السبت ٧ آب (أغسطس) ٢٠١٠
بقلم شادية بن يحيى

الرؤيا التاريخية الإسلامية عند الطاهر وطار

«الولي الطاهر يعود الى مقامه الزكي» نموذجا

تمهيد:

ارتبطت الرواية بالتطور الحضاري ومختلف تحولاته، وعبرت عن الواقع بمختلف مظاهره، وتأتي رواية " الولي الطاهر يعود إلى مقامه الزكي " لتعالج مرحلة حساسة عاشها المجتمع الجزائري وهي مرحلة الإرهاب الذي استغرق مدة غير قصيرة وارتكب جرائم كثيرة وفظيعة بلغت حد الهمجية، وبالتالي كان وقعه في القلوب والعقول قد يعادل وقع الثورة التحريرية، إن لم نقل يفقها " ورغم انشغال الناس اليومي وأرقهم الليلي، فهذا لم يمنع بعض الكاتب من تسجيله، بل إن ثقله هو الذي يفرض على الكاتب حالة من الحضور يصعب التنصل منها"(1).

ولم يكن " الطاهر وطار" في هذا العمال يتنبأ، بقدر ما كان يرصد الوقائع، حتى أن الرواية نفسها لم تكن سوى صدى للخطاب السياسي السائد، وقد أكسبها الروائي صبغة فنية بهدف خلق بيئة حضارية، محاولا بذلك الكشف عن الخيوط الداخلية للمجتمع،وحقيقته الضائعة التي طالما ناشدها "الولي الطاهر" البطل، الذي ربما يكون تناص قصدي أو مباشر للروائي الطاهر وطار نفسه.

ويأتي الخطاب داخل هذه الرواية واضحا صريحا، مشيرا الى " الحيل الممكنة في استخدام الدين لأغراض سياسية، وإلى أن القناعة الدينية عندما تأخذ امتدادا سياسيا أو القناعة السياسية عندما ترتدي ثوبا دينيا فإن أصحابها يصعب جدا أن يتقبلوا الرأي الآخر، وينتهوا بالتالي إلى ممارسة العنف، ينتقلون من استعمال المصحف إلى الدنيا ميت"(2).

وبهذا تحمل الرواية رؤيا فكرية عميقة، تعبر عن واقع الكاتب المضطرب، الذي تمخضت عنه شخصية روائية مضطربة هي الأخرى ضمن فضاء روائي ضبابي، فمرة هي صوفية ترتقي عبر شطحات الولي الصوفية، أو فترات الغيبوبة التي يقع فيها الولي الطاهر، كما أنها تتعدد في أبعادها فمرة هي الكاتب نفسه، ومرة أخرى هي مالك بن نويرة، واخرى هي المقاتل وغيرها.

1- الرؤيا التاريخية الإسلامية في الرواية:

تواجهنا مجموعة من الإشكاليات:

ما سبب كتابة هذه الرواية ؟ ولماذا استندت على خلفية تاريخية تمحورت حولها جميع الأحداث ؟ وما سبب تقمص البطل صوفية ضبابية ؟

يمكن بجدارة أن تدرج هذه الرواية ضمن سياق ما يعرف بالتجريب داخل الكتابة الروائية الحديثة وذلك من خلال لجوء الروائي - على غير عادته - إلى استعمال تلك المقدمة الاستهلالية للرواية، فكأنها الطاهر وطار أراد بذلك توجيه القارئ، ووضعه ضمن السياق المراد للرواية، وفي خضم هذه الرواية نجده يطرح موضوع " النهضة الإسلامية الحديثة " محاولا بذلك معالجة الظروف الإيديولوجية السائدة في الجزائر.

أراد الكاتب داخل هذه الرواية إعادة بعث حادثة دار حولها جدل كبير في التاريخ الإسلامي، وتتمثل في مقتل مالك بن نويرة زعيم بني تميم على يد خالد بن الوليد – رضي الله عنه -، وذلك أثناء حروب الردة، حيث تهيأ للبعض أن " خالدا " قتله بعد أن أعلن توبته، وجهر بالشهادتين، ورأى خالد أنه مكابر منعته العزة بالإثم من التوبة إلى الله، خاصة بعد أن ذكره بواجب الزكاة، وأجابه " مالك " بقوله : " لقد كان صاحبكم يقول ذلك"، قاصدا الرسول – صلى الله عليه وسلم- فاهتزت بذلك حمية خالد وازداد غضبه قائلا: " صاحبنا ! أو ليس بصاحبك أنت أيضا..... " ثم قتله.

