الأربعاء ٥ أيار (مايو) ٢٠١٠
بقلم غزالة الزهراء

وتأبى الرحيل

دقات الساعة الحائطية الرتيبة تختلط بدقات قلبها المسالم الضعيف، الأنات المتقطعة المنبعثة من جسدها الذابل تمزق دثار الليل البهيم، وتوغل بسآمة مضنية كئيبة في أوردة ذلك المجهول الرمادي العنيد.

تتلوى كعجينة رخوة على فراشها التواء، ألم فظيع ينهش بأنيابه القاطعة كبدها، يرتفع أنينها الحلزوني الجريح وسط متاهة الظلمة الداجنة كارتفاع الموج الغضوب عن شاطئه البكر.
الداء الناسف دمر جل خلاياها بشكل مقيت مهيب، وامتص منها إشراقة الحياة المعتقة بنشوة الشباب، ورونق الأنوثة.
رغم كل هذا فإنها تأبى الرحيل.

ترفض من صميمها أن تنسلخ انسلاخا كليا من هذا المكان الحميم الذي ألفته منذ ميعة صباها، وترفض أن تدرج في قائمة الراحلات اللواتي تأبطن رغما عنهن مآسي المرض، وقهقهات ذلك الزمن العربيد السخيف.
هنا ولدت، وندت من فمها الزمردي الملائكي صرختها الأولى الحبلى بروعة الحياة، ورقصة ذلك الغد المبهج المثير.

لقد شبّت في كنف والديها الكريمين، وأسبغا عليها ينابيع العطف الذي يضاهي في فيضانه الشلال، وأودعا بين جنبات روحها ثمرات الإخلاص الشهي، والحب الأنقى كالزلال.
تحلقت حولها نديداتها المقربات إلى شاطئ قلبها بائسات، ممزقات الأفئدة، جريحات، واستها إحداهن لتزرعها عصافير تزقزق، وآمالا ترقص وتشع: ستشفين بإذن الله، وستعودين طروبة إلى مدرستك، كلنا سنتهافت للقائك أيتها الدرة الغالية.
ونطقت أخرى حاثة إياها على التمسك بحبال الصبر المتين: كوني قوية، صلبة، أشد تماسكا في مواجهة هذا الخطب الجلل.
وقالت أخرى مدعمة قول صديقتيها الوفيتين: جابهي بقوة لا مثيل لها، فالقوة تخلق منك إنسانة لا تقهرها الصعاب.

في محاولات عديدة محبطة أرادت أن تنطلق خارج الدار كالظبية الجامحة، وتتنفس هواء نقيا يغسل رئتيها القابعتين في تجاويف صدرها من أدران الضيق، والويلات، والهموم، ولكنها تهاوت فجأة كورقة مضطربة منسية في عباب بحر، تقاذفتها أمواج التهلكة، ثم خيم عليها الصمت المطبق الحزين، ونأت بعيدا بعيدا.


أي رسالة أو تعليق؟

مراقبة استباقية

هذا المنتدى مراقب استباقياً: لن تظهر مشاركتك إلا بعد التصديق عليها من قبل أحد المدراء.

من أنت؟
مشاركتك

لإنشاء فقرات يكفي ترك سطور فارغة.

الأعلى