الثلاثاء ١٣ تموز (يوليو) ٢٠١٠
بقلم رانية عقلة حداد

في الخامسة بعد الظهر ... خطوات تتلمس طريقها

قديما أشعل ديوجين مصباحه في وضح النهار، كي يبدد العتمة ويمد الناس بالبصيرة الغائبة، كانت خطوات الشابة الأفغانية نوغرا -الشخصية الرئيسية في فيلم "في الخامسة بعد الظهر"- تسير في عتمة مشابهة، وهي تحاول خلسة أن تستدل إلى وجهة حريتها وطريق خلاصها، بعد سنوات من التزمت والقمع الطالباني.

في مطلع الفيلم صوت خافت كئيب يردد مقطع من قصيدة لوركا في رثاء صديقه الذي صرعه الثور فحمل الفيلم عنوانها:

"يا للساعة الخامسة بعد الظهر

دقت الساعات كلها عند الخامسة

إنها الخامسة في ظلمت بعد الظهر"

لا نعرف أهو صوت ينبعث من قلب نوغرا الحزين أم من قلب الوادي السحيق الذي تصعده نوغرا بمشقة لجلب الماء، والذي يشبه لحد بعيد الطريق المتعين على المرأة الأفغانية أن تسلكه إذا ما أرادت أن تمتلك استقلاليتها.

نوغرا ابنة رجل ينتمي فكريا إلى جماعة طالبان المتشددة، والتي تحرّم خروج المرأة للعمل أو التعلم في المدرسة، وتعتبر كشف المرأة عن وجهها فجور، لذا كل ما يسمح به والد نوغرا لها فقط الخروج لجلب الماء، أو الذهاب إلى الكتّاب لتعلم القران، لكن بعد الاحتلال الأمريكي لأفغانستان، وسقوط نظام طالبان وافتتاح مدارس لتعليم البنات، اخذ توق نوغرا للتعلم ينمو داخلها، مما جعلها تغافل والدها، فما أن تدخل أمامه إلى الكتّاب حتى تخرج من بابه الآخر، ترفع البرقع وتستبدل حذاءها المفروض عليها بحذاء آخر محرم لبسه لونه ابيض ذو كعب ثم تفتح شمسيتها الزرقاء وتتجه سرا إلى المدرسة.

لا تتجه المخرجة الإيرانية سميرة مخملباف في حبكة فيلمها نحو تشويق المشاهد، لمعرفة ما إن سيكتشف والدها السر، وبالتالي ما يمكن أن تكون عليه ردة فعله والعقوبة إن اكتشف ذلك وهو الرجل المتشدد، الذي يرى أن أفغانستان أصبح يعمها التجديف بغياب نظام طالبان، حيث فتحت المدارس أمام النساء، وأصبحن يرفعن البراقع عن وجوههن، إنما الفيلم يأخذنا إلى ما هو أهم، إلى رحلة نوغرا اليومية والسرية من الكتّاب إلى المدرسة، وما تكتشفه في المدرسة من صورة أخرى يمكن للمرأة أن تكون عليها، غير تلك المهمشة والضعيفة والتابعة للرجل، إنها صورة تداعب حلم نوغرا بان تكون امرأة قوية ومستقلة وصانعة قرار، وإذا كان ثمة نقطة تحول يمكن رصدها في شخصية نوغرا بتأثير من المدرسة، فهي في انتقال نوغرا إلى معرفة جديدة، وامتلاكها القدرة على الحلم بعد أن كان ذلك متعذرا في عهد طالبان، وحين تسأل مديرة المدرسة الطالبات عن المهن التي يطمحن أن يعملن بها مستقبلا، كجزء من التدريب على الديمقراطية- حيث أصبح هناك هامش من الحرية ممنوح للمرأة- سؤال واحد استوقف نوغرا، وبعث في داخلها الحلم، "من ترغب أن تصبح رئيسة أفغانستان؟"، فهل كان من الممكن أن يراود أي امرأة أفغانية طموح كهذا في ظل حكم طالبان، وهي التي لم تكن لتجرؤ مجرد التفكير بالعمل خارج البيت، إنما الآن أصبح حلما كهذا يمكن أن يداعب خيال أي امرأة، فراحت نوغرا تبحث عما يلزمها كمرأة كي تكون رئيسة للجمهورية، وما يمكن أن يكون عليه خطابها، وما الذي سيدفع الناس لانتخابها، ولو كتدريب افتراضي داخل المدرسة.

