السبت ٤ حزيران (يونيو) ٢٠٠٥

أصابع "عفيف حمدان" بين ايحاء النصّ و غرائبية القصّ

الشاعر و الناقد السوري نديم الوزة

صدرت للكاتب د . عفيف حمدان مجموعة قصصية "الأصابع" عن دار صامد للنشر و التوزيع بتونس , و التي تضمّ عشر قصص قصيرة رصد فيها الكاتب بعض صور الحياة الاجتماعية بأسلوب طريف و مميّز و أبرز صورا اجتماعية تبدو للوهلة الأولى نادرة الحدوث حيث نقل إلى القارئ مجموعة من وقائع لا تحدث إلاّ بظروف استثنائية . و نرى الكاتب يلتقط لحظات هذه الوقائع التي تتشكّل بهيئتها إلاّ لمرّة واحدة و هنا تكمن مهارة الكاتب في التقاط صورة هذه اللحظة النادرة و تصويرها فيرتقي بها باحداث تصاعدية متنامية ... و لا يتعمد المؤلف على الابهار في خلقه للعالم القصصي و لا تعنيه عناصر البهرجة .... و لكن يلاحظ القارئ أسلوب التعقيد المغلف ببساطة مما يفسح المجال للقارئ بمتعة التشويق و المتابعة فيكون عنصر الإيحاء الأبرز في حمل أحداث القصّة و تدرج أحداثها و العمود الفقري للقصّ. و بالتالي فهو يفعل ذلك بفعالية المحترف الذي يدري الكثير عن أسرار مهنته ليظهر تواضعا اليفا يمكنه من جذب المتلقي باريحية عارمة و مصادقته على الأقل حتى الانتهاء من قراءة هذه القصص العشر : " الآنسة نون , النو. تاكسي, زوجتي العزيزة, العمارة التابوت :البلدية الجديدة :نافذة الأصابع :الختان".

التقاط الصورة

عفيف حمدان

و يقتنع القارئ بأن التقاط الكاتب لكل مادة صغيرة قد تكون قصة ابداعية بما يضفي عليها من عوالم خيالية ترتقي بها الى حكاية ابداعية لها مدلولاتها النفسية و الاجتماعية . و يشعر القارئ بأن المؤلف يسرد وقائع ربما حدثت فعلا, لكن هذا يحدث لأن ما يرويه في هذه القصص مألوف و معتاد عليه. و يكشف رغبة عفوية أو اضطرابا معرفيا يعانيه الذكر في بداية استكشاف عواطفه و احاسيسه تجاه الأنثى تحديدا و هذا ما يبدو مصرحا به من خلال ذكر صفة المراهق و المراهقة في أكثر من قصة و كأن كاتبها يخشى أن يساء فهمه أولا تؤخذ حكايته على محمل الجد فتبدو لعبته مجرّد اعترافات لا طائل من قراءتها سوى الاطلاع و الفضول لكن مخزونها الايحائي أكبر مما يطفو على السطح الذي يخفي العمق الوجداني للحدث و تفاعله بالبيئة ...

اتجاهات

و حتّى لا يبدو الأمر كذلك يمكن القول أن ما هو معوّل عليه في هذه القصص لا يخرج عن هذه المعرفة المضطربة بأحوال العلاقة بين المرأة و الرجل سيما و أن هذه العلاقة تبدو في كثير من الأحيان مستعصية على تحديد هويتها في مجتمع متشابك... و يمكن للقارئ التوجه في استقراء أفكار القصص و مقولاتها إلى أكثر من اتجاه:

اتجاه يكشف مكائد الأنثى و استعمالها لمفاتنها لتحقيق مآرب آنية و مادية توقع الذكر في حبائل أوهامه الطرية عن الحب و أحلامه ليستيقظ في النهاية على قسوة الحقيقة ووجعها : وجع يكتشف مؤخرا أنه ليس مرغوبا به لذاته و انما لخدمة يمكن أن يؤدّيها و ينتهي أمره بعد ذلك كما في قصّة " الآنسة نون" و قصة" البدلة الجديدة" .

و اتجاه ثان تبدو المرأة فيه أغنية جميلة بمبادرتها غير المتعارف عليها أو غير المرحب بها في مجتمعنا الذكوري وربما لهذا السبب تنتهي بفاجعة تقتل هذه الأنثى التي تحاول أن ترافق صنوها الذكر بعيدا عن مفاهيم التسلط و القيادة القسرية في قصة "النو" و "التكسي2".

