الأحد ١ آب (أغسطس) ٢٠١٠
بقلم عبد الجبار الحمدي

حب تحت المطر

تحركت مسرعة باولا نحو المدفئة حال دخولها شقتها، لترمي ببضع قطع خشبية فيها، فقد قرص البرد إطرافها وحال صكصكة أسنانها إلى عجزها ضم شفتيها، أوقدتها وسحبت ذلك الكرسي اليتيم الذي رافق وحدتها طيلة انتقالها إليها، ورثته كما هو في مكانه من سكن الشقة قبلها، دب الدفء في محيط منزلها الذي حوي اسكتشات لوجوه ترسمها في قارعة الطريق طلبا للرزق، روما.. تلك العاصمة الأزلية القديمة الحديثة، كل ما فيك أحبه، ترددها دوما بصوت عال حال خروجها الى شرفة شقتها المطلة على شوارع ونهر تفيري، وضعت أقلام تحملها مع أوراق برسومات لكثير من الأشياء خطتها أناملها بغفلة من وجوه، بعضها باسم، وبعضها حزين، وبعضها غير مبالي لا للحزن ولا للفرح، ثم أخرجت من بين كل رسوماتها صورة لوجهه ذلك الذي وقف ساعات طوال ينظر طيورا تتسارع في الصعود لترمي بنفسها فوق الماء لتصطاد سمكة وصلت سطح النهر، يمسك بيده كمان يعزف عليه، بعد أن تتجمع المارة والسياح فوق الجسر، لالتقاط صورا من بعيد للفاتيكان وهو ممتد على أفق الشارع الطويل، يعكس ترانيما بدقاته ساعات غفران لمصلين، والى جانب الجسر ذلك القصر الكبير الذي كان يقطنه في زمن ما البابا، إنه يعزف للطيور التي يحس أنها تتمايل صعودا ونزولا لنغمات تطايرت مع نسيم هب من شبابيك السماء، مستقبلة أمنيات العاشقين، رامية بعبير عبق الحب الذي تسرب إلى نفسها وهي ترسم، تهزها نغمات أوتار نزلت من سلمها الموسيقي لتحيي جمالها الذي أذاب أوتاره حين يعزف، كلاهما يحس بالآخر ولكن لم تتعارف سوى العيون، بعد أن رسمت صورته بقلبها قبل الورق، وعزفها هو لحنا في قلبه قبل الوتر، في نفس اليوم كانت سعيدة جدا فرحة فقد اقترب منها ساعة لملمة وريقاتها وبعض لوحات معروضة، لوجوه تاه أصحابها في حب روما، وبقت هي دليلا على شغفهم بذكرياتهِ، تشاو بيلا .. أيتها الفنانة إني ادعى ماركو فايلين، هكذا يطلقون علي لأنني اعزف عليه فسميت به لشدة تعلقي به، عذرا لتطفلي.. أحببت أن أقدم نفسي لك، فنحن جاران على نفس الجسر منذ فترة ليست بالقصيرة, ثم قال: هل لي بمعرفة أسمك؟ هربت حروف اسمها من بين شفاه مسرعة أنني أدعى باولا، باولا فقط ليس لي كنية يطلقونها علي كما اسمك، ابتسمت مع لمعان في عيون فرحة، سعيد جدا بمعرفتك أيتها الفنانة باولا .. باولا فقط، اسمحي لي بمساعدتك، واخذ يمد العون لها حاملاً عارضة اللوحات التي تحملها كعادتها، سار معها إلى نهاية الجسر، ودلفت وهو معها، لم يحسب للمسافة هما، بعد أن تلاعبت نسمات النهر الباردة بأفواه ساخنة، باعثة خيالات ضبابية ترسم ما يجيش في قلبيهما من أحاسيس لبعضهما، فجأة توقفتّ!! وقالت: شكرا لك لقد وصلت، عذرا!!! وصلتِ إلى أين؟ قالت: إلى شقتي إنني اسكن في الدور الثاني في هذا النزل القديم، عفواً لم أقصد الإساءة في حديثي عن وصولك، أخذت ما كان لها من بين يديه، والتي رعشت وأنفاس حضنت بعضها راسمة غصة من افتراق،

قالت: إذن أراك غدا سيد فايلين، ما أجملها من كنية حين تنطقيها عذوبة، أحمرت وجنتاها خجلا قبل شعورها ببرد الليل، قال: من الآن انتظر الغد بلهفة آنستي الدافئة.