أجساد تهوي

إذ تخيم الحرب لا تبقي حجرا على حجر، هكذا لحقت عائلة نوغرا بمصير مئات العائلات الأفغانية المشردة، لتسكن إما الخرائب أو أنقاض العمارات المدمرة، وواصلت نوغرا ووالدها وزوجة أخيها الانتقال للسكن تارة في بقايا بناء، وتارة في بقايا طائرة، وتارة أخرى في قصر مهدم ومهجور، ثم في صحراء خالية وجرداء تشبه شظف العيش الذي تعانيه الأسرة فنوغرا وزوجة أخيها لا يسمح لهما بالعمل، والأخ الذي يعمل سائق شاحنة اختفى، والعربة التي يقودها والد نوغرا المسن لا تجلب ما يسد الرمق، ووسط هذا الجدب يواجه الحفيد الرضيع الجفاف والموت.

يفجع الأب عندما يعلم أن ابنه قد استشهد في غارة، لكنه يقرر أن لا يخبر زوجة ابنه كي لا يؤثر ذلك على إرضاع الصغير، لكن الجوع اشتد فلم يعد الحليب متوفرا في صدر الأم، وهكذا أصبح جسد آخر مهددا بالسقوط، وأمام برد الصحراء القارص أشعل الجد كل ما يملك؛ العربة التي تقلهم كي يدفئ الصغير، لكن شيئا لم يمنع الموت من أن يتسرب إلى هذا الجسد الصغير، ها هو جسد آخر يهوي، تداعى تماما كما تداعت جدران البيت الذي لم يبق منه سوى الغبار، ففي وسط هذه الانهيار في الحضارة والثقافة والروح، كيف يمكن أن تهتدي المرأة الأفغانية إلى حريتها؟

خطوات ودلالات

زوج الأحذية البيضاء –ذات الكعب العالي- الذي تخفيه نوغرا في حقيبتها وتستبدله كل يوم عندما تخرج من باب الكتّاب إلى المدرسة كان رفيقها في رحلة استكشافها لذاتها وقدراتها، حيث ترتديه خلسة كل ما سنحت لها الفرصة لتستمع إلى وقع خطواتها رانيه إلى المستقبل والمكانة التي يمكن لها أن تحتلها، ليتجاوز الحذاء وظيفته التقليدية، ويتخذ مستوى آخر من الدلالة فعلاوة على ما يرتبط هذا الحذاء بأنوثة مسلوبة، وما يوحي ارتداؤه من رغبة نوغرا بالتمرد على واقعها وعلى كل ما يقمعها، إنما أيضا يحمل دلالة خطوات المرأة الأفغانية -التي تمثلها نوغرا - وهي تتلمس طريق النجاة باتجاه حريتها وباتجاه تشكيل هويتها الخاصة، كذلك ارتبط صوت خطوات نوغرا بصوت الماء الذي تبحث نوغرا عن مصدره داخل القصر المدمر المهجور -الذي احتمت تحت سقفه عائلتها المشردة والعطشى- فالبحث ومحاولة الاهتداء إلى مصدر الماء، يوازي بحث نوغرا ومحاولتها الوصول إلى بنبع المعرفة اللازمة كي تصبح إنسانة مستقلة.

