السبت ٢٧ آذار (مارس) ٢٠١٠
بقلم زهير الخراز

رحــلــة ...

الرحلة الأولى :

... ضباب خريفي .. بحر يتثاءب .. القمر شاحب .. الحاضر محاصر بالأسئلة ..عيون بلون الجمر ترقب من الأرض، من السماء...السماء حبلى بالغيوم .. الغيوم ترفض البكاء .. ترفض الضحك .. «ش» و «ص» يرفضان الموت، يرفضان الحياة والليل سترة يرتديها الخرفان والذئاب.

«ش» و « ص » يتسللان بين أزقة الليل بين الأحراش .. إصرار خبيث يلفهما معا يدفعهما إلى الأمام .. الأمام مخلوق مخادع .. الوراء مخلوق لا يؤتمن .. يتوقف «ص» لاهثا يشير إلى جبل في الضفة الأخرى، على قمة الجبل يقف رجل شاهرا سيفه في السماء .. يصيح الرجل:

«.... البحر من ورائكم والعدو أمامكم فليس لكم إلا الصبر أو الموت».

يهمس «ص» في استغراب:

إنه طارق .. ألم تلاحظ معي ذلك !!؟

«ش» ساخرا :

لا .. إنه راعي من الرعاة .. ألم تلاحظ المعز يطوف من حوله ..

«ص» بحماس:

لنضرم النار بقاربنا عند نهاية الرحلة .. هل توافقني ؟

«ش»:

ثم نخلع ثيابنا ونقذف بها في النار، حينها ندخل الأندلس كما ولدتنا أمهاتنا .. فقد ولدتنا أمهاتنا أحرارا .. أظن هذا رأيا صائبا ...

القارب ينزلق بين الصخور .. بين الرمال يرسم خطا داكنا على وجه الرمل ..الخط يتحول إلى شق كبير ..الشق يتحول إلى هوة كبيرة ..الهوة تتحين لالتهام عيون ترقب في السماء ..لكن العيون تحجبها الغيوم ..القارب ينزلق إلى البحر ..

في الماء يمخر قارب، وعلى القارب ترتجف أربعة أعين يلفها الذعر .. تترقب شيئا يخرج من بطن البحر .. تترقب شيئا يطل من السماء ..المجاديف تربت على البحر بلطف .. البحر نائم .. البحر يتثاءب .. يستشعر خطوات .. لطمات وهمسات من بطن القارب.

البحر ينتفض .. رياح شرقية تلعب سمفونية صاخبة .. قطرات مياه تلتحم بحبات ملح فيعلنان حفلا راقصا .. تهتز الخصور والأرداف يهتز القارب .. تنتقل العدوى إلى السماء فتهتز الغيوم تتفرق عبر الفضاء مثل قطيع أغنام داهمته الذئاب .. تنتشي فتسقطها الرياح في عرض البحر .

«ش» يبدو قلقا .. ينظر إلى راحتيه بنظرة خاطفة .. لكنه يسرع إلى التجديف.

«ص»: أرى أصابعك قد تورمت، إرتح قليلا، سوف نتناوب على التجديف.

«ش» يلقي بنظرة تحد إلى البحر: لا يجب أن نجدف معا الرياح قوية، فهي ليست لصالحنا .. ألا ترى أننا ندور في حلقة مفرغ..؟

القمر شاحب، وعيون بلون الجمر ترقب البحر في السماء، تستشعر تحركات غريبة .. العيون النارية تسلط الضوء في عرض البحر .. البحر يفتضح عريه أمام حراس الشواطىء .. «ش» و «ص» يجلدان ظهر البحر بمجاديف من خشب .. القارب ثور هائج، والثور يشق بطن الموج بقرنين من فولاذ، والفولاذ يتآكل معدنه من فرط الرطوبة ..

«ص» ينضح جبينه من العرق ..يصيح في وجه «ش» منفعلا فيخرج صوته مبحوحا: لا تدع معنويا تك تهتز .. أمسك بالمجداف جيدا ..فلم يزل أمامنا سوى أمتار معدودة ونخترق الحدود التي تفصلنا عن الضفة الأولى ..

«ش» متضايقا:

لا أدري إن كنت تستطيع قياس المسافات في بحر يلفه الظلام من كل جانب!!!

إنه الحدس لا أقل و لا أكثر هيا جدف جدف ..

ليث حدسك هذا يقر بأن أمرنا قد انكشف ..

«ص» يغلي رأسه من الغضب .. من التعب ..لكن أحلامه كانت كافية بأن تشفي غليله، حيث تمتص سيلا جارفا من الشتائم كان سينصب على «ش».

عيون التي تشبه الجمر المفرقع، تفرقع، تقذف بالنار في عرض البحر، وقوارب بخارية تنزلق مثل شهب نارية في مطاردة مشاكسة لقارب اعزل صغير.

