذا الدكان في حي يعرف بحي (جاغال أوغلو ) في أستانبول .

وكان القانون يمنع من يزاول مهنةً أخرى بجانب وظيفته فاتخذ هذا الخطاط اسماً مستعاراً يعرف / بحامد / فانتقل بعدها من دكانه الصغير في الحي المذكور واستأجر دُكاناً آخر للخط في شارع الباب العالي وبقي فيه حتى وفاته .

وقد أمضى حامد عمره في معمعةٍ مع الخط فلم يترك القلم من يده حتى قبل عام من وفاته في الرابع والعشرين من رجب عام 1402هـ 18 مايو 1982م .

يتميّز عمله بالدقة المتناهية والصعوبة في الإنجاز ، وثروته الفنية التي خلفها تدل على عبقريته فعطاؤه كثير وأعماله الفنية لا تُحصى من أهمها أنه كتب المصحف الشريف مرتين طبعت نسختاهُ في تركيا وألمانيا وله خطوط في جامع ( قبة تبة ) بأنقرة وجامع (موضه ) بأستانبول حيث كتب فيه سورة الفاتحة ، وجامع ( فارنال ) بأستانبول كتب فيه سورة النبأ .

ومن أعماله الخطية لوحة / سورة الفاتحة / وفيها قلّد خطوط /راقم / حيث بقي يخطّها ستة أشهر كاملة فكانت آيةً من آيات الحُسن والجمال .

وقد أبدع الشاعر أمين نخلة في قصيدة رائعة يصف هذا النابغة الشهير فيقول :

بأحلى خطوط الوشي ما خطّ حامدُ

وتفديه أُمٌّ للربيع ووالدُ

أُحاول بالتشبيه وصف سطوره

وإن أعجز التشبيهُ ما أنا ناشدُ

فكالجيش هذا صفه غير ملتوٍ

وكالغيد هذا سربهُ المتواردُ

لعمرك ليس اثنان في العصر إنما

أخو عبقريّات المراقم واحدُ

إذا خطَّ شعراً جوّد الشعر خطهُ

كأن عليه أن تجود القصائدُ

وما ذاك صوغ اللفظ لكنَّ روعةً

لها من مصوغ الخط لمح يُشاهدُ

أحامد تلك الضاد هل كحروفها

حلا لعيونٍ إثمدٌ ومَراودُ

إذا ألفات الضاد لاحت قدودها

بدا في قدود الغيد ، قالٍ وحاسدُ

وفي نقط الثاءات غمزٌ مُحببٌ

وفي العين غنجٌ فهي غيداءُ ناهدُ

ولله كم في السين روحٌ لمقلةٍ

لها من تعاريج هناك وسـائدُ

لِخطّكَ بات الحبر كالتبر غالياً

وأطنب دلاّل وفصّل شاهدُ

وفي السّبجِ اللّماح قام معيّرٌ

يقول ألا أين الحلي والفرائد .

كما يتميّز في لوحاته ذلك الزقاق الجميل الذي يفصل بين حرفين في كلمةٍ واحدة مثل ذلك مكررة في / آية الكرسي / التي خطّها كثيرون من الخطاطين لكنها لم تحظَ بالجمالية المطلقة مثلما خطّها ونمّقها /حامد/ ففي كلمة ( تأخذه ) نرى أن حرف التاء والخاء جاءا على استقامة واحدة يفصل بينهما فراغ جميل يستشفُ آفاقاً رحبة للتركيبة الحميمية الرائعة التي تنبعث من أرجائها علامات الانصهار والتألق والانسجام ممّا أعطى للكلمة دِقّة التركيب وروعة الجمال، كما أعاد الطريقة في نفس الآية الكريمة من كلمة ( بشيء من ) فنرى أن بداية الكلمة من حرف الباء جاءت بمثابة اتّكاء لحرف الميم مما أعطى للكلمة ولحرف الجر أسلوباً متطوراً في مزج الكلمة مع التي تليها ، نفس الجمالية مكررةٌ في الآية الكريمة " إنما يعمر مساجد الله من آمن بالله واليوم الآخر" كما تكرر في البسملة في لوحة الطغراء في كلمة لفظة الجلالة حرف اللام مع الحاء ،
غير أن الأعمال التي بلغها في الخط عقب شيخوخته كانت تحظى بالدقة والصلابة والجمال .