البناء الزمني والصورة البصرية

يبدأ الفيلم بلقطة واسعة تبدو كلوحة ثنائية الأبعاد، وما كنا لنميز ماهية هذه التضاريس ولا عمقها كجبال جرداء، لولا حركة نوغرا وزوجة أخيها الصاعدة من قلب الوادي بمشقة اتجاهنا لأعلى الجبل بحثا عن الماء، جميع العناصر في الكادر تساهم في إعطاء الإحساس بالخشونة والكآبة، ولغة الفيلم السينمائية وفقت في رسم صورة بصرية قاسية لواقع حياة المرأة الأفغانية والطريق الصعب الذي ينتظرها أمام تحقيق حريتها، من اللون الرمادي الذي يغلب على الصورة، إلى الملمس الخشن للتضاريس، وحجم الشخصيات الضئيل وسط هذه التكوين، فتبدو نوغرا وهي تحمل على كتفيها أوعية الماء الفارغة، وزوجة أخيها وهي تجر الحصان المحتضر، كشخصيات محاصرة من جميع الجهات بهذه التضاريس القاسية التي تختفي منها السماء، بل تصبح تلك الصخور هي سماؤهما، ويضاعف الشعور بالقسوة حركة الشخصيات البطيئة داخل الكادر، وغطاء الرأس الثقيل والداكن، كذلك صوت نوغرا الداخلي الذي يردد بحزن مقاطع من قصيدة رثاء لوركا لصديقه -التي علمها إياها شاعرا أفغاني من ضمن المهاجرين العائدين إلى أفغانستان- يعقب هذا المشهد قطع مباشر إلى مشهد ثاني ونوغرا تدخل أنقاض المنزل الذي تسكنه لتضع دلاء الماء التي جلبتها، المشهد يوهم بان اللقطة استمرارية زمنية للمشهد السابق، لكن في الحقيقة اللقطة تنتمي زمنيا إلى وقت سابق لصعود نوغرا الجبل ومن هذه اللقطة ستبدأ الحكاية، لكن من الذكاء أن تقطع المخرجة على ذات الفعل -نوغرا تجلب الماء- في زمنين مختلفين، لان ثبات فعل رغم اختلاف الزمن يمنح بدوره إحساسا بأن الزمن أيضا ثابت لا ينطوي على أي تغيير، انه ثبات يشبه الموت، ويشبه واقع حال المرأة الأفغانية، من ثم تكرار فعل والبدء به يعطيه أهمية ما، وفي هذه الحالة يسلط الضوء على محدودية الأعمال المتاح للمرأة أن تقوم بها وفق العقلية الطالبانية، بعد المشهد الثاني يواصل تطور الأحداث سيره الزمني إلى الأمام وصولا إلى المشهد الأخير، فينتهي الفيلم من حيث بدأ بلقطة واسعة لذات المكان الجبلي وقد أحضرت نوغرا وزوجة أخيها الماء اللازم للشرب، فتنزلان إلى الأسفل، وكأن قعر الجبل يبتلعهما، ليستكمل الفيلم بهذا المشهد ما قد بدأه زمنيا في المشهد الأول، بمعنى أخر لقطة البداية تم انتخابها واقتطاعها من صيرورتها الزمنية الطبيعية قرب نهاية الفيلم، وتقديمها في بداية الفيلم وبتماثلها مع لقطة النهاية -سوى باختلاف حركة النساء في البداية صعود والنهاية نزول- تنغلق الدائرة وتتصل النهاية بالبداية، مانحة إحساسا غائما حول مستقبل النساء في أفغانستان، بينما الواقع ترثيه كلمات قصيدة لوركا.

أطبق نظام وفكر طالبان على عقول الناس فخيمت العتمة في عز النهار، وان سقط ذلك النظام وزالت العتمة، ستبقى آثارها تخيم على حياة وفكر الناس، وبشكل أوضح على واقع حياة المرأة في أفغانستان، هذا ما انعكس بصريا على الصورة في الفيلم، فنشاهد مئات المهاجرين العائدين يسكنون الخرائب بعد أن دمرت الحرب بيوتهم علاوة على السكان الأصليين المشردين بعد الحرب، كما نرى أنقاض البيوت والقصور المدمرة التي حطت أسرة نوغرا ترحالها في إحداها، حيث غالبا ما تحيا الشخصيات وسط الخرائب، وذهبت المخرجة ابعد في توظيفها للون والملمس والتكوين وملامح المكان ومعماره في الصورة، لتعميق الإحساس بالقسوة والكآبة والخراب، نلمسه في شكل البيوت المحفور بصخر الجبل -فتبدو كثقوب نخرت صلابة الحجر- وتضاريس الصحراء -التي تنقلت فيها أسرة نوغرا- وبيوت الطين الخشنة، وبألوان البيئة والمعمار التي تتنوع بين الرمادي والترابي، لنجد امتدادها على ملابس الناس، والأمل الوحيدة المتبقي كي ترى ألوان الحياة هي في براقع النساء الأفغانيات الموحدة، التي منحتها السماء زرقتها، لكنها لم تتمكن من أن تبعث فيها الحياة.

في انتقال نوغرا من الشارع إلى الكتّاب تنتقل من كادر في عمقه مضيء بينما مقدمته معتمة، وعندما تخرج من الباب الآخر للكتّاب باتجاه المدرسة وتغير الحذاء تخرج من منطقة معتمة في المقدمة إلى مضيئة في العمق، فتشتغل المخرجة على هذا التضاد بين النور والعتمة، لإبراز ما يشكل الذهاب إلى المدرسة من انبعاث لأفق جديد مضيء.