القارب الصغير لم يستسلم، والمجاديف الخشبية تصهر ملح البحر، تبخر قطرات مياه تنفصل عن جسد مالح .. القطرات تنحت غسقا .. الرذاذ الغسقي يعترض سبيل الكاشف النوري ..

«ص»:

يجب أن نقفز إلى الماء .. لقد حان الوقت، هيا .. اقفز .. اقفز ..

تريث قليلا .. يجب أن نخلع ثيابنا فقد تعيقنا عن السباحة ..

« ص » يركبه الغضب والخوف .. يقذف بالمجداف إلى الماء بانفعال شاذ وغريب .. المجداف يبتلعه الظلام .. الظلام يضبط متلبسا من قبل الكاشف الضوئي .. الكاشف الضوئي آلة تعين على اكتشاف الفضائح ! الضوء آلة تعيق البصر ..

«ص» يلثم وجهه لتفادي وهج الضوء:

يجب أن نقفز .. لقد بدأوا يقتربون منا .. هيا اقفز ..

الجمر المفرقع يفرقع بشراسة .. والسماء تمطر رصاص بلون الجمر ..والرصاص يشتهي دم الفرائس الطريدة ، يعوي عواء الذئاب، يخترق الظلام يخترق الصمت ثم يخترق بطن القارب الصغير. «ص» يصرخ من الألم والرصاصة الجائعة ترتع في كتفه الأيمن .. أما «ش» فتنتابه حالة غثيان !

«يا إلهي .. الألم يكاد يقتلني» يصرخ «ص» متأثرا بالجرح. دماء «ص» تقفز إلى الماء في نوبة من الهلع .. فتروي البحر وتروي أسماك اسقمها ملح المحيطات ..

«يجب أن تتحمل .. هيا اقفز أنا سأساعدك» يصرخ «ش» في وجه «ص».

الشهب النارية تحوم حول القارب الصغير .. تطوقه من كل جانب «ص» و القارب الصغير يتفقان فيعلنان استسلامهما الكبير .. «ص» يصرخ من شدة الألم .. «ش» يصرخ من شدة الغضب .. وفي الضفة الأخرى وعلى قمة جبل يتهيأ ل «ص» فيصيح طارق:

«البحر من ورائكم والعدو أمامكم فليس لكم سوى الصبر أو الموت»

«ش» يقفز إلى الماء يغوص في الأعماق، الرصاص يسلخ وجه البحر .. البحر تتمزق شرايينه فيقذف من فمه زبدا أبيض .. أسماك صغيرة وكثيرة تطفو على وجه الماء متأثرة بجراح بليغة .. «ش» لم يطف على الماء بعد .. «ش» يغادر الماء في جنح الظلام .. يتسلق الصخور .. إنه يختفي في أدغال الأندلس ..

رحلة «ص» الأخيرة:

المكان محاصر بالرطوبة .. الرطوبة تحاصرها قضبان الحديد .. الحديد معدن صلب .. الصلابة تقاوم الزمن .. الزمن عملة تنعدم في ذهن السجين، والسجناء يحاصرهم الظلام .

«ص» يحمل على صدره رقم (500) .. « «ص» شخص فقد اسمه ومكانه وزمانه» عبارة يرددها «ص» بلا ملل على مسامع كل ضيف جديد يحل بزنزانته الصامتة. صدى المفاتيح وعناقها الحار لقضبان الحديد يعيد الأمل للنفوس البائسة:

«أ» يراهن:

إنها وجبة الغداء .. سوف ترون.

«ج»:

أراك غبيا اليوم .. فوجبة الفطور لم تستقر في معدتك بعد ..

«ف»:

ربما احدنا سيطلق سراحه اليوم ..

«ص» مكتئبا:

وربما يزورنا ضيف جديد !!!

البوابة تنفتح فتثير إيقاعا يثير الفضول:

أفواه السجناء تنفتح – تنتظر المفاجأة .. شخص سمين بعرض الباب يصيح ملء رئتيه :

«ص» خمسمائة .. تعال معي ..

الرجل الأكرش يقتاد «ص» إلى مكتب « مدير الإقامة » عبر دروب طويلة، مظلمة، متعرجة ..

« ص » يمتع نظره عبر نافذة المكتب الأنيق .. يملأ صدره بهواء جديد .. يتحسس كتفه الأيمن بشيء من التوجس فتتبارى أمام عينيه أشلاء قارب صغير .. جرح يمطر البحر .. زبد أبيض تتمرغ فوقه بقايا أسماك صغيرة .. ورفيق يسبح إلى القعر ولم يعد ..

«ص» يركز نظره في الوجه (المديري) بارتياب:

هل من بلاغ كاذب ضدي ؟ سوف أكون صريحا معك .. فأنا لم أقم بأي مشاغبة منذ وصولي إلى هنا .. لكن إذا كنتم مصرين على معاقبتي فلا مانع لدي .. فأنا معتاد على ذلك .