أما أعماله في ألمع أدوار حياته الفنية تلك الأعمال التي قدّمها بين أعوام 1341ـ 1385هـ
الموافق 1923 ـ 1965م وانتشرت في كل أنحاء العالم الإسلامي وقد كان مبدعاً في جميع أنواع الخطوط ، إلا أن شهرته كانت تفي خط الثلث الجلي من جميع جوانب العبقرية والإبداع وقد تخرّج على يديه العديد من طلاب الخط في شتى أنحاء العالم الإسلامي ، فهو بمثابة الحلقة التي اتصلت حلقاتها من هنا وهناك ، وأحد الأسباب الرئيسية في ترابط عقد هذا الفن واستمراره إلى هذا اليوم .

وللآمدي رحمه الله كتابات كثيرة على قباب المساجد وعلى جدرانها وخاصّة في جامع (شيشلي ) في أستانبول ، كذلك فإن لوحاته المحلاّة بالزخارف والتذهيب بين المجموعات الخاصّة كثيرة هي الأخرى .

وقد دفن حامد بناءً على وصيته في مقبرة / قرجه أحمد / بجوار الشيخ الخطاط حمد الله الأماسي ، وترك لنا تراثاً خالداً للأجيال المتعاقبة ، ينهلون من معينه العذب في رحلةٍ لا تنتهي من جمال الحرف ومتانة اللوحة إلى قوّة الإبداع وفلسفة التركيب المعجز .

المراجع :

  فن الخط، مصطفى أغور درمان ، منشورات مركز الأبحاث للتاريخ والفنون والثقافة الإسلاميّة في أستانبول .
  الخط العربي ، حسن المسعود ، دار فلاماريون ـ باريس
  العثمانيون في الحضارة والتاريخ ، الدكتور محمد حرب ـ دار القلم ، دمشق .

الهوامش :

( 1 ) الطغراء ، تعد الطغراء أرقى ما وصلت إليه فنون الجمال التزييني بالخطوط وأصبحت في العصور الحديثة أكثر بساطة من حيث التصوير وأوضح قراءة من حيث الخط ، والطغراء نوع من أنواع الخط العربي .

بقلم الخطاط : معصوم محمد خلف - سورية

مشاركة منتدى

  • تحية لجناب المعصوم
    قراءتي لمقالتك زادت في رغبتي بالتعرف أكثر فأكثر بالإبداعات التي تستخدم الخط العربي مادة لها لا سيما أن أصحابها ينتمون إلى قوميات مختلفة. ولكن حبذا لو أن مقالتك والتي قد تضمنت قصيدة جميلة تصف روعة فن الآمدي حبذا لو أردفتها بصور لإبداعات هذا الفنان ليتسنى لنا مشاهدتها من خلال ديوان العرب.
    وأرغب بطرح سؤال عن أهمية مشاركة الفنان العربي بإبداعات الخط العربي نسبة لما يقدمه فنانون إسلاميون من جنسيات مختلفة.
    تحية عطرة لك، وأرجو أن تعرفنا في مرة قادمة عن تاريخ هذا الفن وتطوره وأعلامه، وشكرا لديوان العرب
    د. شاهر ذيب

أي رسالة أو تعليق؟

مراقبة استباقية

هذا المنتدى مراقب استباقياً: لن تظهر مشاركتك إلا بعد التصديق عليها من قبل أحد المدراء.

من أنت؟
مشاركتك

لإنشاء فقرات يكفي ترك سطور فارغة.

الأعلى