الاثنين ٢٤ أيار (مايو) ٢٠١٠
بقلم خير الدين بن الطاهر جمعة

كارهُ المطر 

كان اليوم الذي كرهتُ فيه المطر غائمًا طويلاً وموحلاً، لم أتصوَّرْ أن ذلك سيحصل لي و لكنه حصلَ و أهالي قريتي كانوا سببا في ذلك لأنه فيما بعد سينعتني أصدقائي في المدرسة بـِ "كارهِ المطرِ"، و إلى الآن لم أعرفْ لماذا رضي الأهالي أن ينام الأموات عند الهضبة وسط القرية في حين فرَّ الأحياء إلى الأطراف حيث بساتين الرمان والبلَحِ، استقرَّ الأموات غافين في سعادة باهتة عند المقبرة بسورها الأبيض البسيط و غير بعيد عنها مدرستنا الابتدائية مدرسة "سيدي عبد الرحمان" العارية من أيِّ سور تصافحُ الطريق الترابي و البرد كل صباح، وكان الشتاء يصفعنا كل سنة بلا رحمة و لكن ذلك يمرُّ بعذوبة نظرا لتلك الألعاب الصغيرة التي كنا ننفق فيها أيامنا كلَّما خرجنا من المدرسة، كان صديقي "معزّ" رفيقي الدائم و لكن ما ينسينا غبار الطريق عيون "سارَّة" الدافئة بتنُّورتها القصيرة النظيفة و جواربها الزاهية الطويلة و ضحكتها الخافتة المتموِّجة مثل ماء الوادي البعيد، أنيقةً كانتْ ومُترعَةً بالحبة السوداء الصغيرة فوق شفتها العليا و بصمت الملائكة الذي تتوشَّح به كل صباحٍ في الطريق، أما المدرسة التي لم تكن بعيدة كثيرا عن بيوتنا فقد كان المشي في طريقها الترابي عسيرا كل شتاء عندما تهطلُ الأمطار، وعند خروجنا من المدرسة الساعة الخامسة كنَّا نواجه البرد اللاذع بالركض والضحك و اللعب حتى ننسى انكماش جلود أيادينا الصغيرة و اتساخ أكمام ملابسنا من أثر مسْحِ أنوفنا فيها، كان ذلك رائعا، ولم تكنْ الطريق بين بيتنا و المدرسة طويلة و لكنها كانتْ جميلة ومترعةً بالحكايات الخيالية التي يحبها معز فيرويها لنا بحركاته المسرحية الأنيقة وهو يدعونا للتوقُّف في كل مرة يصل فيها إلى حدث مرتبط بالسحر أو الغول أو الكائنات الفضائية و الأطباق الطائرة حتى أصبحْتُ أحبُّ تلك الطريق بصحبتِه، كنا نمسك بيَدَيْ سارة و نجري و هي تتعثر، يلاحقها شعرها القصير و لكن أغْرَب شيء ارتبط بمدرستنا التي لا سورَ فيها هو أن التلاميذ عندما يتشاجرون فإنهم خوفا من المدير والمعلمين يصفُّون حساباتهم في المقبرة بشتى أنواع العراك و كنتُ أنا ومعز نذهب هناك للفرجة و المشاهدة غير أني بحكم ترددي على المكان، أصبحْتُ لا أهتم بشجار التلاميذ بل كنتُ أطوف بين القبور أتسلَّى أنا ومعز فنقرأ أسماء من مات من عائلتنا وبِتُّ كلَّما دخلتُ المقبرة أذهب ناحية القبور لأجلس إليها و ألعب بجانبها في حين تظل سارة تقفز من وراء السور من حينٍ إلى آخر و في عينيها نظرات الجزع فقد منعناها من دخول المقبرة خوفًا عليها من الموتى، كنتُ أعشق الطريق المحفوف بالأحلام إلى بيتنا و عشقتُ مدرستنا لأنه داخلَنِي شعور أن هؤلاء الموتى من عائلتنا يؤْنسون وحدتي إلى أن أصبحنا نذهب إليهم باستمرار ودونما سبب حتى جاء ذلك اليوم الشتوي البارد الطويل، كنتُ في الطريق إلى المدرسة بصحبة "سارة" و "معز" كالعادة عندما بدأتْ الغيوم تغمر السماء برداء حالك السواد و صاحبتْها في ذلك رياحٌ عاتية باردة يُحدث صوتها رهبةً في داخلي و يَخِزُ أذنيَّ الصغيرتين المختبئتين تحت شعري الفاحم، الهواءُ البارد يلفح وجهي الثلجي اليابس و ينفذ متجوِّلا على خطوط جلديَ المنكمش فيُحدثُ رعشة في كتفيَّ فأرفعهما لأحمي رأسي الصغير، يومَها لم نتكلم كثيرا أنا ومعز كنا نمسك بيدي سارة ملتصقين اتقاءً للصقيع و لكن ما إن بدأتْ المطر تنزل رذاذا خفيفا حتى غمرتْنا سعادة الأطفال و أخذنا في الركض تُثقلنا محافظنا ، وصلنا المدرسة و دخلنا القسم (الصف) ، كان التلاميذ فرحين بالمطر و أرضية القسم (الفصل) تبدو متسخة بشيء من الوحل، في حين كان معلمنا ينتظرنا "ببلوزته" البيضاء مبتسما، كانت عيوننا متجهة إلى الشبابيك و النوافذ لأن المطر ازداد قوة و الغيوم السوداء غشيَتْ المدرسة بكاملها، حاول معلمنا أن ينيرَ القاعة لكن الكهرباء انقطعتْ، هطلتْ الأمطار بقوة شديدة تضرب بلَّوْر النوافذ، تسرَّبَ الماء مندفعا بقوة أسفل الباب ومن الشبابيك، أصبحنا لا نكاد نسمع كلام المعلم، تحولتْ ساحة المدرسة إلى بِرْكَةٍ من الماء عظيمة، خرج المدير من مكتبه أخذ يطوف على المعلمين للاطمئنان، توقَّفَ المعلم عن إعطاء الدَّرْس، دخلَتْ سيارة الشرطة، كان مدير المركز يتكلم مع المدير بتوتُّر بعدها تماما غادرتْ الشرطة المدرسة عندما كان المدير يطوف من جديد على الأقسام (الصفوف)، في الأخير دخل علينا ليُعلمنا أن الطرقات مسدودة تقريبا وأن الأودية قد فاضتْ بالمياه الجارفة و لذا كل طالب سيعود إلى منزلهم برفقة أبيه أو من ينوبه و الشرطة ستتكفَّل بإخبار الأهالي حتى يأتوا إلى المدرسة، ساء الطقس و اربدَّتْ السماء أكثر و رغم ذلك بدأ الأولياء يتوافدون على المدرسة ليرافقوا أبناءهم و أخذ عددنا يتضاءل في القسم (الصف) و بدأ الحزن يخترقني، عدد التلاميذ يتناقص شيئا فشيئا، و الليل يقترب بسرعةٍ، الأمطار المصحوبةُ بالرياح تكاد تعصف بغرفة الدرس، معلمنا يذرع القسم (الصف ) جيئة وذهابا و عددنا يقلُّ....عشرةٌ.....ثمانية...خمسة....أحسسْتُ بالألم يعصف بقلبي الصغير، أعجبني صوتُ الرياح بدتْ لي كأنها تبكي، شعرتُ بالوحدة، انتبهتُ إلى أن صديقي معز الذي كان يجلس بجانب سارة، يطلب مني أن أرافقه، أبوه واقف بالباب، رفضتُ ذلك، قلتُ له بصوت مختنق خجول:

