الجمعة ١ تموز (يوليو) ٢٠٠٥
بقلم ياسمينة صالح

تقاطعات قلب وحزن ووطن!

صـباح الوطن:

ينتشله النهار من الهباء إلى الهباء ويدخل تساؤلات الروح جاثما على عتمته الأزلية ..

أكان عليه أن يقول ما قاله الأنبياء كي ينجو من الحقيقة ويهتدي إلى الفراغات الموحشة باسم المنطق، والمحتمل، والممكن، والمستحيل؟

كانت له الأسماء كلّها .. والوطن الموصوم بالخيبات القديمة والفتوحات التي لم تفتح سوى أبواب الوجع الأخير .. من أول الشهداء إلى آخر المقتولين .. كانت له هوية يجرّها في أناته المتعبة، وتاريخ يكتبه المؤرخون كيفما شاءوا، بالحبر الأسود .. والتفاعلات المزيفة ..

كانت له انكسارات الأشياء، و القتل الجاهز للبكاء في حواف الرؤى .. كانت له مساحة للتبرير، و للتأسف على ما فات وعلى ما مضى ..كانت له المعاني الغارقة في التساقط والشتات .. وكان عليه أن يكون بطلا مرتين .. مرة باسم الوهم ومرّة باسم الوطن !

لم ينهزم حين اعتقد الناس أنه انتهى إلى صورة معلّقة على الجدار وكلمة تأبينية تقال عنه في المناسبات الكاذبة، ولكنه شعر بالفجيعة وهو يفتح أسراره للمقبلين، بنداء الأخوة و الدّم !!

هو الذي لم يجرح وردة في مسيرته الطويلة نحو الحلم، هـــــا تقتله الأغاني الماجنة، وتقسو عليه الكلمات المشعة بالموت .. يقتله أحبابه في الرثاء وفي الهجاء ويهاجمه إخوته لأنه لم يمت شهيدا باسمهم جميعا .. ولأنه في النهاية يعيش وحيدا داخل جراحه المفتوحة للخيانة!

سعيد وجهه الباكي .. وسحنته المؤطرة بالخيبة .. أكان عليه أن يكتب وصيته الأخيرة، لأعدائه التاريخيين، كي يحمي صورة البطل في عيون إخوته/الأعداء؟

كان عليه أن يعرف أن الدّم صار ماء منذ سكن إخوانه الأبراج، وصاروا يتكلّمون لغة قتلت أحلامه القديمة.. إخوته الذين تركوه للريح، وعرّوا ظهره للأعداء لأجل التغيير الذي سمّوه عولمة، وباسم عولمة سموها سلاما!!

هل يثق بالأحلام الآن؟ هو الذي لم يقتله غير الحلم، والوهم معا .. هل وهل وهل ....؟

سراب هو هذا العمر المحاط بالفيتوهات والأحقاد .. سراب هو الحب الاصطناعي كقلب لا يدق بالإيجاب .. سراب هي الدنيا التي تبدأ عبثا، لتنتهي بـ " بالغياب " .. فارمي بآخر أوراقك وارحل سلاما سلاماَ .. فقد صار لا بد من النهاية كي ينتهي الدّور، وتسقط الستارة .. ويغادر المتفرجون القاعة .. ليرتاح الممثل من عبء الأضواء !!

مــساء الوطن:

هناَ يوشك النهار أن يقتلنا فندْخل أُبهة التّمني .. ننهض من أَنين أصَواتناَ والظّلمة المسيّجة بالتساؤُل .. أمِنْ هذاَ الظّلاَم المقبل يبدأُ تاريخنا الجديدْ؟

لاَ!!

لاَ تتمنّى البِدَايات المُسْتهلكة، ولاَ تَعد أحدا ــ بعد اليوم ــ بالسكينة، فثمة جِراح لم ننتهِ مِنهاَ بعد، والحِكاية التي تَرويها الأزمات فقدت خيالها الخصب، فلا تعدنا بالحرّية المسيّجة بالقنابل المسيلة للدموع .. ولا تبتهج ْحِين تَبْكي المدينة وحين ينزّ الفؤادْ ..

ِللبِداية صوت أمّي .. خُطاها المتناغمة في ساحة الدّار، ورائحة القهوة المرشوشة بماء الزهر.. مذياع الجيران الصّاخب والأغاني التي لم نعد نتوقف أماها سهوا ولا عبرة .. للِبداية اسم العاَبرين مدن الِحكاية، السّابحين في وهم الممكن والمستحيل .. كم ذا ترهقني المسافة بيني وبينك، فأصرخ باسمك .. أتشبث بالوَجع خَلف الدّرُوب التي مَشيتها نحوكَ، وأمضي في سُكاتْ ..

