الاثنين ٢٢ آذار (مارس) ٢٠١٠
بقلم ياسمين محمد عزيز مغيب

صرخةٌٌ في جوف الليل

كنتُ أهيم بعالم خيالي وكثيرا ما كنتُ أحلم أني أمطتي حصاني الطائر الذي يجوب بي كل مكان، وكان حصاني يختلف عن أي حصان فهو ساحرٌٌ لا يسمع من الأصوات إلا الصرخات، وكانت تؤلمه هذه الصرخات فكان يهرول إلي مسرعا، يطلب مني أن أوقف صداها بأي شكل وبأي طريقة وخصوصا في الليل.

وذات مرة أيقظني من النوم وهو يصرخ كيف تنامين والصرخات تملأ كل الأجواء من الأرض للسماء فقلت له وماذا تريد مني أن أفعل؟ والناس لا يقبلون أن يتدخل أحد بحياتهم، فرد علي قائلا:ً لن أجعل أحد يراك ولن يفطن أحد إلى وجودك، ولكن ساعديني في إيقاف هذه الصرخات التي تؤلمني وتؤرق نومي، وبالفعل ارتديتُ ثيابي وامطتيتُ حصاني وخرجت من البيت، وتوقف حصاني عند أول صرخة، وأخبرني الصرخة تصدر من هذا البيت.

 دخلت البيت ولا أدري كيف، ولكن من الواضح أن حصاني ساحرٌ ماهرٌ ويمتلك قدرات غير عادية، فوجدتُ طفلاً رضيعاً يبكي بحرقةٍ، ولا أحد يسمع صدا صوته.

فدخلتُ وأيقظت أمه كيف لأم أن تنام جفونها ووليدها يأن من الجوع وإذا بأمه تستيقظ من النوم ولم تتجه إلى رضيعها ولكنها، قامت مهرولة إلى غرفة الخادمة، وطفقت تُسدد لها لكمات وضربات وأخذت تسبها بأشد ألفاظ السباب كيف لكِ يا خادمة أن تنامي وابني يتضورُ جوعاً، وتركت الأم الحنونة ابنها، واستمرت في ضرب الخادمة التي لم يتجاوزعمرها خمسة عشر عاما، وتطلب منها الأم أن تكون أما بديلا لابنها لتنعم هي بالنوم.

ولم أملك نفسي إلا وأنا أوقظ زوجها من النوم لكي يرى المرأة التي تزوجها على حقيقتها، وبالفعل قام زوجها وانهال عليها بالكلام اللاذع، فقال لها: أنتِ لا تستحقين لقب أم يا من تركتِ ابنك لخادمة صغيرة لكي تقوم بأشباع رغبته وسد رمقه من الجوع، وهي نفسها تحتاج إلى من يشبع رغباتها فهي لازالت طفلة صغيرة، وإن كنتِ لا تستطيعين أن تقومي بدورالأم فلماذا أنجبته؟

فسكتت الأم ولم تتفوه بكلمةٍ واحدةٍ ثم حملت الأم ابنها وأطعمته، وخلد الطفل للنوم في حضن أمه.

ثم خرجنا من البيت وكان حصاني سعيداً جداً وأخذت علامات السعادة تبدوعلى تقاسيم وجهه ولكن سرعان ما تحولت الابتسامة إلى حزن وعبوس، وأخذ يصرخ أنقذيني هناك شخص يصرخ بمكان قريب من هنا.

وحملني الحصان إلى هذا المكان ودخلناه وإذا به دار للمسنين وكان فيه عجوز مريض يأن ويبكي من قسوة أبنائه عليه، وأنهم ألقوه في هذا الدار منذ سنوات، ولم يحاول أحد منهم أن يسأل عنه، ليدري إن كان لازال حيا أو فارق الحياة وكان العجوز يتضرع إلى الله بقوله يا رب إن كنت قد عققت والدي وأنا بسن المراهقة إرحمني ولا تعاقبني بما فعلت نفسي، ولا تُحملني مالا تطيق نفسي.

وإذا بي أسأل الحصان الساحر احملني إلى أحد أبناء هذا الرجل فورا.