وخلقت هذه الحادثة جدلا سياسيا وفكريا وصل إلى ذروة الخلافة، حيث طالب عمر بن الخطاب أبو بكر الصديق " بعزل خالد بسبب فعلته، لكن " أبا بكر" رفض عزله، وصنف فعلته ضمن اجتهاد قائد ميداني، يمكن أن يخطئ، ويمكن أن يصيب وقال في ذلك مقولته الشهيرة: " أنا لا أغمد سيفا سله الله على الكافرين" معرضا بذلك الى قول الرسول – صلى الله عليه وسلم- " خالد سيف الله المسلول " .

وقد ازدادت الحادثة تضخما مع مرور الزمن، وحيكت حولها الروايات، حتى وصلت درجة التأسطر ، خاصة بعد أن وظف فيها عنصر المرأة المتمثل في " أم تميم " زوجة " مالك بن نويرة"، حيث قال البعض مهولا للحادثة، إن " خالد بن الوليد " تزوج " أم تميم " مباشرة بعد قتله " لمالك بن نويرة"، وجعل من رأسه ثالثة الأثافي، التي طهت عليها " أم تميم " طعام العرس والحفل وفي الرواية تبعث " أم تميم " في شخص " بلارة ".

ويتقمص البطل في الرواية شخصية صوفية تعيش حالات من القتل العشوائي والعبثي، نتيجة الانحلال الأخلاقي والتخلي عن الدين، وعدم المبالاة بعقاب الله. في خضم هذا الزمن ارتأى " الطاهر وطار"، العودة إلى التاريخ الإسلامي، حيث كان القتل يأخذ طابعا دينيا أخلاقيا، وهذا ما قام به " خالد بن الوليد" عندما اجتهد في قتل " مالك بن نويرة" واعتبره " أبو بكر الصديق" مجتهدا وإن لم يصب، على عكس ما نعيشه في زمننا الحاضر، وهذا ما صرح به " الطاهر وطار " في الخليج الثقافي قائلا: " ويبدو لي أن القتل في التاريخ العربي يواجه بفتاوى مختلفة تنبع من تكييف المجتهد للحادثة واتكأت في هذه الرواية على هذا البعد التاريخي لأعرج على القتل في الزمن الراهن" .

ينتمي هذا العمل الروائي إلى تيار الواقعية، حيث أراد الكاتب استجلاء ما يحدث في الجزائر من أزمات مختلفة، وأهمها أزمة الإرهاب التي تمثلت في كثير من أعماله، وبشكل صريح في " العشق والموت في الزمن الحراشي" وبشكل أوضح في " الولي الطاهر يعود إلى مقامه الزكي ".

وتصور لنا الرواية مرحلة هامة من التاريخ الجزائري، يتوجب التوقف عندها باعتبارها من أصعب الفترات، وتمس جميع الفئات إذ يقول الكاتب: " إن محنة التقتيل أصابت مثقفين، وهجرت مثقفين، وحمى الله مثقفين آخرين ".

وهنا إشارة إلى لجوء بعض المثقفين إلى الهجرة هروبا من الواقع والأزمة، وبقاء آخرين ومنهم الروائي " الطاهر وطار"، ورهانهم على أسبقية الكلمة وأهميتها لأن الموت واحد يقول: " أنا أؤمن بأن الموت ساعة وعندما تحضر تلك الساعة تموت برصاصة أو بسكتة قلبية".

