الجمعة ٣٠ تموز (يوليو) ٢٠١٠
بقلم أحمد كريم بلال

أمل دنقل الصوت الشعري المتميز

الشاعر المصري الكبير أمل دنقل، رحمه الله، صوت شعري شديد التميز؛ لأن له اتجاه دلالي وفكري متفرد، يعبر عنه من خلال بصمة شعرية شديدة الخصوصية لا تجعل شخصيته الشعرية مجرد اجترار من نسخ مكررة ومتداولة.

ولد الشاعر الكبير في قرية (القلعة) محافظة قنا بالصعيد المصري سنة1940م ، في أسرة مثقفة يعولها والد متعلم – في فترة يعد فيها المتعلمون على الأصابع خاصة في صعيد مصر وغيرها من القرى الريفية – حصل على الشهادة العالمية الأزهرية.

وكان هذا الوالد شاعرًا موهوبًا يمتلك مكتبة كبيرة أفاد منها الصبي أمل دنقل كثيرًا. وقد كان من قراءاته المبكرة: نهج البلاغة للإمام علي ، ومقامات بديع الزمان، وديوان الشريف الرضيّ، وأزهار الشر لبودلير من ترجمة إبراهيم ناجي، كما قرأ للشاعر الكبير محمود حسن إسماعيل (1) الذي حمل له إعجابًا كبيرًا يفوق الحد ، وكان إعجابه الطفولي بمحمود حسن إسماعيل يدفعه إلى قص صوره من الجرائد والمجلات والاحتفاظ بها(2).
وقد كان لهذه القراءات العميقة لفتى لم يتجاوز عمره الرابعة عشرة أثر عميق في تكوين شعريّة فذة في مرحلة باكرة. ويكفي أن نتأمل هذه الأبيات التي قالها في (عيد الأم) وهو في سن السابعة عشرة لنستدل على هذه الموهبة الشعرية الفذّة:

أريجٌ من الخلدِ ، عذبٌ عطِرْ

وصوتٌ من القلبِ فيه الظَفَرْ

وعيدٌ له يهتف الشاطــئان

وإكليله من عيـون الزَهَرْ

وألحانــهُ من نشيدِ الخلودِ

و قيثارهُ فيهِ رقّ الـوترْ (3)

وفيما يلي هذه الأبيات تتوالى أبيات أُخَر تتوسع في مفهوم الأمومة ، وتخرج بها عن إطار الأمومة الفعلية إلى أمومة الوطن. وهذا التصرّف في المعاني ، فضلاً عن القدرة على التصوير الشعري الذي يتجاوز بالدلالة حدود المُباشرة والنثرية ، إضافة إلى سلامة الوزن والقافية (على حداثة سن الشاعر الذي لم يتم العشرين)كل ذلك يشهد بموهبة ضخمة في طريقها إلى الظهور ، وقد كان.

رحل أمل دنقل إلى القاهرة سنة 1957م ليلتحق بكلية الآداب جامعة عين شمس ، وبعد ثلاثة أشهر تركها ليلتحق بدار العلوم جامعة القاهرة ، وهذه الأخيرة لم يطق البقاء بها أكثر من يوم واحد فقط (4).
لقد ترك أمل دنقل الدراسة تمامًا ، وعاش حياة حرة فيها شيء من الصعلكة « وربما كان اختياره لحياة التشرد والصعلكة استجابة لنوازعه الداخلية المتمردة على كل القيود» (5). وفي إطار هذه الحياة كن دائم البحث عن المعرفة ، كثير الاطلاع ، وكانت قراءاته بمثابة «بحث وكشف ، ولم تكن مجرد تراكم معلومات، ولكن ما تثيره هذه المعلومات، لقد كانت القراءة عملاً إبداعيًا بالنسبة له» (5).
ومع تواصل الإبداع حصل شاعرنا على جائزة المجلس الأعلى لرعاية الفنون والإبداع سنة 1962م مع أنه لم يتجاوز الثانية ولعشرين من عمره القصير(6).

