الاثنين ١ آب (أغسطس) ٢٠٠٥
بقلم سها جلال جودت

قنديل الروح

غائصٌ في حزنه،شاردٌ في صمته، يرنو بطرف عينه التي لم يفارقها احتجاز الدمع الساكن عميقاً إلى المارة وفي صدره آهة حرى تنبعث من بين شفتيه كلما شاهد عدداً من الأطفال!

حين جلس مع نفسه راجع ذرية الوالد،اثنا عشر ذكراً في اثنين وعشرين مولوداً من الأحفاد بعد المئة،عددهم يفوق حدود قدراته على التحمل!.

بصيرته ثاقبة وإحساسه المرهف يدفعه إلى الشجار مع زوجه، تلك التي لم تلدْ له غير ذكرٍ واحدٍ .

على أطراف بيته اجتمعت بيوتات عربية في تلاصقٍ من ودّ وانسجامٍ، أصوات أولاد جيرانه تعكر من هدوء نفسه،ما يأتي بعد الصفر واحدٌ وما يأتي بعد الواحد مفتقدٌ!

حنينه عميقٌ، حاجته تمس أدق تفاصيل خلجات روحه، جاهدَ في الحصول على وسيلة تردّ عنه غوائل الحرمان (اتبعوا الوسيلة إلى الحياة ) قولٌ له وليس لغيره! ذرت رياح الإخفاق حلمه في أن يتوافد عليه الأولاد لحظة يدخل البيت،المرأة أرضها صالحة وبذرته الندية طيبة المنشأ،لمَ الحرمان إذن؟ سأل وجه السماء حين حدق في فرح الفضاء وحول هذا السؤال استراح في خاطره تقدم العلم في صناعة طفل الأنبوب، قرأ كثيراً، أمعن في القراءة جيداً،ما أنكره عليه الزمان لن يُنكره عليه علم العلماء .

استعدّ واستعدت زوجه، رافقتهما إلى المشفى أم الزوجة بعد أن ودعا الأهل طالبين بركات الدعاء .

إنه زمن الانتظار الصعب، إنها الفرحة المرتقبة، أيام بزوغ الشمس راح يعدها، بأصابعه يعدها،وعند منتصف الوقت رأى الهلال وقد رسم خيطه اللجيني الرائع مثل قوس قزح على شعر طفلة سمراء، تفاءل خيراً، شكر ربه وأثنى عليه في الدعاء .

انكسر الحلم وانقطع خيط الأمل، دماء حمراء غطت فراش الزوجة، صاح مقهوراً :

 لا ... هذا ظلمٌ ونكران !

القمر يستدير منيراً، يرفع رأسه نحو السماء يرى النجوم متناثرة من حوله تبثه من إشعاعات ضوئها بأكثر مما يبثه القمر، يناجيها وفي غمرة مناجاته تتلألأ نجمة تخرج من بين جمع كواكب "نعشٍٍ تسأله :

 لم َ كلّ هذا الحزن أيها الصديق ؟.

في انبهاره الروحي يسأل عقله "هل أنا في حلمٍ عجائبي؟ أم أنني أمارس واقعاً أسطورياً من اختبارٍ جوانيٍ لا قدرة لي على تحمله ؟!".

تقترب النجمة ... تُمررُ نسمات ربيعٍ نيسانية على جبينه المتعب ... فتنتعش روحه وُيرهف السمع أكثر ... يُحدق في لمعان تلك القادمة نحوه ... يستنير بصره وقلبه ... يلف الدفء خلايا جسده التي أقرسها الحرمان ... يُصغي إلى فرح الشفاه ... أصبحت جزءاً منه وصار جزءاً منها ... ُتشرق قسمات وجهه التي لاكها صمت الولادة ويستقر حدّسه عليها .

كلّ مساءٍ يراقبها وقد شقتْ ثوب الظلام في القبة السوداء ... بثقة تعتلي كأنها تقترب منه ... كلمات الأغنية التي أحب ُتغنيها ... ُيدندن وراءها دندنة عاشقٍ لم تقهره الأحزان.

ذات ليلة قمرية والسماء متوحدة مع النجوم انتظر خروج النجمة من كوكبها تلك التي أرشدته إلى طريق الفرح ... لم تظهرْ ... تأخرتْ كثيراً ... خفق قلبه وانداحت في داخله وساوس مثل لون الليل ..."تُرى أين اختفت ؟ كيف الوصول إليها ؟ أين أنتِ يا قنديل الروح؟ لا تتركيني أعود إلى غربتي ... نسيتُ زمن الولادة بعد أن اخترت زمن الحياة ... حياتي في مناجاتك ... في ربيع نسائمك!"

في ذهولٍ من صمتٍ عميقٍ ظل محدقاً في السماء وعيناه في قلقٍ تبحثان عنها حتى بزغ ضوء الصبح ونسلت خيوط الشمس جدائلها في طلوعٍ يأخذ بألباب الأبصار لكنه لم يشعر بذلك الفرح الغامر،هو حزينٌ، تغلغل الحزن في جنبات روحه من ليلة الأمس ... نجمة السلوى لم تظهر ... "هل أفُلتْ ؟".

التثاؤب يشده إلى فراشه فهو لم ينمْ بعدُ ! لكنه لا يستطيع النوم إذا لم يشاهدها ... ضوء الصباح باهرٌ ... وسطوع شمس الضحى تبدو حادة ... قدرته على التحديق في السماء والتحديق بعيداً بعيداً في فضاءات الضوء ُتتعب عينيه ... شعر بالاكتئاب ... بالبردِ ُيرجف جسده ... بالحنين يرمي عود ثقاب كي يشتعل زمن القهر ذاك الذي نسيه !