ونجد أن الرواية تنتحي منحى صوفي، يتوزع بشكل أخطوطي مهيمنا على الشبكة الروائية، بدء من عنوانها "الولي الطاهر يعود إلى مقامه الزكي " الذي نجده يرمي بنا إلى مجموعة من التفسيرات، ويوميء لنا بخلفيات فكرية تتعلق بالكاتب ذاته، حيث نجده في هذا العمل الروائي يعود إلى أصله وينطلق من موطنه في توظيفه للتراث الصوفي والشعبي، فكأنه كان يعيش غربة ثم اهتدى إلى طريقه دون أن يغير مبادئه التي طالما دافع عنها. ولكن لجديد هنا هو تلك النظرة الإسلامية التي طغت على عمله والتي تتجلى في نقده الأوضاع السياسية، والاجتماعية، والأخلاقية التي غاب فيها الدين وطغى الغزو الغربي، يقول الكاتب في مقدمته: " إن هذه الرواية، رغم ما فيها من تجريد ومن سريالية، هي عمل واقعي، يتناول حركة النهضة الإسلامية بكل تجاويفها وبكل اتجاهاتها، وأساليبها أيضا ".(3)

ويذهب " د.محمد عابد الجابري" إلى التأكيد على أن مفاهيم الخطاب العربي الحديث والمعاصر، لا تعكس لنا الواقع العربي الراهن، ولا تعبر عنه، بل هي مستعارة في الأغلب اما من الفكر الأوروبي، لترصد واقعا تحقق أو في طريق التحقيق، وإما من الفكر العربي الإسلامي الوسيطي حيث كان لها مضمون واقعي خاص، أو يعتقد أنها كانت كذلك بالفعل. ففي كلتا الحالتين هي توظيف من اجل التعبير عن واقع مأمول، غير محدد.(4)

وهذا ربما ما جعل " الطاهر وطار "، يختار لبطله أن يكون ذا منحى صوفي، حيث يصرح: " ان الفنان في، يقرأ التاريخ ومضة، بل " حالة " بالتعبير الصوفي، و لربما لهذا السبب كانت الشخصية الرئيسية في الرواية صوفية تعيش حالات تتجسد في حالة واحدة ".(5)

ونجد أن إعادة قراءة التاريخ من وجهة نظر المؤلف، هي في الحقيقة " إعادة تشكيل للحادثة التاريخية وفق ما يقتضيه الوضع الهش الذي يتمتع به المؤلف الذي يحاول ان يحصر التاريخ في المسافة الفاصلة بين هشاشة وضعه وهو يعايش الحادثة التاريخية او يستعيدها، وبين هشاشة وضعه وهو يعيد صياغة هذه الحادثة محاولا حصرها فيما يملك من اداة هي الوحيدة الكفيلة بتحقيق حلم بقائه في التاريخ، وهي اللغة "(6)

وتساعد اللغة المؤلف في صنع أبطال يراهم شبه حقيقيين، يعملون على تجسيد أفكارهم وإيصالها إلى القارئ، بكل ما تحمله من أحلام، ومتناقضات تجاه ذاته، وتجاه مجتمعه.

فاعادة صياغة الحادثة التاريخية من قبل المؤلف، تحمل اعتقاده بأنه هو الوحيد القادر على إعادة صياغتها بطريقة مناسبة، وصحيحة، تحمل وجهته الأدبية، وبهذا " كان دور الروائي هو تقديم توعكات الحادثة التاريخية بصورة ممتعة وفي قالب مقبول، أي بلبوس أدبي يحاول ان يغطي بأبآت التاريخ، وتشنجاته ومراراته" (7).

ويعطي هذا الروائي القدرة على تحويل الشعب إلى بطل واحد، وتحويل التاريخ بدوره إلى رواية واحدة.

2- الشخصيات:

تعد الشخصية لبنة أساسية في بناء الصرح الروائي، وتتعقد الشخصيات وتتشابك بثقل أدوارها داخل العمل الأدبي، وإذا ما عدنا إلى رواية " الولي الطاهر يعود إلى مقامه الزكي"، نجدها تتمحور حول شخصية رئيسية تكمن في البطل " الولي الطاهر" شخصية متعددة الحالات، تخترق الأزمنة، والأمكنة، دائمة الحركة، والسير برفقة " العضباء"، التي تواصل معه مسيرته غير منتهية " حيث يبقى المكان هو هو وكأنه سير أبدي، تجوب مئات السنين فلا تعثر على طريقك ويوم تعثر عليه تبدأ من النهاية "(8).

ويستمد هذا البطل من التراث (كرامات الأولياء): " لقد وهبتني لنصرة دينك، ووهبتني كرامتك فلا تنسى ما أقرأتنيه، ولا تجعل الوباء يصل إلى قلبي ولا إلى مخي"(9).

