الخميس ٨ تموز (يوليو) ٢٠١٠
بقلم مصطفى أدمين

حِوارٌ مع فتاةٍ صَمّاء- بَكْماء

قالت بأنّ اسمها وفاء وأعطتني رقم مِهتافِها المحمول لأجل أن نتواصل فيما بعد. وكنتُ في حالة مزاجية لا تسمحُ لي بإجراء أيّ حوار أو دردشة؛ بل كنتُ قرّرتُ أن ألتزم الصمتَ طيلة الرحلة الفاصلة بين مدينتيْ أكادير ومرّاكش. ونحنُ في الحافلة، سمعتُ شتائم كثيرة استأهلها وسيطُ بَيْعِ التذاكر للمسافرين وهم على الرصيف، وعلى إجْلاسِهم في الحافلة؛ غير أنّه كان يتصرّف مع أغلبهم ك"نصّاب محترف"...

وعلى الرغم من لباسِه «الإسلامي»؛ ولِحيتِهِ المبعثرة، ودينار العبودية المرسوم على جبهته المُسطّحة؛ فلقدْ أكرمَهُ المسافرون المغبونون في حقوقهم الرِّحْلية بـِوابل من اللعنات... لعناتٍ استحملَها بمكر وخسّة طِوال الرحلة.

ليس لي أيّ مزاج للتدخل في مشكلة باتتْ أمرا مألوفا. سبق لي - أنا الآخر- أنْ سُرقتُ عند شبابيك التذاكر، وعلى أرصفة المحطة الطريقية؛ وتشاجرتُ معهم حتى عندما أسأل عن حقوقي، وعندما أظْهِر قليلا من الاحتياط خارج أو داخل الحافلة.

في المحطّة يجب أن تحتاط وتشُك؛ فسائق الحافلة ليس هو السائق، والوسيط ليس هو الوسيط، والتذاكر ليست هي التذاكر، والوجهة ليست هي الوجهة، والثمن ليس هو الثمن... الأمر شبيه بصفقة سياسية بين بلد مستضعف وبلد متجبّر.

وكانت في دماغي مشكلة أخرى...

بجانبي، أجْلَسَ ذلك الإبليسُ البشري فتاةً لم أرغبْ في النظر إليها. محادثةُ المجاملةِ طيلة أربع ساعات ونصف، شاقّة عليَّ؛ والضجيجُ أنهكني. صرتُ لا أفكّر إلاّ في الصمت لكي أسمع إلى صوتي الداخلي:[كيف تجرّأ ابن أختي أن يطلب منّي أن أخطب له فتاةً وهو شبه عاطلٌ؟...الرجلُ المسكين جاوز الثلاثين؛ لكن؛ من أين له أن يؤسِّسَ أُسْرَةً والعيشُ صار مثل الجحيم؟]

ـ لماذا لا يفكرون في اليوم العالمي للصمت؟... اليوم العالمي للزواج؟... اليوم العالمي للشرف والنزاهة...

نسير في طريقٍ سيّار حديث التدشين بدون مقابل، لكنّه أشبه - من حيثُ البطءُ والمشاكِلُ - بالطريق القديم الموازي له. إلا أنّ الطبيعة فائقة الجمال في بداية شهر تمّوز/يوليو؛ وعبور جبال الأطلس العظيمة يشعِرني بالضعف، والحيرة، والأمل... فأسأل نفسي:

 هل بمقدور الإنسانْ أن يجعلَ من إبليسْ كائناً خيّرا؟

عند خروجِنا من مدينة (شيشاوة) عمَّ صمتٌ مفاجئ اعتقدتُه انبعثَ من ذاتي المتسائلة. ثمّ شعرتُ بأنامل رقيقة تلامسُ كتِفي الأيمن.

إنّها وفاء.

التفتْتُ إليها. آية في الجمال واللباس والطهارة. وهي من ابتدأ الكلام:

 اسمي وفاء. قالت بـِلُغة الأصابع.