أولاد عمي من أبي عددهم يزيد على أحفاد أبي من إخوتي بمائة بعد العشرة وأنا الوحيد من بينهم مثقل بالهموم.

فتح باب سيارته، جلس على الكرسي، ضغط على المكابح، لا يدري أين يسير وفي أية جهة سيضع قدمه؟ زمن التعب يردد نشيد الكادحين ... موسم الحصاد قد بدأ ... البيادر يحملها فلاحو الأرض ... عرقٌ ينسكب جداول من عطاء ... "وأنا ماذا أعطيت زمني في أكثر من ولدٍ يحمل اسمي" يسأل نفسه .

أحس بالعطش ... أمسك بالزجاجة الشفافة وقد استلقت على المقعد الخلفي ... ماؤها ساخنٌ لم يرو ظمأه والشمس حادة والوقت قيظٌ ، لن يعود هذه الليلة إلى بيته ... سيظل مع فضاءات الطبيعة يعاود الكرة في انتظارها ... حاسته المرهفة تنبئه بظهور النجمة ، تلك التي آنسته في زمنه المتعب.

صوت صرصور الليل يعلو ... ُيصغي إلى غنائه الليلي يقول في سره:"المخلوقات الحية أفضل من البشر"... ثم يستغفر ربه .

جالسٌ هو وحيدٌ وحزينٌ، وفي سديم شروده تربتُ يدٌ كتفه ... ينتفض فزعاً من مكانه ... يرى وجهاً منيراً ... يلقيان التحية ويجلسان،وفي غمرة الحديث أفاض في رؤاه وأحلامه التي وئدت منذ تباشيره الأولى مع الحياة.

يبسم الشيخ المهيب في وجهه ويقول له :

 أخرج ما في رأسك !

في ذهولٍ من صمتٍ مطبقٍ يسأل نفسه:"ما يوجد في رأسي وأنا لا أعرفه؟".

يكرر الشيخ الأمر عليه، فيقع في حيرةٍ من أمره ويرتجف، يسأل النجمة أن تعود إليه لتدثره بالدفء، حزيناً يعاتبها، حزيناً يبكي، حزيناً يعود .

مع صهد الظهيرة استوقفه عقله:"أخرج ما في رأسك".

ترك سيارته على يمين الرصيف ... عكف على أحد المحلات العامة ... اختار منضدة ُتطل على حديقة المكان ... أمسك بورقةٍ ... أخرج القلم من جيبه وراح يكتب عن زمن وطنه في غياب النجمة .

استجمع قواه ... جَدّ في البحث عن أمهات الكتب ثم كتب... أجمع القراء على ما في رأسه من أفكارٍ ... فتعددت رؤاه في تعددية كتبه ... ازدانت المكتبات بقلم كاتبٍ كبيرٍ، وبعد مرور زمنٍ غير قصيرٍ نده الشوق في أعماقه "أين أنتِ؟" تلك التي طال زمن غيابها وما عادت للظهور !

انتظر الليل، ثقوب السماء الفضية تتلألأ، تتراقص في ابتهاج سعيدٍ،الليلة ليلة القدْرِ و* ليلة القدر خيرٌ من ألف شهرٍ*،هاهو يراقب مدار النجم من كواكب "نعش" يا لعظمة السماء في صمتها؟!... هزته خفقة قلبٍ ... أصغى ... صوت النجمة في داخله يدغدغ خلايا جسده، "اخترتُ قلبك سكناً أبدياً لي بعد أن توافد أولادك ... سراعاً... متوهجين بدفق العطاء ... أنظر كم ولداً أنجبت؟".

في سكونٍ عميقٍ من الفرح السعيد ضم يديه معاً إلى صدره بكلتا يديه وما ملكته نفسه من قوةٍ، فأحس بالأولاد يملؤون عليه كلّ الأزمنة .


مشاركة منتدى

  • لا استطيع إلا أن أقول : رائع

  • بسم الله الحمن الرحيم
    الى القاصة سها جلال
    تحية طيبة
    عندم تشرع السماء أبوابها نعلم ان الله مازال موجوداً يجود علينا بما يفرح قلوبنا ويسعدها بما يبدعه المبدعون
    لقد قرأت قصتك ألأفعى وشعرت بان هناك قاصة متكنة من أدوات قصها ،وانها استطاعت ان تمسك بخيط القص وعدم افلاته الى الاخر،بالرغم من تعدد الحوادث وألأحداث في ألأفعى
    يضاف الى ذلك جزالة الكلمة ووضعها في موضعها الصحيح بالرغم من لغة قنديل الروح العالية المتسامية مع صدقها الفني في الطرح والمعالجة
    وهكذا نرى سها جلالقد أجادت في توصيل فكرتها الى القارئ
    هنيئاً لك النجاح ونتمنى لك الموفقية ومزيداً من ألأبداع
    القاص
    سالم شاهين
    عضو/ألأتحاد العام للأدباء والكتاب في العرا

أي رسالة أو تعليق؟

مراقبة استباقية

هذا المنتدى مراقب استباقياً: لن تظهر مشاركتك إلا بعد التصديق عليها من قبل أحد المدراء.

من أنت؟
مشاركتك

لإنشاء فقرات يكفي ترك سطور فارغة.

الأعلى