ونجد شخصية " الولي الطاهر " تعمل على استيعاب حركية الرواية بجميع متناقضاتها فمرة هو حامي الفيافي من الوباء الذي مس الناس" نعم أنا هنا صاحب المقام الزكي وسيد هذه الفيافي وحامي الأمة من الوباء"(10)، ومرة هو صانع هذا الوباء عندما تتهمه إحدى الفتيات بقولها : " تقتحم على الواحدة منا فراشها فتظل تأتيها إلى أن تصرخ، يا خافي الألطاف نجنا مما نخاف"(11).

ونتسائل مع استمرارية القراءة: من هو الولي الطاهر ومن يكون يا ترى ؟ ! وتتعدد الإجابة بتعدد القراءة ونجده أيضا محور لمجموعة من الأبطال منهم الطالبات والطلاب والمقدم... فكلهم يتبرك بالولي الطاهر، وبهذا يصبح موضوع تقديس: " اقتربت منه، انحنت على كتفه، ظلت تقبله، وتستنشق رائحة شعره لحظات ......"(12).

ويتمتع أيضا بالحكمة، حيث حاول أن يسيطر في مجموعة من المناورات، إضافة إلى محاولة كشفه عن المرأة المجهولة التي تترائ لكل الطالبات والطلبة في شكل نوراني" قف جانبا، وأطلب بصون آمر قاطع أن تتقدم منك أم متمم فمن تتأخر لا تستجيب للأمر، إيتني بها "(13).

وتكشف لنا هذه الشخصية نفسية الشاب الجزائري المتأوهة من واقعها المتناقض، فكل المريدات يبر أن " أم متمم " وتسترها على " مجاعة " وزواجها من " خالد "، والطلاب كذلك يبرأون " مالك بن نويرة" ويطلبون إقامة صلاة الغائب على هذا الشاعر الجفول، وفي هذه التصرفات هناك تبرير للخطيئة، فالولي الطاهر البطل في صراعه مع الهزائم، يتعرض لطلقة في جبينه وأخرى في قلبه، ولكنه يواصل. وهذا يتناص مع رؤيا الكاتب " الطاهر وطار " فهو استمر رغم ما اتهم به من أنه مجرد سارد للتاريخ، وبأن خطاباته تغلب عليها السطحية والتبشيرية، وتغيب عنها الروح الفنية الأدبية كذلك لحقه التهميش والإلغاء، عن طريق النقد، الذي يريد القضاء عليه ككاتب وهذا ما يستدل عليه بقوله في المقدمة: " كلمة لا بد منها "، فهو أراد قارئا نموذجيا، يفهم أفكاره، ويدرك أن " الطاهر وطار" صور لنا التاريخ بطريقة فنية، ونجح في رسم بطله الذي عبر لنا بوضوح هن رؤى الكاتب، وعرى لنا الواقع، وكشف لنا متناقضاته بصورة نقدية للعولمة، وللانحلال الخلقي، الذي تسرب لنا من خلال الأجهزة، فيجب أن نبحث عن أسس الحضارة، ونتخلص من وحل الحضارة القذر.

ينعزل " الطاهر وطار" عن المجتمع في الفيف، لمدة غير معلومة، ويقوم بالصلاة والذكر مع أنه لا يتذكر سوى سورة الفاتحة والأعلى، وتأتي إلى جانب شخصية البطل شخصية موازية وهي شخصية المرأة المجهولة أو الجنية، والتي تارة هي "أم متمم"، وأخرى هي " بلارة"، ثم تتجسد في " العضباء" ثم تتوالى شخصيات الطالبات التي تتماهى مع شخصية "أم متمم" أما الذكور فيصبح كل واحد هو " مالك بن نويرة " بل حتى " الولي الطاهر " يرون فيه شخص " مالك بن نويرة"، وتسافر هذه الشخصيات بين الماضي والحاضر، تنشد حقيقة غير مكتملة، وغير محددة المعالم.

وتختتم الرواية بذكر شخصية هامة وهي شخصية " عبد الله عيسى لحيلح" الذي يحاول تغيير الخطأ فيقع في المعاناة، وهو امتداد للمثقف، وأيضا للروائي " الطاهر وطار"، الذي يرى نفسه بطلا، ويراه الآخرون مشكلة، ومهما يكن لا يمكن التنصل من العالم الخارجي، يقول الروائي: " إنك إذا ما تواجدت في مسجد لست مجبرا على استعمال لغة دينية وفقط بل على الوعظ والإرشاد كذلك، وإذا ما تواجدت في اجتماع فرع نقابي فلا تستطيع أن تستعين بأبي نواس مثلا حتى تتجنب ذكر ماركس وليين وغيرهما"(14).