 أنا مصطفى. قلتُ بـِلُغة اللسان.

 أشتغل خيّاطة في مدينة أكادير.

فكّرتُ أن أقول لها بأنّني خيّاطٌ بشكلٍ مّا، لأنني أخيط الكلام وأنسجُ منه قصصاً للتاريخ. لكنّ «التفلسف اللغوي» لم يعُد يعجِبُني. فأنا شيخٌ أنهكتْهُ المظالمُ والحروب، والرشاوى وكرة القدم (كنّا في مونديال 2010 بأفريقيا الجنوبية؛ والجزائر خرجت منه خلال الدور الأول)...

ـ أنا متقاعد.

سمِعَتْ بعيْنيْها هاتيْن الكلمتين وأشفقت عليَّ، وقالت لي بأصابعها:

 أراكَ ما زلتَ شابّاً... ماذا كان عملُك؟

ـ كنتُ مُدرّساً.

ابْتَهَجتْ.

وتوقّفت الحافلة. وسألَتْ؛ فأجبتُها:

 إنّهم رجال الدّرَك يراقبون حمولة الحافلة وعدد ركّابها. فقالت لي:

 لا دَرَك ولا هم يحزنون... الأمر كلّه رشوة وتسير الحافلة إلى الهاوية.

وكان بعض المسافرين الفائضين مختبئين بين الرُّكاب... ولم تكن أيّة مراقبة. وكانت الفتاةُ الجميلة الصمّاء - البكماء على حقّ.

 أنا خالُه، وهو مثل ابني، ولا بُدَّ لي من مساعدته بالنصيحة وبالمال... الطفل صار رجلا، ولا بُدَّ له من الزواج. قلتُ لنفسي.

وقالتْ "وفاء":

 تبدو مهموما... ماذا بك؟

فأخبرتُها؛ فأخبرتني بأنّها - هي الأخرى - ستتزوّج؛ وما رحلتُها إلى مدينة مراكش إلاّ لهذا الغرض.

 سأتزوّجُ شابّاً اسمُه عبد الله (حيث أنّها ركعتْ وأشارتْ بإبهامِها البضّ إلى أعلى).

فما عاد يُسْمع في الحافلة إلاّ حوارنا.

ونحن على مشارف مدينة مُراكش؛ وكأنَّ جميع أنواع الغضب والسخط قد اختفتْ.

 "عبد الله" أصمّ- أبكم هو الآخر؛ ويشتغل في معملٍ لنجارة الآلومنيوم.

ثم استخرجتْ من حقيبة يدِها قلماً وورقة كتبت عليها اسمَها ورقمَ مِهتافها المحمول وناولتنيها.

 هل تعلّمتِ القراءة والكتابة في إحدى الجمعيات؟

 نعم... والحمد لله.

فقالتْ لي نفسي:

 في بلادي ما زال مُتَّسعٌ للخير والأخيار.

وما إن سجّلتْ اسمي ورقمي في مِهتافها، حتّى تفجّرت اللعنات من جديد؛ وذلك المجرمُ الذي يدّعي الهدوء، يمسحُ بيدٍ قذرة وجهَه السُّخامي؛ ويصرخ:

 مراكش... مراكش... بلغنا المحطة الأخيرة... تهيّئوا للهبوط...

فقالت لي وفاء:

 هل يمكن لك أن تحضر في حفل زفافي؟ فأجبتُها:

ـ أعطِني العنوان ولسوف أجيء...

وافترقنا على أمل أن تجمعَنا - في يوم مّا - لُغةُ الأصابع الطاهرة في صمت الوجود...


أي رسالة أو تعليق؟

مراقبة استباقية

هذا المنتدى مراقب استباقياً: لن تظهر مشاركتك إلا بعد التصديق عليها من قبل أحد المدراء.

من أنت؟
مشاركتك

لإنشاء فقرات يكفي ترك سطور فارغة.

الأعلى