الخميس ٢٢ نيسان (أبريل) ٢٠١٠
بقلم زهير الخراز

المائدة البيضاء 

1-كان الليل هادئا، مضطجعا بفناء المنزل العريض يداعب شجرة التين، تلك العجوزالطاهرة التي غالبا ما ينام في أحضانها طائر الدوري المشاغب.. أما الساهر فكان يجلس على كنبة بزاوية صامتة.. يسترق أضواء خافتة، صفراء.. تنبعت من ثريا نحاسية متدلية من سقف كمشنوق يحترق.. لم يكن وحيدا.. فبجواره ترقد مائدة بيضاء مستديرة تنظر إليه بعينين جاحظتين.. تحمل فوق ظهرها الأبيض، مقصا أبيض، سكينا يعلوه الصدأ.. كأسين فارغين.. قطعة خبز سوداء.. إبريقا فارغا بلون الفضة.. قطعة ليمون يلهو في أحشائها الذباب.. عوينات بيضاء ( تستعملها أمه عند الخياطة أو تنقية العدس).. وكل ما تبقي أو شارك من قريب أو بعيد في الغزوات الثلاث من وجبة إفطار وغذاء وعشاء. 

والطاولة رغم الفوضى القائمة على ظهرها الأبيض، فهي تبدو سعيدة كعادتها لأن (الولد الظريف) لايحملها أعباء ثقيلة، رغم أنه يعرف حق المعرفة أنها قوية كالبغل وبإمكانها أن تحمل أثقل وأدسم مما تحمله الآن لكنه لم يتجزأ يوما على فعل ذلك.. أو ربما لم يستطع إلى ذلك سبيلا. 

نهره صديق له يوما قائلا: 

يا أخي ضع طشت الماء على المائدة كي تتمكن من غسل جواربك بطريقة مريحة

فقطب جبينه ثم قال مبتسما: 

* مائدة عجوز كهذه جديرة بأن تحترم وتصان لا أن تذل وتهان.. فقد حمل جدي فوقها أشياءه البسيطة.. وأبي بدوره خصها لحمولات صغيرة.. كالكتب والمسبحة.. وجئت أنا من بعد فتطاولت واخترقت المألوف ثم خصصتها لأشياء تافهة.. وتريدني في الأخير أن أضع فوقها طشتا نتنا ؟ لا مستحيل.. 

أردف صديقه ساخرا: 

ما الفائدة من ذلك.. لكن أخبرني.. فبالأمس فقط كانت ترقص على مائدتك هذه، قنينة خمر، فما الفرق بين هذه القنينة وبين طشت الماء؟
 
بادره الساهر متحمسا للموضوع بشهية مفتوحة وكأنه يدافع عن شيء بديهي:

أتعلم أن قنينة الخمر أرشق من طشت الماء واخف منه وزنا ؟
 
كانت المائدة البيضاء جاثمة بهدوء ووداعة تقرأ خواطره، وتغازله في صمت مجنون.. ولو شاء لها القدر أن تتكلم لصاحت مستفزة هذا الفناء النائم منذ سنوات قائلة: (يا للشباب).. أحبها والده وجده بجنون ولم يتجرءا يوما على تلطيخها أو تلويثها بما هو أدسم من كتاب الله والمسبحة الخضراء وبضع قنينات من الحبر الأسود وشمعة بيضاء، فكانت تبدو للأعين لامعة، نقية، كعذراء خرجت لتوها من شلال دافق.. أما الساهر فقد أحبها كجدة.. وكأم.. وكعاشقة، واشتهى فوقها أشياء دسمة.. لكنه لم يفكر بتاتا في أن يضع طشت ماء يحمل جوارب نتنة على ظهرها الأبيض. 

2- ينقطع الشخير الصادر من الغرفة المظلمة، فيتوقف على إثرها دماغ الساهر المحموم عن التفكير، فهو يعلم بالفطرة مغزى انقطاع الشخير المفاجيء، فتعاتبه أمه بصوت متعب: 

حبيبي.. أما زلت مستيقضا ؟ قم واسترح قليلا، لا تنسى أن تطفىء النور.. آه.. لقد كانت (فاتورة) الشهر الفارط مرتفعة جدا.
 