أراهن أنك بدأت تفقد ذاكرتك ..!!

يجوز ذلك ..

لقد انتهت مدة إقامتك هنا .. وحان الوقت لإطلاق سراحك ... أما عن البلاغات الكاذبة فكنا نختلقها قصد تنفيرك من عالم السجون، فأتمنى أن لاتعود إلى حماقاتك ثانية ..

سيطلق سراحي، نعم .. لكن لألج سجنا أكبر من هذا وأشرس منه !!

تقاطيع الوجه المديري تتشنج، العين اليسري تختلج من الغيظ .. الشفة السفلى ترتعش لشدة الغضب .. تلتقي عيناه بعيني «ص» .. عينا « ص » تجمدتا بفعل الرطوبة فأصبحتا قطعة ثلج .. الوجه المديري تنكسر نظراته فتسقط إلى الأرض:

أصغ إلي جيدا .. فأنا لم أستدعك لكي تبدي رأيك أو فلسفتك في الحياة بل لأنصحك.. فالرصاصة التي أصابت كتفك قادرة على اختراق قلبك، ابحث لك عن عمل وانتزع من ذهنك فكرة الهجرة إلى الخارج .. والآن نصرف.

الرجل الأكرش يقتاد «ص» عبر دهاليز مظلمة .. الدهاليز المظلمة تفضي عبر رحلة شاقة إلى بوابة كبيرة .. الباب الكبير ينفتح منه جزء صغير .. الرجل يقذف ب « ص » خارج السجن طبقا للتعليمات، ثم يعمد إلى إقفال الباب من جديد..

«ص» كانت في استقباله اشجار متناثرة هنا وهناك .. شارع يخلو من أثر للحياة إلا من قطط تستحم في شمس من الكسل .. القطط تستدعي «ص» لمشاركتها نزوتها، فيقبل الدعوة بسرور .
رحلة «ش» الأخيرة:

الطائر الضخم يحط على بلاط المطار .. يستريح بعض اللحظات ..يأخذ حماما شمسيا مركزا .. يقذف من بطنه أناسا وحقائب وحمولات مستوردة .. المكبر الصوتي يصيح من مكان ما بتكرار يثير الملل:

الشركة الوطنية للطيران ترحب بجاليتنا المقيمة بالخارج .. فأهلا وسهلا في وطنكم.

أحدية جلدية كثيرة مستوردة تطأ أرض المطار تتجه كلها في اتجاه واحد وبإيقاع متفق عليه .. «ش» يأخذ نفسا عميقا من سيجارة أمريكية أنيقة ينفث دخانا أسود من خياشيم انتفخت بفعل الإدمان .. «ش» أصبح في غربته مدمنا كبيرا ..

الكاميرا تتحرك بفضول زائد تلعق وجوه المهاجرين بتلذذ غريب تتمسح حقائبهم الملونة باشتهاء خبيث .. تحاورهم وتهديهم ورودا ملونة.

الكاميرا الملونة تأخذ عينها في التوهج تحاصر «ش» تتنزه في تقاطيع وجهه الملتحي .. تسترق اسم السيجارة من فمه ثم تحاوره في أدب مصطنع.. الكاميرا تثير أعصاب «ش» تنبش في ذاكرته الموشومة بطلقات الرصاص، ودم ينزف، وصراخ رفيق يستنجد.

أهلا بك في وطنك ..

«ش» يبتسم .. يأخذ نفسا من سيجارته الأنيقة .. ينفث دخانا كثيفا من خياشيمه المنتفخة ثم ينحني رأسه بتحية مستوردة:

منذ متى وأنتم تقيمون بالخارج ؟؟؟
« ش » يركز بصره في عين الكاميرا .. الكاميرا كاشف ضوئي متميز .. والكاشف الضوئي أداة للفضيحة كما هو أداة للشهرة:

منذ ست سنوات تقريبا .. لكنني قررت أن استقر في بلدي فلدي مشاريع كثيرة أود إنجازها في السنوات القادمة ..

أهلا بك في وطنك ونتمنى لك التوفيق في مشاريعك القادمة ..
«ش» يهدي للكاميرا ابتسامة موقرة .. الكاميرا تقدم ل «ش» وردة بيضاء فيلتقفها بخياشيم جد منتفخة .. يستمتع بشذاها للحظات .. ثم أخيرا يقدمها لشقراء

أبت ألا أن تستدعيه لمشاركتها وجبة غذاء في أفخم مطعم بالمدينة.


أي رسالة أو تعليق؟

مراقبة استباقية

هذا المنتدى مراقب استباقياً: لن تظهر مشاركتك إلا بعد التصديق عليها من قبل أحد المدراء.

من أنت؟
مشاركتك

لإنشاء فقرات يكفي ترك سطور فارغة.

الأعلى