"فالولي الطاهر" آثر العزلة، وأراد أن ينتج من الشباب والشابات الناجين جيلا ونسلا جديدا، تحكمه قيم العقيدة الحقيقية، من خلال حماية مقامه من الوباء.

لقد جعل المؤلف من نصه شهادة واقعية، تدل على نقمته على هذا العصر وما تتبعه من تغيرات، فاختار أن يقف في مشهد نوراني إبداعي ينفتح على مشهد واقعي، عبر قراءة صوفية للواقع الجزائري، هي قراءة للحاضر بعيون الماضي، قراءة تقوم على لحظة مساءلة تاريخية لهذه الأرض/ المقام، فالذات التي تعاني وقع الموت وتشاهد أزمة الذبح، وتعايش الفجيعة تستحيل إلى كائن لا يعني ذاته ولا يعرف جوهره.

3- التناص:

لجا الكاتب إلى توظيف تقنية التناص على الرغم من وجودها في الرواية الكلاسيكية، إلا أن الدافع من التوظيف في الرواية الجديدة يكمن في كون التناص يقوم على أساس الغموض، فالرواية تعالج واقعا مدنسا، أصبح فيه الإنسان غريبا عن ذاته، وليستطيع الكاتب أن يعبر عن ضبابية الواقع وعبثيته، نجده يلجأ إلى التقوقع خلف قصص الماضي ويتوشح بأساطيره، فما هو غامض وغريب لا يعبر عنه سوى شيء غامض وغريب هو الأخر.

التناص الديني:

تتداخل لغة الرواية مع التراث الديني عنصرين هما: القرآن الكريم، والتراث الصوفي الإسلامي.

*القرآن الكريم:

يحتل تناص الرواية مع القرآن الكريم مرتبة كبرى، من خلال معالجة انشغالات فكرية ونفسية عميقة، بطريقة أدبية، إنه تناص ظاهر يخضع لعوامل الحفظ الذي نشأ عليه الأديب منذ الصغر، وهذا ما يبرره الحضور القوى لسورة الفاتحة والأعلى في أكثر من موضع، ويعود تكرار الفاتحة ربما لما فيها من حمد لله وطلب الهداية، وربما تركيزا بالذات حتى تكون الهداية للوالي الطاهر ولأهل مقامه بالدرجة الأولى، وأما سورة الأعلى فنجده يركز على آية معينة عند كل صلاة: ﴿ سيذكر من يخشى ويتجنبها الأشقى الذي يصلى النار الكبرى ثم لا يموت فيها ولا يحيا..﴾(15).

نتساءل عن سبب اختيار هذه الآيات بالذات ؟ هل يخاف أن يكون من الأشقياء فيواجه نفس المصير؟ أم يخشى أن يفقد ذاكرته مرة أخرى بعدما عادت إليه، فينمحي القرآن من صدره ؟ .

ويصر كذلك على الآية: ﴿ سنقرؤك فلا تنسى ﴾ فكأنه يدعو القارئ إلى أن لا ينسى المجازر التي حدثت في الجزائر، ويشير إلى ذلك المسكوت عنه في العالم العربي بصفة أعم.

ونجد أيضا النص القرآني: ﴿ ألم ترى أن إلى ربك كيف مذ الظل ولو شاء لجعله ساكنا ثم جعلنا الشمس عليه دليلا.....﴾(16)، وقد استحضر هذه الآية عندما غاب عنه المشرق والمغرب، فلم يعد يعرف اتجاه القبلة ويعكس حيرة الإنسان المسلم داخل أوطانه، فهو لم يعد يدرك أي نظام يتبع ؟ وهل نحن مسلمون أم لا؟ هل هذه هي الأخلاق التي دعا إليها الإسلام ؟

وهي الأسئلة التي جعلت " الولي الطاهر" يتيه في الفيافي باحثا عن حقيقة للواقع العربي الإسلامي فشبهه بالقبلة الضائعة، وتوصل إلى أن هذا الوطن يتبع أي نظام دون أن يعي الخلفيات والتبعيات، مهما كان الاتجاه، ويستحضر الآية: ﴿ أينما تولوا وجوهكم فثمة وجه الله ....﴾(17)، وهذا ما يفسره تعدد الأنظمة في الدول العربية.