وتوالى الكفاح الشعري ، والعمل على إيجاد البصمة الخاصة والأسلوب المميز الذي يمكننا القول بأنه قد عثر عليه بالفعل سنة 1966م ، وفي هذا العام توّج مشروعه الإبداعي باكتمال الرؤية ووضوح الهدف ، وكما يقول الدكتور عبد العزيز المقالح : «لقد حقق في عام واحد ما لم يحققه في إنتاجه الشعري خلال سبع سنوات ؛ فقد أصر على كتابة الشعر اللاذع ، واختار الطريق الصعب.. طريق إشعال الحرائق في وجدان الشعب المهزوم» (7).
أصدر الشاعر دواوينه : البكاء بين يدي زرقاء اليمامة 1969م ، مقتل القمر 1972م ، العهد الآتي 1975م ، أقوال جديدة عن حرب البسوس 1976م ، أحاديث في غرفة مغلقة1979م (8) ، وأخيرًا أوراق الغرفة ثمانية 1983م الذي أصدره أصدقاؤه بعد وفاته، وأغلب قصائده قد كُتبت في الغرفة رقم 8 بمعهد السرطان التي كان نزيلها يتلقى فيها العلاج في أخريات حياته.

وقد كان الشاعر الراحل يعتنق فكرًا يعبر عنه في كل أعماله ، وهو الإيمان بحرية الفرد ، ثم الإيمان بالقومية العربية. ومن ثم كان مناهضًا في كل ما كتبه للسلطة التي تحول دون تحقيق هذين المبدأين؛ ومن ثم يرى أن للشاعر دوران : «دور فني : أن يكون شاعرًا ، ودور وطني : أن يوظف شعره لخدمة قضايا أمته ، لا عن طريق الشعارات السياسية؛ وإنما عن طريق كشف تراث الأمة » (9).

وقد وجد الشاعر طريقه إلى الكشف عن تراث الأمة عن طريق استدعاء الشخصيات التراثية العربية في قصائده:(المتنبي، أبو نواس، عبد الرحمن بن عوف، خالد بن الوليد، زرقاء اليمامة، صلاح الدين، عبد الرحمن الداخل... إلخ)وقد صنع الشاعر من هذه الشخصيات أقنعة يحاول من خلالها التعبير عن أفكاره، أو جسورًا لإسقاطات أدبية يربط بها بين الماضي التراثي والحاضر الراهن وفقًا لمقتضيات كل موضوع فني وطبيعة الرؤية الشعرية التي تقتضيه. وهو أسلوب شعري وفني جديد لم يكن معهودًا بها الشكل في تراثنا العربي ، أو في النصف الأول من القرن العشرين. ولا يمكننا القول بأن أمل دنقل هو مبتدع هذا الأسلوب ، فهو سمة من سمات الحداثة الشعرية العربية؛ لكننا نزعم أن أمل دنقل هو الأكثر استخدامًا لهذا الأسلوب الشعري حتى غدا سمة فنية شديدة البروز يوسم بها شعره.

ويحسب لأمل دنقل اختياره لشخوص قصائده ورمزها من تراثنا العربي. وقد كان أول عهده يميل إلى استخدام رموز فنية من التراث العالمي مثل : (سبارتكوس)محرر العبيد ، أو من التراث الفرعوني مثل : (أخناتون ورمسيس وغيرهما ). لكنه تعرض لموقف جعله يتجه بشدة صوب هذا التراث العربي الصميم ؛ فقد عرض على الكاتب الكبير لويس عوض قصيدة : (الوقوف على قدم واحدة)التي وظّف فيها قصة الأخوين باتا الفرعونية. وكان الدكتور لويس من كبار الدعاة إلى الفرعونية ، ومع ذلك لم يفهم الدكتور لويس المعنى المقصود ، بل لم يفطن أساسًا إلى هذه القصة الفرعونية التي استخدمت خلفية إلا بعد أن استفسر من الشاعر عنها (10)!!
لقد تيقن شاعرنا – إذاك – أن التراث الفرعوني لا يحيا في وجدان الناس، وأن انتماء المصري الحقيقي هو انتماء عروبي إسلامي، وأن البطل الشعبي الحقيقي هو الحين وخالد بن الوليد لا أحمس وأوزوريس (11). ومن ثمّ واصل إبداعه في هذه الوجهة التي تتيح له تواصلاً كبيرًا مع جمهوره.