لِلبِداية طعم البنفسج و انكسار الياسمين .. فأخاف عليكَ من الشّوارع المعبّدة بالثرثرة، ومن عيونٍ القتلى والمجرمين الذين ـ مساء ـ يتربصون بك خلف زُقاق حيِّناَ القديم ..

أخافُ من الظّلِّ الذي يُلاحِقُناَ كلّما هرَبْنا إلى بَعضِنا في زحمة الشّتات والحرب .. أتدحرج فيكَ رويداً رُويدا وأسكُنُكَ كالرُّؤَى .. وأُوهِم الآخرين أنّني أعلنتُ توبتي مِنك، وطهّرتُ روحي من الحب الذي باسمه ماتت المدينة ضجرا ..

ليكن وجهُكَ دولَــــــتي الوَحيدة .. حرّيتي التي فَقدتُ لأَجلِها حقوقي البسيطة، وليكن قلبكَ زنزانة أدخلها راضية عن حياتي المسيجّة بالتّعب والهموم .. فوَحدهُ الحبّ لاَ يعترف بالحقيقة .. ووحدها الحقيقة لا تؤمن بالحيادْ!!

لـيل الوطن:

ينتشله الظلام من الهباء إلى الهباء ويدخل تساؤلات الروح جاثما على عتمته الأزلية ..

أكان عليه أن يقول ما قاله الأنبياء كي ينجو من الحقيقة ويهتدي إلى الفراغات الموحشة باسم المنطق، والمحتمل، والممكن، والمستحيل؟

كانت له الأسماء كلّها .. والوطن الموصوم بالخيبات القديمة والفتوحات التي لم تفتح سوى أبواب الوجع الأخير .. من أول الشهداء إلى آخر المقتولين .. كانت له هوية يجرّها في أناته المتعبة، وتاريخ يكتبه المؤرخون كيفما شاءوا، بالحبر الأسود .. والتفاعلات المزيفة ..

كانت له انكسارات الأشياء، والقتل الجاهز للبكاء في حواف الرؤى .. كانت له مساحة للتبرير، وللتأسف على ما فات وعلى ما مضى .. كانت له المعاني الغارقة في التساقط و الشتات .. وكان عليه أن يكون بطلا مرتين .. مرة باسم الحلم ومرّة باسم الوطن !

لم ينهزم حين اعتقد الناس أنه انتهى إلى صورة معلّقة على الجدار وكلمة تأبينية تقال عنه في المناسبات الكاذبة، ولكنه شعر بالفجيعة وهو يفتح أسراره للمقبلين، بنداء الأخوة والدّم !!

هو الذي لم يجرح وردة في مسيرته الطويلة نحو الحلم، هـــــا تقتله الأغاني الماجنة، وتقسو عليه الكلمات المشجعة على الموت .. يقتله أحبابه في الرثاء وفي الهجاء ويهاجمه إخوته لأنه لم يمت شهيدا باسمهم جميعا .. ولأنه في النهاية يعيش وحيدا داخل جراحه المفتوحة للخيانة !

سعيد وجهه الباكي .. وسحنته المؤطرة بالخيبة ..

أكان عليه أن يكتب وصيته الأخيرة، لأعدائه التاريخيين، كي يحمي صورة البطل في عيون إخوته/الأعداء؟

كان عليه أن يعرف أن الدّم صار ماء منذ سكن إخوانه الأبراج، وصاروا يتكلّمون لغة قتلت أحلامه القديمة.. إخوته الذين تركوه للريح، وعرّوا ظهره للأعداء لأجل التغيير الذي سمّوه عولمة، وباسم عولمة سموها سلاما !!

هل يثق بالأحلام بعدئذ؟ هو الذي لم يقتله غير الحلم، و الوهم معا .. هل وهل وهل ....؟

سراب هو هذا العمر الحافل بالنكسات، والأحقاد .. سراب هو الحب الاصطناعي كقلب لا يدق بالإيجاب .. سراب هي الدنيا التي تبدأ عبثا، لتنتهي ب " بالغياب " .. فارمي بآخر أوراقك و ارحل سلاما سلاماَ .. فقد صار لا بد من النهاية كي ينتهي الدّور، وتسقط الستارة .. ويغادر المتفرجون القاعة .. ليرتاح الممثل من عبء الأضواء !!

آخر الليل:

قف !

يسرقه الزحام والكلام اليومي عن الحرب والخبز .. يترجّل أحلامه المسرعة باتجاه الشتات، هو الذي سكن حكايات المدينة، وأوهم العشاق أن الحب سينتصر في نهاية الرواية .. هو .. الذي لم يعد شيئا منذ اكتشف أن الحب لا يعيش طويلا .. وأن العشق قد يتعرض للحوادث ككل الناس، لأن البدايات فقدت نكهتها وانهالت عليها اللعنة!!