وبسرعة البرق حملني الحصان إلى ابن هذا الرجل وقمتُ بإيقاظه من نومه وأخبرته أن والدك يحتضر وقلبه غاضب عليك، وأسرع الابن وفتح الباب وأسرع إلى الدار وكان قد ضل الطريق فأخذ يفكر أين مكان الدار؟ واتصل بأخيه وسأله إلى أن وصل إلى الدار، وسمع صوت والده وهو يتضرع إلى الله أن يرحمه ويميته من هذه الدنيا أو يجعل قلوب أبنائه تميل إليه وترق لحاله.

 دخل الابن وحضن أباه وأخذت الدموع تنهمرمن عينيه، ويقول له سامحني يا سبب وجودي في هذه الدنيا، وأخذ يقبل يديه وقدميه ويقول: أنا لا أدري كيف يمكن للدنيا أن تلهينا عن أحن قلب، سامحني يا أبي لن أتركك إلا إذا فارقت روحي جسدي.

 قام الابن وحزم حقائب والده، وقال له الأب تمهل يا بني للصباح حتى أتمكن من توديع زملائي رفقاء الدار قبل الرحيل.

 لكن الابن أبى أن يتركه ووعده أن يأتي به مرة ثانية لزيارتهم فقط، وليس لمشاركتهم في الدار.
وعادت الابتسامة إلى وجه حصاني ولكن سرعان ما تبددت بصرخة أخرى مدوية ملأت المكان وأصابتني بالهلع.
 أسرعنا إلى المكان الصادر منه الصرخة، وإذا بشاب يحاول اغتصاب فتاة بالرغم عنها والفتاة تستحلفه بأعز شيء عنده أن يرحمها.

وهو يقول لها إن كنتِ شريفة كما تدعين فما الذي جعلك تسيرين بالطرقات في منتصف الليل، فطفقت الفتاة تبكي وتقول أنا أعمل ممرضة لأنني أنا أكبر إخوتي البنات وأنا أنفق عليهن. ورد الشاب قائلاً: ولماذا أنتِ حتى الآن بالطريق يا ملاك الرحمة لتداوي قلوب مرضاك.

فردت الفتاة قائلة: اتق الله في يا أخي فأنا دوامي يتغير فأحيانا يكون بالليل وأحيانا يكون بالنهار واليوم دوامي ليلاً.
فصمت الشاب قليلا ثم قال: ولماذا لم ينتظرك والدك عقب انتهاء عملك ليأخذك بدلا من أن تتسكعي بالأرصفة كبنات الليل.

يا أخي إن والدي قد تُوفي منذ نعومة أظافري وأنا أكابد في هذه الدنيا بمفردي من أجل لقمة العيش، ومن أجل مساعدة أمي على تربية إخوتي، فتخيل يا أخي لو كانت أختك بمثل موقفي، لا دهر لها ولا سند، لا أخ لها يشد من أزرها، ولا أب يعينها على بلواها، ولاعم يدفع عنها طمع الناس فيها، ولا زوج يحتضنها ليمسح دموعها ويخفف معاناتها، فهذه هي حياتي، وهذا هو قدري فماذا أفعل أمام تضاريس القدر؟ وهل أستحق منك أن تعاقبني على ما أنا فيه من ضعف بأن تفقدني كرامتي وإبائي؟ فحقا كل شيء يهون ويمكن أن أتحمل أي شيء إلا أن أحيا بدون كرامة، فلو حدث ذلك فلا سبيل للحياة، فالموت يكون هو الأمل الوحيد لي، أما أمي وإخوتي فلهن الله لأنه لن يتركهن يموتن من الجوع، فهو يرزق الطير في السماء ويرأف بحال النملة في الأرض، فكيف سيغفل عن أطفال صغار لا حول لهم ولا قوة!

هنا بدأ الشاب بالبكاء المطرد وقال لها: أنتِ رمز للصمود والكفاح والعزة والإباء ولن يستطيع أحد أن يخدش كرامتك، فحقاً لم أرَ مثلك بحياتي بل ويشرفني أن تكوني زوجتي، ولكن أرجو منكِ أن تغفري زلتي فأنا شاب وأحيانا ينزغني من الشيطان نزغات.