جلست ليلتها تلك تحدث وتمني نفسها بأحلام جاشت منتظرة الحب، وهل يكون هو من تنتظره؟ لقد تركت أحاسيسها مركونة خلف تلك الرسوم، تبحث فيها عن وجه فارس أحلامها، رسمت المئات من الوجوه، الجميلة منها وغير الجميلة، الصغيرة منها والكبيرة، حتى رسمت لنفسها وجها أخذت تقاطيعه من كل الوجوه التي رسمتها فكان .. ماركو، هل هي صدفة؟ أو أن القدر قد استمع إلى دقات قلبها، ومللها من وحدة في برد قارص مع ليل طويل، ورميها قطعا نقدية في نافورة الأمنيات، أو من تجوال وترحال من جسر إلى آخر، ومن مكان إلى غيره، أو لعل السماء استمعت إلى دعائي وأرسلته، ليعزف لي ترانيم حب كما يعزفها هو، خرجت إلى الشرفة لتتلمس من نسمات البرد بقايا نغمات، سبحت في جوف الليل باحثة عنها، بعد أحست أنه يعزف لها وهو هناك في مكانه، وقالت بصوت عالٍ: أحب كل ما فيك رومااااا، والآن أحبك أكثر، لأن ماركو فيك أيضا، قالت أسمه بصوت خافت حين ذكرته، وابتسمت مودِعةً لدى نجوم سماء روما أمنيات معلقة، على شبابيك عبير الحب، عله يشعر بها حين تَفَتحها وعزفه للحب. كانت صلاتها باولا توسلا، ترجمتها دموع تساقطت وقطرات مطر شتائي، لم يسعفها الوقت الذي استغرقت بمناجاة السماء من لملمة عارضتها ورسومات مبتلة، امتدت أيدي لها بمساعدة مع عدم مبالاة منها، لم تشعر بمن حولها، تربيتةً على كتفها قال صاحبها: هيا أنهضي لقد أشتد المطر ولا أظنه سيأتي، رفعت رأسها ودموع تاهت مع قطرات مطر متسارعة، نعم ... نعم لم ترى محدثها، فقد ضاعت في خيالات بعيدة، لم تترك بقعتها على الجسر، داعبت أطراف أصابعها جفون حزينة، مسحتها تطلعت إلى مكان وقوفه، بالأمس كان هناك يعزف ماركو، عَبرةً وخيبة أمل سرت حرارتهما إلى جسدها، لارتعاش من ضياع أمل في حب بقي أخرسا إلا الأمس، فقد تكلم دون مقدمات، هي أحست به كما أنه أحس بها، ساعة وقوفه على الجسر عازفا بكمانه، لا لأحد .. بل لها وحدها كما قال بالأمس، طأطأت رأسها بعد أن بكت الغيوم لعدم استجابة دعائها، أعياها الانتظار حتى خارت قواها وأغمي عليها، تجمع حولها المارة، حملوها إلى حيث تسكن، مر وقت، هناك وبعد إحساس بدفيء دثار، فتحت عينيها لتنظر حولها، ولكن أين أنا؟!! صرخت في نفسها، ما هذا المكان إنها ليست شقتي؟!!! أزالت الغطاء عن نفسها، بحثت عن ملابسها المبتلة، متسائلة من قام بتغيير ملابسها، نادت على أصحاب المنزل، ولكن لا جواب، صاحت ألا يوجد أحد هنا، صمت يحمل صداً في فراغ، استغربت خافت بحثت فوجدت ملابسها قرب المدفئة، وبخفة ارتدتها متجهة بعجل ناحية الباب للخروج، تاركة كل متعلقاتها الأخرى، فتحت الباب وإذا به واقفا يحمل كمانهِ وبعضا من قطع الخبز وطعام، ذهلت!!؟ تراجعت إلى الخلف، هذا أنت!!! دخل وأغلق الباب خلفه عذرا عزيزتي لقد ذهبت لشراء طعاما وقنينة نبيذ حين كنت نائمة تعبة، لم أحب أن أوقظ ملاكي النائم، كانت واجمة وخفقان قلبها يتسارع وتلهث أنفاسها إلى وجهه تتسابق لثما بالقبل، وهو يتحدث إليها يقص عليها ما حدث له وسبب تأخره، أقترب منها أمسك يديها، وقال: اعذريني حبيبتي باولا، سأكمل لك القصة ونحن على العشاء، وضمها إليه بقوة وأطفأ ناره ونارها بقبلة أذابت كل لحظات الانتظار تحت المطر.


أي رسالة أو تعليق؟

مراقبة استباقية

هذا المنتدى مراقب استباقياً: لن تظهر مشاركتك إلا بعد التصديق عليها من قبل أحد المدراء.

من أنت؟
مشاركتك

لإنشاء فقرات يكفي ترك سطور فارغة.

الأعلى