ويصادق أيضا تحول انتماء الكاتب بحسب تحول الأنظمة، أما هو أي " الطاهر وطار" فهو ثابت حول رأيه، مثلما سكون الشمس في كبد السماء في الرواية.

أما في قول المؤلف: "قلت ومن أدراكم فيوم ربكم كألف سنة مما تعدون " إشارة تضمينية للآية الكريمة: ﴿ وإن يوم عند ربك كألف سنة مما تعدون....﴾(18).

كما يستحضر قصة تيه سيدنا موسى – عليه السلام- في الصحراء، من مصر إلى مدين هروبا من ظلم فرعون، يقول تعالى: ﴿ ربي إني لما أنزلت إلي من خير فقير...﴾(19)، وهي نفس الحالة التي عانى منها الولي الطاهر، لكنه لم يجد ضالته مثل سيدنا موسى – عليه السلام- بل بقي تائها.

وبعبقرية تامة استحضر "الولي الطاهر"، قصة أهل الكهف، تعبيرا عن غيبته في قوله: " لا يدري الولي الطاهر كم استغرقت هذه الغيبة، فقد تكون لحظة وقد تكون ساعة، كما قد تكون قرونا عديدة"(20).

وهذا تماشيا مع قوله تعالى: ﴿ بعثناهم ليتساءلوا بينهم، قال قائل منهم كم لبثتم، قالوا لبثنا يوما أو بعض يوم قالوا ربكم أعلم بما لبثتم ﴾(21).

وعندما ركب الولي الطاهر " العضباء " متوجها نحو المقام، استحضر دعاء سيدنا نوح – عليه السلام- لسفينته " باسم الله مجراها ومرساها "(22).

كما استحضر قصة سيدنا آدم وحواء، عندما أغوته بأكل التفاحة، وهو نفس ما فعلته " بلارة " عندما راحت تغوي الولي الطاهر وسالته مما يخاف: أهو خائف ممن اقتطاف فاكهة وهبها الولي، وهنا استحضر قصة آدم وحواء، وهو يبرئ آدم بقوله: " ربما فكر آدم هكذا، بدأته الغواية من هذا الجانب، فيه جانب تأثير حسرته وأسفه والاعتذار إلى وقت آخر"(23).

فالإنسان المتسرع لا يفيده الأسف، فلو حدث الحوار بين " عمر وأبو بكر " لما طالب أهل " مالك بن نويرة" بالثأر، ولو تحاورت السلطات مع المثقفين لما صعدوا إلى الجبال، ولو كان الدين أساسا لحضارتنا لما ضاعت منا.

ولعل من أجمل التناصات هيا تلك اللحظة التي ظهرت فيها تلاوة أمام الولي الطاهر شبه عارية بغية إغوائه وقالت له : " هيت لك "(24) .

وهي تناص مع الآية الكريمة : " وراودته التي هو في بيتها عن نفسه وغلقت الأبواب وقالت هيت لك، قال معاذ الله...."(25). فمثلما راودت زوجة العزيز ملك مصر سيدنا يوسف عليه السلام، راودت "بلارة" الولي الطاهر عن نفسه.

وفي الآية الكريمة: ﴿ يا أيها الذين آمنوا إذا ضربتم في سبيل الله فتبينوا ولا تقولوا لمن عليكم السلام لست مؤمنا﴾(26).

هنا تحريم لسفك دماء المسلمين، لكن في الرواية كلا الفريقين مسلمين، من يقتل من في الجزائر؟ هل يقتل المسلم أخاه المسلم؟ كما استحضر "الولي الطاهر" قصة تيه بني إسرائيل : " آه، بلارة إنني ألهث بحثا عنك في الفيف منذ رميتني من داخل المقام الزكي إلى تيه بني إسرائيل"(27)، وهي تتناص مع الآية القرآنية :﴿ قال إنها محرمة عليكم أربعين سنة تتيهون في الأرض﴾(28).