فقالت يا أخي «وإما ينزغنك من الشيطان نزغ فاستعذ بالله إنه هو السميع العليم».

وهنا قد ازداد بكاء الشاب وقال أنا أريد أن أعصم نفسي ولكن ماذا أفعل أمام البطالة؟ فأنا على قدر من العلم، ولكني طرقتُ كل أبواب العمل وكانت موصدة أمامي حتى أصابني اليأس وأوشكتُ على السقوط في براثن الرذيلة.

وصدقيني أنا إنسان مهذب ولم يسبق لي أن حاولت إزعاج أي أنثى، ولكن الإنسان إذا اسودت الدنيا بعينه وبعُد عن ذكر الله تساوى عنده الحلال مع الحرام والخبيث بالطيب، ولكن أحمد الله لأنه أرسل لي ملاكاً لينقذني مما كنتُ فيه من شتات، فاعتبريني أخ لك إن لم تقبليني زوج وحبيب.

فردت الفتاة قائلة: وأنا أحمد الله أنه بعث لي إنسان طيب القلب رأف لحالي ورحم ضعفي، فالآن قد رزقني الله بأخ لي لم تلده أمي، سامحك الله يا أخي وغفر لك ولي.

وهنا دُهش حصاني من حال البشر ولكنه ابتسم ابتسامة لم أرها من قبل على وجهه، ثم ساد صمتا رهيبا بالمكان.
وفجأة تطرق إلى أسماعنا صوت صراخ واتجهنا فورا إلى مكان الصراخ وإذا بامرأة تنجب طفلا بعد أن عاشت عشر سنوات ظلت فيها تدعو الله أن يمن عليها بزينة الحياة الدنيا، وطفق زوجها يبكي ويقول الحمد لله قد رُزقنا بفلذة كبدنا الذي طالما انتظرناه.

وهنا ازدادت دهشة الحصان وقال لي: عجيب أمركم أيها البشر إذا أصابتكم مصيبة تسارعون بالبكاء، وإذا من الله عليكم بالخير والنعيم أيضاً تنشدون البكاء، وكأنكم أصبحتم تدمنونه ولا تستطيعون العيش بدونه.

فضحكت وقلتُ له: معك حق يا حصاني إن هذا هو حال البشر، ألم تسمع قول الشاعر:

هجم السرور علي حتى أنه 
من فرط ما قد سرني أبكاني
يا عين قد أضحى البكا لكِ 
عادة تبكين من فرح ومن أحزانِ

وهنا عدتُ أنا وحصاني للنوم بعد أن تأكدنا أن كل البشر سعداء وأنه لا يوجد من يصرخ أو يعاني من شيء يؤرقه عن النوم.

وفجأة شعرت بيد تلمس خصلات شعري وتقول لي: استيقظِ يا حنان، ماذا بكِ؟ ماذا تقولين؟ هل تتكلمين وأنتِ نائمة؟ وهنا استيقظت فوجدتها أمي فقبلت يدها وقلتُ لها: هل حقاً كنتُ نائمة؟ قالت: بلا ريب لقد كنتِ نائمة، فقلتُ: ولكن هذا يعني أن حصاني الساحر كان مجرد خيال، فقالت أمي: أي حصان يا بنتي، فقلتُ: لا عليك يا أمي إنها أضغاث أحلام، ولكن يا ليته كان حقيقة، لأنه لو كان حقيقة لكنتُ بدلتُ حال هذا الكون، ومحوتُ كل ما به من ألم وصراخ وحزن إلى حب وسعادة وأمان، ولكن الحمد لله على كل شيء.


أي رسالة أو تعليق؟

مراقبة استباقية

هذا المنتدى مراقب استباقياً: لن تظهر مشاركتك إلا بعد التصديق عليها من قبل أحد المدراء.

من أنت؟
مشاركتك

لإنشاء فقرات يكفي ترك سطور فارغة.

الأعلى