"سيأتي أحدُ أقربائي ليرافقني إلى البيت" اقتربَ المساء، حينَ نهضتْ سارة إلى أبيها الذي أتى كي يرافقها خُيِّل إليَّ أن دمعةً كانتْ غير بعيدة عن حبَّتِها السوداء، فقد كانتْ تنظر إليَّ بين الحين والآخر داخل القاعة، تجاهلتُ نظرتها المُشفقة، كاد السواد يعمُّ المدرسة و الأمطار مازالتْ تهطل بقوَّة، لم يبقَ أحد غيري في القاعة، و إلى الآن لم يأتِ أحدٌ ليأخذني، أصبحتُ وحدي، بدتْ لي غرفة الدَّرس كبيرة جدا، أحسستُ بانقباض مرير في صدري و كأنَّ شيئا يمنعني من التنفس وضعتُ يديَّ بين ساقيَّ و دسسْتُ رأسي بين كتفيَّ مرتعدا حزينا، اقتربَ معلِّمي من طاولتي لم أشأْ أن أنظر إليه أو أن أحرّك جفنيَّ، خفْتُ أن أبكيَ و فجأة ً وقبل أن يكلِّمني، وقفتُ، ابتعدتُ عنه قليلا، تقدَّمْتُ نحو الباب بخطى مبتلَّةٍ خفيفة و قلتُ لمعلِّمي: "سيدي أبي ينتظرني هناك عند سور المقبرة..." و أشرتُ بيدي ناحية المقبرة، لمحتُ نظرات الاستغراب في عينيه خاصة بعد أن أطلَّ من النافذة و لكني لم أترك له مجالا فقد اندفعتُ و محفظتي على كتفي، أقفز بين البِرَكِ و المطر يغسلني، انفجر الانقباض في لحظة، سالتْ الدموع على خدِّي، غاب صفير الريح و أحسستُ المطر يعانق وجهي، اندفعتُ أبكي وأركض دون أن ألتفت إلى الوراء، دخلتُ إلى المقبرة و كأنَّ السيل دفعني إلى هناك، عندما سمعتُ معلمي يصيح من ورائي: " إلى أين تذهب ؟ أين أبوك ؟ عند ذلك فقط توقفت رغم المطر والريح، التفتُّ إليه و أجبتُه باكيا و أنا أنتفض بعصبية و أصرخ: " لقد مات يا سيدي... مات.....مات.." تركتُه واجما تحت المطر و استدرتُ لأواصل الركض و القفز وقدماي تغرقان في الوحل تحت خيوط المطر الثقيلة متوَجِّهًا إلى البيت، كنتُ أرى السيول دموعي و كنتُ وحيدا مع الرياح، يومها كان الطريق إلى بيتنا طويلاً، كنتُ وحيدا بدون معز وحكاياته و سارة وملائكتها، كانتْ الطريق الخانقة الملتوية تبتلعني مثل فمٍ عملاقٍ لأفعى بسمٍّ زلِقٍ لاذعٍ تحت أقدامي الصغيرة المتجمدة، كنتُ بقدرما أركض بقدرما تزداد دموعي غزارةً......فلمْ أعدْ أسمع سوى صوت نشيجي يغطي صفير الرياح....................... 

كانتْ آخر مرةٍ أحبُّ فيها المطر.. وآخر مرةٍ أزور فيها قبر أبي...
 
 


أي رسالة أو تعليق؟

مراقبة استباقية

هذا المنتدى مراقب استباقياً: لن تظهر مشاركتك إلا بعد التصديق عليها من قبل أحد المدراء.

من أنت؟
مشاركتك

لإنشاء فقرات يكفي ترك سطور فارغة.

الأعلى