الخميس ١ أيلول (سبتمبر) ٢٠٠٥
بقلم أحمد الخميسي

أقلام وأوراق

ارتبطت بدايات الصحافة المصرية بعام 1813 مع صدور " الجورنال " بأمر من محمد علي باشا لحاجته وقتها إلي مجرد تقرير منتظم يصله عن نشاط الدواوين الحكومية التي أنشأها . وكان " الجورنال " أول صحيفة مصرية سرعان ما كبرت وتحولت عام 1828 إلي جريدة " الوقائع " التي استهدفت مجرد التعريف بأخبار الحكومة وبناء الجسور وترقيات الضباط وما شابه . وحتى ذلك التاريخ كانت الصحافة مجرد نشرة حكومية تقتدي بما فعلته الحملة الفرنسية حين أصدرت جريدتين لجنودها ، لكن نشرة " الوقائع " كانت حبلى بجنين الصحافة حتى عام 1841 عندما تم بإشراف من رفاعة الطهطاوي وضع وتنفيذ خطة جديدة لإصدار الوقائع بإضافة أنباء العالم الخارجي ومقطوعات أدبية ، فقفزت الوقائع بذلك إلي القيام بدور إعلامي . ولم يكن ذلك الدور الجديد يعني أن الصحافة قد نضجت لتصبح! صحافة " رأي وموقف " . وفقط عام 1877 وعلى ألسنة نيران الحرب الروسية التركية التي غذت الأزمة الوطنية بعامل خارجي مؤثر عرفت الصحافة المصرية طريقها إلي " الرأي والموقف " منتقلة من الأخبار الحكومية مع طائفة من الأخبار العامة إلي صحافة تثير الرأي العام وتؤلبه على النظام . وخاضت الصحف للمرة الأولي بعد 65 عاما من نشأتها في النقد السياسي الصريح ، فانتقلت من مرحلة التأسيس ثم الدور الإعلامي المحايد إلي صحافة رأي وموقف وطني . وولدت منذ ذلك الحين صحف لا حصر لها على هذا الدرب ، تظهر ، وتقول كلمتها في وجه الدولة ، وتغلق ، وينفي أصحابها ، وكانت القضية الأولي لكل تلك الصحف هي الدعوة للحرية ، ومواجهة الطغيان والجود الأجنبي ، والاستغلال . وعلى الجانب الآخر ظهرت صحف أخرى لا تعاني من أزمات في التمويل ، ولا تغلق ، ولا تصادر ، لأنها كانت تحني رقاب الكلمات للسلطة ، كصحيفة المقطم التي قامت على أموال اللورد كرومر . وخرجت صحف من نو! ع ثالث كصحيفة المؤيـد كان : " نصفها للأمير ونصفها للجماهير " كما شاع عنها حينذاك . وللمرة الأولى في تاريخ الصحافة المصرية تصف إحدى الجرائد الخديوي إسماعيل بأقذع الألفاظ فتقول إنه : " أنفق مائة ألف جنيه من دم الفلاح وأنه بمثل هذه التصرفات السيئة يفضي بالبلاد إلي الهاوية " فتأمر الحكومة بإغلاق الجريدة . وتنقب جريدة أخرى هي " مرآة الشرق " لمحررها إبراهيم اللقاني عن أسباب الفساد الذي تفشى في مصر وتكتب صراحة أن السبب هو الحكام الذين : " لا يعرفون شرعا ، ولا يرضون قانونا ، بل تعدوا الحدود وانتهكوا المحارم ، وحاربوا العدل ، فطغوا وبغوا ، ونهبوا وسلبوا ، وفتكوا وهتكوا وأفراد الرعية على مرأى منهم حفاة عراة يتضورون جوعا " . وينشر أديب اسحق مقالاته النارية في جريدة مصر التي أنشأها فأغلقت بعد ثلاثة أعداد ويكتب مهاجما الاستبداد وغياب الحريات قائلا بأعلى صوت: " لا ريب في أن امتياز بعض الناس عن بعض الناس في وطن واحد يلحق بذلك الوطن الضرر العظيم حسا ومعنى .. وقد ح! ان لهذه البلاد أن تنتعش من عثرتها " . ولم تحتمل الحكومة جرائد أديب اسحق لأنها جرائد موقف ورأي فأغلقتها ، ثم نفته إلي باريس عقابا له على شعوره الوطني فأصدر من هناك صحيفة " مصر القاهرة " وكتب فيها يقول : " سأكشف حقائق الأمور .. وأوضح معايب اللصوص الذين نسميهم اصطلاحا أولي الأمر، ومثالب الخونة الذين ندعوهم وهما أمناء الأمة .. وقصدي أن أثير بقية الحمية ، وأرفع الغشاوة عن أعين الساذجين ، ليعلم قومي أن لهم حقا مسلوبا فيلتمسوه ، ومالا منهوبا فيطلبوه وليستصغروا الأنفس والنفائس من أجل حقوقهم "

وعام 1979 كتب أديب اسحاق يقول: "واعجباه ! انا أمة عظيمة ولا قوة لنا ، وأرضنا خصبة ولا نجد القوت ، نشتغل ولا نجني ثمرة الاجتهاد ، ونؤدي الضرائب الباهظة فلا تعد كافية .. ونحن في سلم خارجي وحرب داخلية ، فمن هو ذلك العدو الخفي الذي يسلب أموالنا ويفسد أحوالنا؟". ثم كتب يعقوب صنوع عن الخديوي إسماعيل: "إنه فاجر يقتات بالكبائر ويتفكه بالصغائر " ، وكتب عندما صدر قانون المطبوعات : " اكسروا أقلامنا وسدوا أفواهنا ، فسوف نكسر أنف أظلم حكامنا " !

وعندما قرر السلطان عبد الحميد الثاني عزل إسماعيل باشا وتعيين توفيق كانت نذر الثورة العرابية تتجمع في سماء مصر، ومعها احتشدت صحافة الموقف وأمانيها التي أطلقتها الثورة وخاصة الجرائد التي أصدرها عبد الله النديم ومنها " التبكيت والتنكيت " التي ظهرت في يونيه 1881 ، ثم " الطائف " ، وجريدة " الأستاذ " ، وفيها كلها حمل النديم على طغيان الحكام ، ووصف حالة البؤس التي وصل إليها الفلاحون ، والفساد ، والظلم . وقد مرض عبد الله النديم ذات يوم ، فلم يستطع تحرير عدد من جريدته الطائف ، لكنه أتم مقالا هاجم فيه إسماعيل قائلا : " أعتذر عن تحرير باقي الجريدة ، إلا ما كان خاصا بإسماعيل باشا فإني أكلف نفسي بكتابته .. لأن نشره علاج لي ! " . وظهرت أيضا صحف يعقوب صنوع الساخرة فلاحقته السلطة دون هوادة . ولقد تبدل الحكام ، وتغيرت العصور ، ولم يبق للتاريخ سوى الأقلام والأوراق التي تعتز بالحقيقة وحدها.


أي رسالة أو تعليق؟

مراقبة استباقية

هذا المنتدى مراقب استباقياً: لن تظهر مشاركتك إلا بعد التصديق عليها من قبل أحد المدراء.

من أنت؟
مشاركتك

لإنشاء فقرات يكفي ترك سطور فارغة.

الأعلى