وبعد رحلة إبداعية قوامها نيف وعشرون عامًا توفي الشاعر الكبير في مايو 1983م ، تاركًا تراثًا أدبيًا صغيرًا إذا نظرنا إليه بمعيار كميّ؛ لكنه تراث ضخم ومهول إذا نظرنا إليه بمعيار الجودة والإتقان. وبوسعنا أن نقول – دون أي مبالغة – أن هذه الدواوين الخمسة التي تركها أمل دنقل قد حققت له قدرًا كبيرًا من الشهرة والذيوع، ووضعته في مكانة فنية وأدبية في غاية الرقي، مكانة وشهرة لم يصل إليها بعض الشعراء الذين أبدعوا عشرات الدواوين دون أن يحققوا لأنفسهم صوتًا مميزًا واتجاهًا أدبيًا وفكريًا متفرد.

الهوامش والتعليقات

  1. راجع: من أوراق الطفولة والصبا، د.سلام داود، مقال منشورة بمجلة إبداع (تصدر عن الهيئة العامة للكتاب بمصر)عدد أكتوبر 1983م ، ص : 8
  2. راجع : الجنوبي سيرة أمل دنقل ، عبلة الرويني، [دار سعاد الصباح ، الكويت، الطبعة الأولى 1992م] ص: 96
  3. نشرت هذه القصيدة بمجلة قنا الثانوية سنة 1957م ، وقد نقلنا هذه الأبيات عن مقالة : من أوراق الصبا ، د. سلام داود التي سبقت الإشارة إليها.
  4. هذه المعلومات مأخوذة عن حوار صحفي أجرته : اعتماد عبد العزيز مع الشاعر قبيل وفاته ، وقد نشر هذا الحوار في عدد أكتوبر 1983م من مجلة إبداع الذي سبق أن أشرنا إليه ، راجع ص: 115.
  5. الجنوبي... ، عبلة الرويني ، ص: 72
  6. راجع حوار الشاعر مع اعتماد عبد العزيز المنشور بمجلة إبداع العدد الذي سبقت الإشارة إليه ، ص: 115
  7. أمل دنقـل وأنشودة البسـاطة ، د. عبد العزيز المقالح ، مقالة نشرت في مجلة : إبداع (العدد سابق الذكر)ص : 24. وقد جُعلت هذه المقالة مقدمة لبعض الطبعات من أعماله الكاملة.
  8. ديوان : أحاديث في غرفة مغلقة غير موجود في جميع طبعات الأعمال الكاملة التي وقعت بين يدي.
  9. قضايا الشعر المعاصر ، جهاد فاضل [ دار الشروق ، عمَّان ، الطبعة الأولى 1984م ] ص: 358 ، وهذا الفصل المتعلق بأمل دنقل في كتاب جهاد فاضل هو في الأصل حوار صحفي أجراه مع الشاعر نُشر في مجلة الحوادث سنة1982م
  10. حول هذه الحادثة راجع كتاب : الجنوبي.. لعلبة الرويني ص : 72 ، وأيضًا كتاب : ذاكرة للشعر ، د : جابر عصفور [ الهيئة المصرية العامة للكتاب (القاهرة ، مصر) 2002م ] ص : 391 و 392.
  11. الجنوبي... ، عبلة الرويني ، ص: 72

أي رسالة أو تعليق؟

مراقبة استباقية

هذا المنتدى مراقب استباقياً: لن تظهر مشاركتك إلا بعد التصديق عليها من قبل أحد المدراء.

من أنت؟
مشاركتك

لإنشاء فقرات يكفي ترك سطور فارغة.

الأعلى