ينظر الساهر إلي الثريا النحاسية باستياء شديد ويحدث نفسه بكلام هامس ثم يتابع عمله.. أما المائدة البيضاء والساهرون على ظهرها فيلوذون بالصمت إلى أجل غير مسمى، ويكتفون بنظرة عتاب.. أما عن شجرة التين تلك البتول الطاهرة فقد ذاقت طعم العبث على يدي الساهر الجامدتين.. التائه بين الصفحات البيضاء والكؤوس الفارغة ينتظر غيث السماء.. هي تعرف مسبقا أن السماء لا تستغيث النائمين تحت الظل.. لذا فقد تمنت كثيرا أن تهجر هذا الفناء الصامت لكن جذورها كانت أقوى منها بكثير. 

كل هذه الأشياء البسيطة تشاركه أفراحه وأتراحه.. لكن من بعيد.. إما بإبتسامة خاطئة ، صامتة أو تنهيدة رقيقة كنسمة في ليل ربيعي.. وحدها شجرة التين ظلت محتفظة بمشاعرها فلم يحرك الليل الصامت فيها ساكنا.. فظلت ساكنة تحرس أحلام طائر الدوري المشاغب. 

3- يسترسل المؤذن في ترتيل آذان الفجر لكن القلم مازال جامدا .. والصفحات البيضاء بين يديه عذراء .. وقد أكد الساهر مرارا أنه لا يحب الاغتصاب وما شابه الإغتصاب.. أما أمه التي وهنت عظامها فكانت تتقلب فوق سريرها.. تستفز الصمت بالشخير والصرير.. وأحيانا بكلمات مبتورة مبهمة.. والساهر يعرف مغزى تلك الحركات اللاإرادية، لكنه لم يفكر في استيعابها، ربما لأنها تضايقه كثيرا وتقطع شريط أفكاره المضطربة.. لكنه رغم حرصه الشديد فقد يحدث أحيانا أن تقف تلك الأشياء المؤلمة بينه وبين تفكير سديد.. فقد أمضى شهرا بكامله يعصر لب دماغه قصد الحصول على تلك الصورة المثالية التي لم يقدر لها بعد تلطيخ الصفحات الناصعة البياض.. وها هو يغرق الآن في سائل أبيض لا تدركه الأبصار.. فكل مرة يحاول فيها أن يجهر بقلمه على الرزمة البيضاء إلا ويجتاح مخيلته حدث كان قد حدث في زمان ما.. وفي مكان ما،(شبح بطول السماء، يتجول نائما، ويسحق بقدمين من حديد زهورا بيضاء). 

4- كان على أمه أن تستفيق من إغفاءتها القصيرة على إثر نوبة سعال، وبطبيعة الحال شعرت بالنور الأصفر المتسرب إلى غرفتها المظلمة.. وسيكون على المحيطين بالمائدة المستديرة والساهرين فوق سطحها الأبيض أن يبتسموا كما جرت العادة لعتاب الأم الببغائي.. وحدها شجرة التين ظلت محتفظة بمشاعرها تحرس أحلام طائر الدوري المشاغب: 

حبيبي.. أما زلت ساهرا.. قم لتستريح قليلا.. لا تنسي أن تطفىء النور! لقد كانت فاتورة الشهر السابق مرتفعة جدا.
 
يضع الساهر قلمه بعناية على المائدة البيضاء.. يربت بأنامل مرتعشة على الصفحات الفارغة وكانت تعكس أضواء صفراء، ثم ينظر بارتياب شديد إلى الثريا النحاسية وهي متدلية من السقف كمشنوق يحترق، فلاح له من هناك شبح بطول السماء يتجول نائما، يسحق بقدمين من حديد زهورا بيضاء، فيجتاح قلبه حنين محرق إلى ضوء النهار.
 
 
 


أي رسالة أو تعليق؟

مراقبة استباقية

هذا المنتدى مراقب استباقياً: لن تظهر مشاركتك إلا بعد التصديق عليها من قبل أحد المدراء.

من أنت؟
مشاركتك

لإنشاء فقرات يكفي ترك سطور فارغة.

الأعلى