*التناص مع التصوف الإسلامي:

التصوف هو طريق إلى الذات الإلهية، وإلى الكمال والنور الهادي وهناك حضور مكثف للتصوف في الرواية نظرا لحالة "الولي الطاهر"، والمريدين في تصوير حالة اللا عقل التي بلي بها.

وجاءت الرواية حافلة بتلك الألفاظ، والشطحات الصوفية تقول "بلارة" : " أنزل من السماء فاتخذ موقعي"(29).

وهذا تضارب مع عادة الصوفيين الذين يصعدون إلى السماء بشطحاتهم الصوفية، أما " بلارة" في الرواية فهي تنزل إلى الأرض، وتريد إنجاب نسل جديد يعمر الأرض، ويحمل الدين الصحيح، ولهذا نرى أن الكاتب يفضل الحلول الواقعية، فتحقيق الأحلام ينطلق من أرض الواقع، وليس بالخيال المجنح.

ونجد الكاتب يستخدم لغة صوفية غامضة ذلك لأن الحقيقة لدى المتصوفة مرتبطة بجدلية الكشف والحجاب وأن الوصول إلى مرتبة الرؤيا يمر بالحجاب، كما هو الشأن عند "ابن عربي" الذي يرى أن الحجاب رحمة.

وقد طغت على الرواية مجموعة من الإشارات الصوفية والشطحات، أدت إلى تعدد المصطلحات الصوفية، منها: " الحلول" وهو اتحاد ذاتين في ذات واحدة، وهذا ما أرادته " بلارة " في قولها : "أريد أن أعيش معك حالة وأن تمنحني ولدا يكون كل الناس"(30).

ويوجد مصطلح " التوحد" الذي يعني اتحاد الخالق مع المخلوق، مع احتفاظ كل واحد باستقلاليته الذاتية فيبقى الخالق خالق والمخلوق مخلوقا، وذلك تجلى في توحد " الولي الطاهر" والمريدين في شخص " مالك بن نويرة"، وتوحد المريدات في شخص أم متمم " كل الإناث أم متمم وكل الذكور مالك بن نويرة، آنا كذلك في نظر الطالبات مالك بن نويرة......"(31).

ولعل ما يشدنا إلى هذه الرواية هو تكرر ذلك الدعاء " يا خافي الألطاف نجنا مما نخاف "، إنه توسل إلى القوة الإلهية الأبدية.

التناص مع التاريخ الإسلامي:

استعمل " الطاهر وطار" قصة تاريخية في الرواية، وهي قتل " مالك بن نويرة"، من طرف " خالد بن الوليد" وهو لم يستحضر الخطاب التاريخي كما هو، وإنما انطلق منه ليكتب روايته محاولا البحث عن جذور الأزمة الجزائرية بل العربية الإسلامية ككل.

فلماذا قتل "خالد بن الوليد" مالك بن نويرة ؟ هل لأنه مرتد فقط؟ أم قتله طمعا في زوجته ليلى التي أحبها خالد؟

فالقتل بقي مبررا تاريخيا، ونحن لا نجد تبرير القتل في الجزائر؟ لماذا نقتل بعضنا البعض؟ هل من أجل الحفاظ على الإسلام والمسلمين، مع أننا جميعا مسلمين؟، هكذا أعاد التاريخ نفسه، فكل حادثة تاريخية تستمر بشكل أو بآخر، وهكذا عادت حروب الردة وغزتنا ولكن بثوب جديد.

كما يوظف شخصية تاريخية وهي شخصية " بلارة بنت تميم" التي أوقفت الحرب القائمة بين " بني مالك الناصر" وابن عمه " تميم بن المعز" بقبولها الزواج من الملك الناصر، من أجل حقن الدماء، لكن المؤلف يوظف " بلارة" بشكل مغاير، فهي رمز للفتنة الأمازغية، ورمز لتخلي المرأة عن تقاليدها، واحتشامها فتستحيل إلى امرأة فاقدة للحياء ومثيلة لنساء هذا العصر، وبلارة تتحكم فيها قوى خارجية تريد أن تمرر بواسطتها مشروعها التغريبي الاستئصالي، وذلك بإنجاب نسل جديد متنصل من جذوره " إن الذين أرسلوني إليك يريدون ملأ هذا الفيف بنسل خاص"(32).

