السبت ١٠ تموز (يوليو) ٢٠١٠
بقلم عادل سالم

خذ حاسوبك وارحل

منذ أواخر تسعينات القرن العشرين يحاول ابني البكر إقناعي بشراء حاسوب شخصي، وتعهد بتعليمي كيف أتصفح الشبكة العنكبوتية، لكنني كنت دائما أتهرب من اقتراحه، فلم أستخدم هذا الجهاز اللعين من قبل، ولا أعرف شيئا عنه.

لم يهدأ ولدي، وظل يغريني بفوائد الحاسوب المتنقل (المحمول) ويشرح لي كيف استخدمه. وأخيرا في عيد ميلادي السبعين فوجئت به يهديني حاسوبا شخصيا ويفتح لي اشتراكا بالشبكة العنكبوتية وحفظ لي في قسم (بوك مارك) الصحف التي أحب قراءتها فسهل علي الموضوع.

وبالفعل بدأت كل يوم أتابع ما تنشره مواقع الأخبار وأحيانا استخدام زر البحث للتسلية لأرى ماذا يعرضون علي.
وصرت كلما خطر على بالي شيء كتبته في زر البحث وضغطت على زر الإدخال، هكذا مع الأيام أصبحت لدي بعض المعلومات باستخدامه, وصرت شغوفا به مما أثار زوجتي التي قالت لولدنا:
  ماذا أحضرت لوالدك لتشغله عني؟ خذ حاسوبك معك.
كان ابننا سعيد يضحك ويحاول إقناع والدته بأن تحذو حذوي، لكنها كانت ترد عليه بقولها المشهور:
 بعد ما شاب ودوه على الكتاب

مرت شهور ثم سنوات أصبحت ملما بالبريد الإلكتروني وأعجبتني الفكرة، فاتصلت ببعض أصدقائي وأقاربي وجيلي طبعا وعرضت عليهم الفكرة وصرنا نتراسل من خلال الحاسوب، وكنت كلما صعبت علي مسألة أسأل أحفادي الذين كانوا يتسابقون لتعليمي، وكنت أفاجأ بذكائهم باستخدام الحاسوب رغم صغرهم فيما هم يتغامزون على جدهم المتخلف تكنولوجيا. وكنت محتارا بينهم فهذا يحاول إقناعي أن أنتقل إلى بريد الهوتميل وآخر إلى ياهو وهكذا لكن ابني سعيد شجعني أن أستمر في جوجل وقال لي:
 لا تغير بريدك فهذا أسهل الموجود. وفعلا رأيته أفضل لأنه لا يعرض علي إعلانات كثيرة وأنا أكره الإعلانات.

في أحد الأيام فوجئت بكثرة الرسائل التي تصلني من مجموعات بريدية ومواقع للدردشة، فسألت أحفادي أن ينجدوني فأخبروني أنهم أضافوا اسمي لتلك المجموعات.
 لماذا يا جدي؟
 حتى تشارك في الحوار والمناقشة.
 يا فرحة جدتك لو سمعتك تقول هكذا لوبختك.

لم أكن أشارك بالحوارات وكنت أحذف كل الرسائل التي تصل من المجموعة دون أن أخبر أحفادي كي لا يغضبوا، وفي أحد المرات عرض علي أحدهم اسم موقع للدردشة والتسلية قال إنه مشوق. فسجلت به وبدأت أدخل إليه لأرى رجالا ونساء يشاركون في الحوار. أعجبني مشاركة النسوان، فقلت لنفسي:
 فرصة للتسلية بعيدا عن زوجتي العجوز.

كانت دردشات تلك المجموعة غير منضبطة فهي تبدأ بالسلام والكلام وتنتهي بالإيحاءات الجنسية، رغم ذلك لم ينسحب أحد من النساء من الحوار بل يشاركن به ويقهقهن كأنهن كن يستعذبن ذلك.