قف!

يدفعه الحنين إلى الجنون .. يتسلق جدران المستحيلات كي يرى أمه .. كي يحتضن حبيبة فارقها منذ عشرين عاما .. أيام كان قلبه غضا .. وعواطفه تقضم تفاحة الشعر ولكنه كبر .. شاخت عواطفه وتقاعد قلبه .. وانهار .. انهار! عشرون عاما .. يجوب الشوارع متنكرا في زي شحاذ كي يراقب أهله .. يتسلّل إلى رؤاهم في السّر..

وفي السّر يسرّب إليهم ما تبقى من نبض ما زال يشتعل في دمه .. نسيته المدينة .. لكن البوليس لم ينس شكله.. منذ عشرين عاما يلصقون صورته على الجدران، ليطالبوا به حيا أو ميتا .. لم يفهم أحد أن السنوات تغيّر من شكل العشاق أيضا .. وأن الحب سرعان ما يصير عادة سيئة!

قف!

يلتفت يمينا و شمالا .. وجهه الحزين يثير القرف.. في عينيه تبرق الحقيقة الوحيدة التي جاءت به إلى هنا .. كي يرى أمه للمرّة الأخيرة! يتسلّل رويدا رويداً .. يتسلّق جدار الحديقة .. يتفادى نباح الكلاب .. يتفادى الخطوات المقبلة ويدخل إلى الدار .. داره التي لم تعد له .. صارت لإخوة تنكروا له باسم الشرف، وقاطعوه باسم الكرامة!

يلمح والدته في وسط الدار .... كأنه الموت الذي يجرّه دوما من تلابيبه كي يلتقي بمن يحب وبمن يكره أيضا .. في البدء كان يجيء متخفيا كي يرمق أعداءه القدامى محمّلين نحو مثواهم الأخير .. لكن الموت مختلف هذه المرة .. ها هي أمه التي لم يرها كثيرا، على مدى عمر قضاه هاربا ومتسلل ا.. أمه التي لم تحتضنه كما كان يجب أن تحتضن أم طفلها الحبيب .. هي التي كانت تجلس القرفصاء في زمن الرّحيل إلى اللاشيء .. ترقب الباب علّه يأتي .. من آخر العمر .. أو من أول الموت .. آه لو يأتي.. !

هــــــــا يكتشف أنه يتيم الآن .. وأن الحكاية لن تعنيه، والسجون، والرفاق الذين تظاهروا أمس للمطالبة بحياته في زمن الديكتاتورية .. لا شيء صار يعنيه وقد صار وجها لوجه مع أمه التي لن تسمع صوته ولا نحيبه ولا صياح الوجع فيه ..

قف!

ولا يتوقف .. يصيح الصوت ثانية .. ولا يأبه بشيء .. تدوي طلقات النار .. شيء يصيب ظهره .. يترنح ..

هل هو الموت؟

يترنح أكثر ويسقط .. يشم رائحة الأرض المبللة بمطر الربيع ويتذّكر أمه ثانية .. يتذكر إخوانه الذين نسوا شكله، وحبيبة تزوجت من جندي طارده منذ عشرين عاما .. تذكر أنه مطالب بالحياة كي يمشي نحو نهايته باسما .. لكن .. شيء يخزه الآن ..

أهو الموت حقا .. يقترب الجنود منه .. يشعر بحذاء ثقيل يحط على رأسه، ويهزّه .. فلا يتحرك .. يسمع أصوات تتباهى بدمه .. تتصافح محتفلة بالنهاية، فيعرف بحاسته أن الجرائد ستكتب عنه غدا .. هو الذي لم يكن محاربا ولا سياسيا سائحا، كان مواطنا طالب بالخبز فطاردته الشرطة .. طالب بالحرية فطارده العسكر .. طالب بالحياة فطاردته المدينة .. هو الذي لن يجد من يبكيه ..

لا شيء سوى قبر يضاف إلى قبور يتكئ عليها الناس ليستريحوا من عبء الأشياء الجاهزة سلفا لأجلهم ..

فالحكاية بدأت للتو ولن تنتهي!!!


أي رسالة أو تعليق؟

مراقبة استباقية

هذا المنتدى مراقب استباقياً: لن تظهر مشاركتك إلا بعد التصديق عليها من قبل أحد المدراء.

من أنت؟
مشاركتك

لإنشاء فقرات يكفي ترك سطور فارغة.

الأعلى