إنما تمثل العولمة، والمطامع الغريبة وتريد هدم الدين الإسلامي، ويستحضر كذلك لوصف الجهاد في العصر الحالي جهاد الخوارج يقول: " فجأة رفعت الراية البيضاء من هنا وهناك تطلب وقف القتال..... ظنها الولي خدعة"، وهنا إشارة إلى حادثة " صفين"، حيث رفعت المصاحف على أسنة السيوف، وكانت مجرد خدعة لإيقاف الإمام علي – رضي الله عنه- ونجم الصراع حول مسألة التحكيم وخرج البعض عن علي – رضي الله عنه- وكفروه لأنه رضي بالتحكيم ورؤوا أن التحكيم هو فقط لله، ومن هنا جاء الصراع حول السلطة، ليستلهمه " الطاهر وطار"، ويقيس عليه ذلك الصراع الذي دار في الجزائر حول السلطة، فحزب التحرير يرى بأنه الأحق لأنه حرر البلاد من الاستعمار، والإسلاميون يرون ضرورة تبني نظام إسلامي، ومن هنا نجم صراع تحول إلى تقتيل عشوائي أدخل الجزائر في عشرية دموية سوداء.

فأي دين يبيح قتل الأخ لأخيه ؟ !

إن استلهام الطاهر وطار للتاريخ الإسلامي، بطريقة فنية أعطى للرواية مقروئية واسعة، ساعدت على إيصال حقائق كانت في الظل مطموسة لسبب أو لآخر حيث أن أزمة الجزائر كأنما أعادت سرد تاريخ ظل محبوس بين دفات الكتب، ذلك أن الحاضر هو حصيلة حتمية ناتجة عن الماضي بجميع مخلفاته.

الهوامش:

1- مخلوف عامر: الرواية والتحولات في الجزائر، منشورات اتحاد الكتاب العرب، دمشق، 2000، ص88.

2- المرجع نفسه، ص 89.

3- الطاهر وطار: الولي الطاهر يعود إلى مقامه الزكي، منشورات التبيين، الجاحظية، الجزائر، 1999، ص 08

4- محمد عابد الجابري: الخطاب العربي المعاصر، مركز دراسات الوحدة العربية، بيروت – لبنان، ط6، 1999، ص 198.

5- : الرواية، ص 08

6- : عبد القادر رابحي: إيديولوجية الرواية والكسر التاريخي، ص 46، أعمال الملتقى الخامس للنقد الأدبي في الجزائر، المركز الجامعي، سعيدة، 15/16 أفريل 2008

7: المرجع نفسه: ص 47

8: الرواية: ص 92

9: الرواية: ص 63

10 : الرواية : ص 68

11 : الرواية : ص 71

12 : الرواية : ص 68

13الرواية : ص ص 82 -83

14: الرواية : ص 8

15 : سورة الأعلى: الأية من 9 إلى 12

16 : سورة الفرقان : الآية 45

17 : سورة البقرة: الآية 177

18 : سورة الحج: الآية 47

19 : سورة القصص ص

20 : الرواية : ص 13

21 : سورة الكهف: الآية 19

22 : سورة هود: الآية 41

23 : الرواية : ص 90

24 : الرواية : ص 89

25 : سورة يوسف: الآية 23

26 : سورة النساء: الآية 94

27 : الرواية : ص 118

28 : سورة المائدة: الآية 25

29 : الرواية : ص 91

30 : الرواية : ص 84

31 : الرواية : ص 77

32 : الرواية : ص 84

«الولي الطاهر يعود الى مقامه الزكي» نموذجا

نرجو أن تنتبه الكاتبة أنها تضع أقواسا مزدوجة حول الأسماء العربية بدون مبرر لغوي وهو أمر غير صحيح ولا داعي له. فالقارئ العربي ليس بحاجة لأقواس حول كلمة خالد بن الوليد ليعرف أنها اسم لشخص على سبيل المثال


أي رسالة أو تعليق؟

مراقبة استباقية

هذا المنتدى مراقب استباقياً: لن تظهر مشاركتك إلا بعد التصديق عليها من قبل أحد المدراء.

من أنت؟
مشاركتك

لإنشاء فقرات يكفي ترك سطور فارغة.

الأعلى