شجعني ذلك على المتابعة ولكني لم أستطع المشاركة في الحديث كي لا تسمعني زوجتي التي لم تكن تسمع ما يقولون لأنني أضع الهدفون على أذني.
في أحد المرات قلت لها:
 سنذهب الليلة للسهر عند سعيد، اسبقيني وسوف ألحق بك.
وبعد ساعة من ذهابها قلت لها عبر الهاتف
 أشعر بالإرهاق والنعاس. لذلك لن أحضر.
استغليت غيابها وبدأت بالدردشة وهكذا أصبح لي بعد فترة صديقات على الشبكة، كانت إحداهن من لبنان عرضت علي زيارة لبنان ورحبت بي، سررت بذلك وقلت لنفسي إنها فرصة لتغير جو، فأنا تجاوزت السبعين من عمري وبحاجة إلى الراحة والاستجمام.

سافرت إلى لبنان والتقيت بها كانت امرأة في الأربعينات من عمرها جميلة متوسطة الطول، ممتلئة الجسم. استقبلتني في المطار وأخذتني إلى الفندق. ومنذ تلك اللحظة تكررت زيارتي إلى لبنان حاملا الهدايا للعشيقة الجديدة حتى صرفت كل مدخرات عمري الذي قضيته بالتدريس، فتوقفت عن زيارتها وشراء الهدايا لها فانقطعت علاقتي بها.

فجأة صحوت على نفسي لأجد بأنني لم أعد أملك شيئا، ولم يعد راتبي التقاعدي يكفيني بعد الانهيار الاقتصادي العالمي عام 2008. وعندما طلبت مني زوجتي بعض الفلوس لشراء ملابس لها فوجئت برفضي. لم تصدق أنني صرفت كل الفلوس، وقالت لي هازئة:
 صرفتها في لبنان على السهر وشمات الهوا؟
حاولت أن أشرح لها أنني لم أكن أسافر إلى لبنان لشمات الهواء لكنها لم تقتنع فساءت العلاقة بيننا.

شعرت بحجم المصيبة التي أنا بها، وأصابني الإحباط، لم أعرف ماذا أفعل. لكنني بعد فترة اهتديت إلى الحل.
عندما جاءنا سعيد للزيارة قلت له:
 قبل أن تخرج احمل هذا الصندوق معك.
 ما هذا يا والدي؟
 إنه جهاز الحاسوب الذي أهديتني إياه.
 ماذا تقول؟ ما الذي جرى؟
بعد تفكير قلت له:
 الحاسوب أخذ وقتي من أمك ولم أعد أسهر معها كالسابق.
 وهل يجب أن تقضي وقتك على الحاسوب.
 صدقت، لكني قررت ولن أتراجع عن قراري، إنه إدمان مثل المخدرات.
 يا والدي الحاسوب علم وثقافة وليس فقط دردشة وتسلية....
قاطعته:
 يا ولدي، أنا لست من جيل حاسوبك دعني وجيلي. أنا من جيل أمك.

حمل سعيد الحاسوب مرغما، وغادر فيما بقيت أنا وزوجتي وحيدين، وجهي بوجهها. قالت:
 الحمد لله الذي استرحنا من حاسوبك، صرنا نراك على الأقل.
ضحكت وقلت لها:
 ما رأيك أن نذهب الليلة إلى السينما.
 سينما؟ بعد هذا العمر؟
 طبعا سينما، ألا تريدين أن تستعيدي سنوات الشباب عندما كنا نذهب معا بعيدا عن أعين آبائنا.
ضحكت وقالت:
 وماذا سنحضر الليلة.
 سنبحث عن فيلم رومانسي، نستعيد فيه رحلة الحب القديمة.


أي رسالة أو تعليق؟

مراقبة استباقية

هذا المنتدى مراقب استباقياً: لن تظهر مشاركتك إلا بعد التصديق عليها من قبل أحد المدراء.

من أنت؟
مشاركتك

لإنشاء فقرات يكفي ترك سطور فارغة.

الأعلى