اتجاه ثالث يبدو اكثر قسوة حيث يعادل بين الجنس و الخطيئة , و خطيئة القتل في قصّة "العمارة التابوت" و خطيئة السرقة في قصة "الختان".
اتجاه رابع يفضح الأفكار السوداوية المسبقة للرجل الشرقي عن المرأة الغربية بما يفضي إلى فشله في إقامة علاقة سليمة معها بل إلى تعكيره لأية علاقة يمكن أن تنشأ على هذا النحو...

و ثمّة اتجاه رمادي يكفي بذكره الأزمة دون الوقوف على أسبابها و الغوص في تفاصيل مكوناتها كما في قصّة " زوجتي العزيزة " حيث تذوي الأنا في أقصى درجات الأنانية و هي في قاع الاحباط و الانهيار حيث يجهد الكاتب برصد حالة طلاق روحي بين زوجين عندما يهاجمه المرض و تبدا معالم الموت ترسم لوحتها بالوان باهتة تنداح على صفحة لوحة الفراق بخطوط واهية : انه عالم من اليأس ينبض بالحياة و انحدار ينزلق بهدوء يغلفه الحزن و صمت المرارة.
غير ذلك لا ينبغي ان يغفل التوجه الاجتماعي و الاقتصادي التي تمرّ عليه كل قصة على حده بما يتناسب و خصوصية كل علاقة و المقولة التي تود أن تقولها بما يمنح القصص حيوية وجودية لا تقتصر على سرد الأحداث و استحصال عبرته المباشرة و كفى ...

إيحاء القصّ

إن هذه الاتجاهات جميعها تمرّ عبر لغة سردية متمركزة على رسم الصور و الاحداث و تفاصيلها بتلقائية و عفوية لها ايحاءاتها المعقّدة و لا سيما اذا ما توافقت هذه الأحداث و الأفكار المنشودة منها حتّى في جزئياتها , لذلك يستمتع القارئ برصد العبارات و التدقيق في قراءة الجمل ليتسنّى له امكانية التوافق مع الأحداث الصغيرة و الحكاية العامة ليتمكن في النهاية من الوصول إلى اتجاه القصة العام أو فكرتها إذ غالبا ما تأخذ هذه الأحداث الصغيرة أو الأشياء المعتادة كالنافذة و البدلة و الاصابع منحى كنائيا أو استعاريا و لكن ضمن ما هو واقعي و معقول أي بعيدا عن التوهم "الفانتازي" إلاّ في حالات قليلة تأتي فيها الجمل إنشائية صرفة و خاصة في إيضاح الدواخل و المشاعر المستعصية على التمثّل المباشر بما يجعل لغة السرد تتأخّر أحيانا عن اللحاق بصورة الايحاء و لكن بما لا يؤثّر كثيرا على مهارة الكاتب في رسم مشهد و التقاط عناصر بكتابة مهارة الكاتب قصّة بحيادية المجرّب و حنكته.
بهذا المعنى يمكن الحديث عن لغة تستنطق التأثيرات النفسية و الوجدانية للأحداث أكثر مما لو تحاول تتبع المؤثرات و الحوادث في حقيقتها , و ربّما لهذا يخيّم جو من الغرائبية على معظم القصص و لكنّها غرائبية مشتقّة مما هو مألوف و ربّما متخيل سابقا. و لكن هذا لا يعني بأية حال غياب المكان الحقيقي و أشيائه الملموسة عن مخيلة المؤلّف و ذاكرته بل انني أقول هذا و انوّه بهذه العلاقة الحميمة بين لغة المشاعر و المواقف النفسية و فضاءاتها الحسية تلك التي تبدو استثنائية و غير معتادة و التي تتجاوب مع طبيعة العلاقة بين الرجل و المرأة في مجتمع تحتمل فيه العديد من الاعتبارات القسرية غير التي تنشأ عن الحب وحده .

الشاعر و الناقد السوري نديم الوزة

أي رسالة أو تعليق؟

مراقبة استباقية

هذا المنتدى مراقب استباقياً: لن تظهر مشاركتك إلا بعد التصديق عليها من قبل أحد المدراء.

من أنت؟
مشاركتك

لإنشاء فقرات يكفي ترك سطور فارغة.

الأعلى