السبت ٢٨ آب (أغسطس) ٢٠١٠
بقلم عبد الجبار الحمدي

حب لا يعرف اليأس

إنك تستحق الحياة، ولكن هل أنت جدير بالتمسك بها بعد أن تدولبت أيامك في طواحين صدئة، ومُزقت قِرَب العزف الجنائزي، هل يمكنك أن تعيد صياغة حياتك بمفردات وجيزة، وتقسم متاهات الضياع بحصص متساوية على سنين عمرك، هل تستطيع أن تتعامل مع الواقع وركنك المتهرئ ذاك، وأمامك النافذة التي قبعت بقربها بين ضباب سجائرك، ممسكا قلما هتف صارخا أين الحقيقة من الوهم، جلس بالقرب منه فريدريك بعد شتمه، وكال له من الجمل التي شمعت أُذنيه، لم يستطيع توماس أن يجيب صديق طفولته ،والذي واكب رحلة معاناته وحبه الملعون، هكذا يطلق عليه حين يرى فريدريك توماس يئن ساهرا، يداعب قلمه أجساداً ورقية، ليترك فيها لمسات عشق يشعر بها ويكنها الى تانيا، سحب فريدريك ذلك الكرسي ووضعه قبالة توماس المطحون جَوَاً، بتقاطيع ما أنفك يلثمها بنبضات قلبه ساعة يراها تخرج من منزلها، وقال له : ما العمل الآن؟ ألم يحن الوقت لتفاتحها بحبك، أوليس من الأجدر أن تبوح لها بذلك؟ حتى ولو من خلال تلك الأشعار والرسائل، التي رسمت قلبك فيها يتيماً يبحث عن فؤاد أم يرنو إليها لهِفًا في ساعة ضياع، أرجوك يا صديقي أعطني الفرصة لكي أتدخل في الأمر، وأشرح لها من هو عاشق تانيا كما أسميت نفسك، كان توماس لا يرد ولم يكن في عالم اليقظة التي يعيشها فريدريك، فقد سبح بين رموش تانيا وشفاهها حين رآها تأخذ الرسائل من صندوق البريد، وهي تبحث عن رسالته، وحين أمسكتها ضمتها الى صدرها، واتجهت مسرعة نحو المنزل، تسارعت تنهدات أطلقها بزفير أطار ضباب دخان السيجارة، وألتفت إلى فريدريك قائلاً: أرجوك يا صديقي دعني أعيش حلمي هذا بسلام، فأنا سعيد بما أراه منها، وشغفي لذة أشعر بها حين تضم إلى صدرها مفردات عزفتها بأوتار سقمي ولهفتي لها، يكفيني ذلك منها، قال فريدريك: والى متى تظنها تبقى تقرأ رسائلك المعنونة من مجهول؟ وهل من حقك جعلها تعيش حلما أدخلت فيه نفسك عنوةً متسليا بعذاب أنوثتها ولهفتها لمعرفة عاشقها هذا؟ إنك يا توماس تنسج لها شباك ذات أسلاك شائكة، تمزق براءة صغار الحب المرهف، وعذوبة نطقه الحروف الأولى، كيف تكون بهذه القسوة!! تطلع توماس له وقال : لم أحلم يوما أن أكون كما ذكرت، فقد عشت سنواتي الخربة هذه ممسكا عواطفي وحبي بعيدا عنها، حتى قررت ترجمتها بسطور لم أظن أنها ستهيم بشعري وكتاباتي، ولم أكن أعلم حتى أخبرتني أنت، بعد أن قالت لك عن مكنون صدرها والحب الذي لا تعرفه، كما أنني أخاف الرفض من جانبها، حين تعلم أنني العاشق الولهان، فيكون ذلك كإنزال المقصلة على أملي في الحياة وسر تمسكي بها فأموت! بيد من أحيت أيامي بحبها دون أن تعلم، لا.. لا .. لا أعتقد الوقت قد حان لكي أفاتحها بحبي، لا أريد أن يتحطم الممر الوحيد المضيء في دهاليز حياتي المظلمة، فقد نسيني القدر بإحدى خاناته المنزلقة نحو الهاوية، ومُلئت كل تجاويف الأمل بغبار اليأس السرمدي، ولكن تانيا أحيت رفاتً كادت أيدي الموت ان تلتحفها، فاستيقظت من جديد، على ابتسامات وشغف حب وترانيم وجدانية، أحسست بها عبر لمعان نور عينيها حين تأخذ الرسائل من صندوقها البريدي، سحب فريدريك الكرسي من تحته ورماه بعيدا، فليكن ما تريد هذا شأنك، وأعلم أنه ليس لديك الحق في تقييد مشاعرها واللعب بأحاسيسها، سأترك لك الخيار وأمهلك بعضا من الوقت لتفكر بمصارحتها، وبعدها سأخبرها أنا بذلك.