كما أن بقايا الطائرة التي سكنتها أسرة نوغرا فترة قصيرة من الزمن، تحمل دلالة عميقة على الشرخ الذي أحدثته الحرب بين النساء والرجال، ففي احد المشاهد نرى كيف جسد الطائرة منقسم إلى قسمين في احدهما تجلس نوغرا وزوجة أخيها وفي الجزء الآخر نرى الأب راكعا يصلي، وفي خلفية كل منهما الأشكال الدائرية لهيكل الطائرة، وهي تتكرر باتجاه عمق الصورة كأنها عمق الهاوية التي وصلتها الشخصيات.

إدانة باتجاه واحد

عذابات المرأة الأفغانية في فيلم "الخامسة بعد الظهر" والقمع الذي فرَضَه عليها نظام طالبان المتشدد والمتعسف، موضوع يذكر بالفيلم الأفغاني "أسامة" -إخراج (صديق بارمَك)- المنتج في ذات العام 2003، فيكمل كل منهما الآخر في رسم صورة لواقع حال المرأة الأفغانية، أثناء نظام طالبان كما في فيلم "أسامة" وبعد سقوطه كما في فيلم "الخامسة بعد الظهر"، حيث في "أسامة" الأوضاع الاقتصادية الصعبة، وغياب الرجال عن البيت، وتحريم الشغل للمرأة، ومنع خروجها من البيت دون رفقة رجل، تضطر فتاة إلى التنكر بزي صبي وانتحال اسم أسامة كي تتمكن من العمل وإعالة الأسرة، ومن خلال سيرورة القصة نتعرف على واقع حال المرأة الأفغانية، والقمع والتهميش الذي تتعرض له.

"الخامسة بعد الظهر" و "أسامة" من أوائل الأفلام الأفغانية المنتجة بعد الاحتلال الأمريكي لأفغانستان وسقوط نظام طالبان فيها، وكلاهما أنتج بتمويل أجنبي لذا لا نلمح أي إدانة للاحتلال الأمريكي لأفغانستان في الخامسة بعد الظهر"، ليس إلا التلميح إلى أن الجنود الذين قدموا لتحقق بلادهم الديمقراطية في أفغانستان لا يعلمون ما يكفي عن الديمقراطية ولا يستطيعون وصفها، من خلال المشهد الذي تصادف فيه نوغرا جندي فرنسي من جنود حفظ السلام، وتسأله ماذا كان خطاب رئيس بلاده كي أقنعه بان ينتخبه، وذلك في معرض بحثها عما يجب أن يكون عليه خطابها كرئيسة جمهورية أن هي رشحت نفسها افتراضيا، أما في فيلم "أسامة" والذي يتناول حقبة سابقة على الاحتلال، فان الفيلم يبدأ بمشهد مُصور من وجهة نظر صحفي أجنبي لنساء أفغانيات في مظاهرة يتدفقن كأمواج هادرة تطالب من أسفل البراقع الزرقاء بالحق في العمل الذي يحرّمه عليهن حكم طالبان، ففُتحت النار وخراطيم الماء عليهن، وفي هذا المشهد يقدم وكأن الإعلام الغربي وحده القادر على رصد الحقيقة وتقديمها لنا بحيادية، كما يعبر كلا الفيلمين عن إدانة باتجاه واحد؛ باتجاه نظام طالبان، دون إدانة القوة التي أوجدته.
في النهاية يبقى فيلم "الخامسة بعد الظهر" - ثالث أفلام المخرجة الإيرانية سميرة مخملباف- من الأفلام الجيدة شكلا ومضمونا في إلقاء الضوء على واقع ومعاناة المرأة الأفغانية، فزوال النظام الذي قمع وأقصى المرأة عن الحياة في أفغانستان، لا يعني زواله من عقول الأفغانيين نساء ورجالا، وتغيير المفاهيم نحو الديمقراطية والحرية والعدل... لا يمكن أن تحدثه دبابة الاحتلال، لذا فالطريق الذي ينتظر المرأة الأفغانية في سبيل تحقيق ذاتها واستقلاليتها طويل، فهل ستجد خطوات نوغرا بوصلتها؟


أي رسالة أو تعليق؟

مراقبة استباقية

هذا المنتدى مراقب استباقياً: لن تظهر مشاركتك إلا بعد التصديق عليها من قبل أحد المدراء.

من أنت؟
مشاركتك

لإنشاء فقرات يكفي ترك سطور فارغة.

الأعلى