كان الحديث قد دار قبل ان يصفق الباب خارجا من منزل توماس، بعد أن خيم الصمت على توماس، وأخذت يده تبحث عن علبة السجائر التي وضعها في أحد جيوبه، شفاه ترتجف من برودة موقف صديق عمره، هل يقوم بفضح السر الذي ائتمنته عليه طوال هذه الفترة؟ ويدمر حلمي في البقاء، أخرج السيجارة فراها معوجة فقال في نفسه، هل أصبحت كالسيجارة حبيسا في منزلي هذا معوجا، أشعلها سبح الدخان منها متطايرا يتموج كأفكاره التي تاهت رفات تبغ يحترق، معلنة ان حرقها لا يولد سوى ذكرى، ما أن تلامس الهواء حتى تتناثر في سماء النسيان الواسعة، ضرب بيده على إحدى رجليه دون ان يشعر بألم، لقد دفنت حروف ومعاني تلك الكلمة حين فارقته الطموحات بالحياة، واستعدها من خلال نافذتي وتحركات تانيا، إنها إكسيري في البقاء حياً، راودته كلمات فريدريك وشجون نفس، وهمس.. إنه على حق في كل ما قاله، ولكن كيف الخلاص؟ كيف لي أن أفسر لها كل هذا؟ ونظر حوله ونفسه هل يمكن أن تتقبلني وتحبني كما أحبت أشعاري ورسائلي؟ هل يبتسم لي القدر بعد أن طعنني غدرا في مفترق الطرق؟؟ هل ..وهل؟؟؟؟؟ تسابقت كل الأسئلة جريا لتخط إجابة لتساؤلات في عتم نفسه السحيق، رفع سماعة الهاتف دق، مرة .. اثنتان .. وثلاث .. حتى عاد اليأس مرتدا من خلال أسلاك الهاتف صفقاً بوجهه، قال: أرجوك فريدريك ارفع سماعة الهاتف، لكن فريدريك لم يكن في ذلك الوقت من الليل المتأخر بمنزله، شعر توماس أن الوقت متأخرا حقا وربما كان نائماً، لا قالت له خلايا هوس ليلي، أنت تعلم انه لا ينام في هذا الوقت الذي كان يقضيه معك، إذن ما العمل؟ هل حدث مكروه له؟! هل تركني وحيداً؟ هل غضب لسماجتي؟ يا لحظي التعس حتى فريدريك صديقي الوحيد خسرته ماذا أفعل؟

فجأة رن هاتفه، جفل لوهلة مد يده لرفع سماعة الهاتف وإذا بصوت فريدريك يقول: أرجوك توماس تعال بسرعة، ثم أغلق الهاتف، شعر بضيق، لا يدري كيف يتصرف لام نفسه على ما حدث، لعل فريدريك واجه حادث ما! أو ألم به شيء؟ إنني السبب، غَضِب .. صب جماً من اللعنات تلقتها نفسه ضربا بسياط لسان، فتح باب المنزل، ولأول مرة منذ زمن بعيد خرج مندفعاً إلى منزل فريدريك، تعثر ..لكنه لم يكن يكترث، سار يدفع برجليه معاقبا إياها على عدم إسراعها، توقف مذهولاً!!! أمام ما شاهده .. فريدريك وتانيا أمامه ينظران إليه، هربت نفسه نحو باطنها، شعر بتكسرها وهي تتساقط في فراغ، قال فريدريك: ملتفةً الى تانيا هذا هو عاشق تانيا الذي حدثتك عنه، اقتربت منه .. ارتد مبتعدا، أمسكت به وقالت: لم اكن أعلم أنك تحمل هذا اليأس رغم فيض بحرك بالحب، إن مشاعرك هي التي أبقتني وبها تجاوزت محنتي واستعدت الأمل في الحياة، أنت السبب كلماتك شعرك حبك هو من أعاد الحياة لي، إنني أحببتك دون أن أراك رغم انك قريب مني ونفسي، ولولا فريدريك ما عرفت بأمرك، نظر الى فريدريك بعيون رمقته الاعتذار واللوم في آن واحد، خرجت الكلمات وهو ينظر إلى عينيها، ولكني ... لا يهم أنك تحمل من المشاعر ما يجعلك تجتاز عجزك وخوفك هذا، فسأحيا بك وستحيا بي ... وأمسكت مقابض كرسيه لتدفع به وهو يمسك بيد فريدريك بقوة


أي رسالة أو تعليق؟

مراقبة استباقية

هذا المنتدى مراقب استباقياً: لن تظهر مشاركتك إلا بعد التصديق عليها من قبل أحد المدراء.

من أنت؟
مشاركتك

لإنشاء فقرات يكفي ترك سطور فارغة.

الأعلى