السبت ١٨ أيلول (سبتمبر) ٢٠١٠
بقلم لمى نور الدين محمد

كارما الكراهية

«العين بالعين تجعل كل العالم أعمى.»

غاندي

لقد تغير مفهوم القضيّة، تغيرت المفاهيم التي نثور من أجلها، و نحاول تغييرها.. لم يعد استلاب الأرض قضية، لم يعد قتل الأطفال قضية، لم يبق من جميع الأديان إلا فتاوى تحريضيّة.

المقدسات لا تحرق و لا تمس، و إذا ما آمنت فعلا بحرف فإنك لن تثور إن أحرقته الدنيا كلها، الأجدر بك أن تفتح عينيك المغمضتين على حرق مقدسك من قبلك و من قبل من يؤمن به، فالحرق بمعناه الحرفي لا يسيء بمقدار واحد في المليون مما قد يسيء حرق المعنى، و إهمال الفكرة.

ستحاكم الإنسانية كل من يُسهم في تشكيل (كارما الكراهية) سواء بحرب أو حتى بكلمة...

 ترسمين على الجدار ياغبية، هذا بيت و ليست خيمة...
قبضت سنواتي الثمانية على قطعة (الطباشير) الأبيض بحزم، انتظرته حتى رحل ثم تابعت الرسم.. لم يكن تمردي الطفل سوى تحقيق لرغبة حزينة لطفلة هرمة فتحت عينيها على أمها التعسة في خيمة لاجئة.

 و في المخيمات كنّا ننتظر (بابا نويل) المعونات، و كان حجمي الهزيل لا يسمح لي حتى بتخيل طريق صغير يعترض زحام الجائعين، لذلك كنت أذهب وقتها إلى الخيمة التي ندرس فيها أنقّب عن قطع الطباشير النادرة، التي تقرض بين أصابعي الصغيرة فئران الملل، عندما أجدها أركض إلى أمي بالغنيمة، و أحاول إسعادها بكنزي الصغير، لكنها قلما كانت تلتفت لي، كانت همومها أكبر من أية مشاعر قد تهتز فيها تجاهي، و نادرا ما كنت أسمع صوتها.

عندما ضمتنا جدران (الأردن) لم نكن كالبقية، اختلافنا جعل من الرسم على الحائط جريمة مدويّة.. و مع الأيام كرهت الطباشير، و كرهت الرسم.

كنا بلا وطن، و كانت مشاعرنا أرخص من أن تُحترم.. أذكر يومها كنت طفلة، و كانت هناك (فلسطين) ..اليوم و أنا شابة كهلة ليس هناك حتّى(غزة)...

ليس "القرآن" فقط ..لقد أحرقوا جميع كتب الأديان، و كل شرائع حقوق الإنسان في مجزرة قافلة الحريّة.. و قابل العرب و المسلمون سياسة الحرق بالصمت.

انتظرت أن أقتل حلمي الكبير بوطن صغير .. لأكتشف بعد سنين أن حلم الوطن يكبر و يهرم، قد لا يستطيع النهوض، لكنه لا يموت.

 حلمي كان مختلفا، فاسمي الذي يعلن بوضوح عن قوميّة( كرديّة )كان كفيلا بتنكيل يقض مضجعي، و يجعل حلمي الأوحد أن أغيّر اسمي.. كانت تلك الرغبة الطفولية في أن أكون كباقي الأطفال مشتعلة في عراق جمره نائم تحت الرماد، لم تقدر حاستي السادسة على التنبؤ بيوم تصبح فيه جميع الأسماء الدالة على القومية أو المذهب لعنة على رؤوس أصحابها.

كراهية مبهمة تحرضت في قلبي الطفل، و كبرت معي و أبعدتني عن أرض طفولتي.

في العراق كنّا كما اليوم بلا وطن، كانت مشاعرنا أرخص من أن تُحترم، و كنا أقل من الجميع.. عندما هاجرت إلى (السويد) قابلت الحياة لأول مرة، و لا أعتقد أيا من أطفالي يحلم بتغيير اسمه..

إن حرق صفحات" القرآن "بيد متعصب أخرق حدث لا يجب أن يشكل تهديدا وجوديا، و قضية تُعمي عن قضايا مصيريّة .. كما أن مذابح القتل المذهبي في العراق (مثلا) و التي هي تهديد وجودي خطير، و أذية قاتلة للمشاعر الإنسانية.. لا يجب أن تدخل في سياق القدر.

 أنا حلمت بكعكة، و كأس من العصير..لا تسخروا من حلمي الصغير الذي لازم طفولتي الفقيرة الجائعة، كنت أشم رائحة الجبنة و الخيار تفوح من أرغفة التلاميذ في فسحة المدرسة، بينما يحتوي رغيفي على (ماء و ملح) ..هل تتوقعون مني حلما أفضل من كعكة!

نحن الفقراء في كل الأمكنة و الأزمنة مشاعرنا أرخص من أن تُحترم، و نظرة المجتمع الدونيّة إلينا تُنسينا أننا شرفاء.

هنا في (أمريكا) أحسست كوني مواطنا، أشبه الجميع .. تتوقف السيارات مهما كان نوعها حتى أقطع الشارع، و لا أحد يهتم عملت طباخا أم زبالا.

بالمناسبة أنا طباخ محترم هنا و معي (بطاقة خضراء)...

بالطبع لقد آذت مشاعري فكرة حرق" القرآن"..لكنني و(بحكم الاحترام الذي ألقاه هنا)تعلمت أن رد الإساءة بالإساءة فعل أخرق.

 أنا حلمت بأن أكون طبيبا، و أن أحصل على جميع الإمكانيات العلميّة التي لا تتوفر في بلادي المنهوبة..حلمت ببلد لا أهمية فيه لكوني من الأقليات الطائفية، بمجتمع لا يتدخل بمعتقداتي الدينية.

بالطبع أنا أعرف أن أمريكا ليست الجنة، و أن لها سلبياتها و مجاهلها، لكن بغض النظر عن سياساتها الخارجية فالتقدم العلمي فيها يغري طموحي الشاب.
يقولون الإصرار على الحلم يحققه..هذه حقيقة، أنا اليوم هنا، و مما حدث هنا:

 هل سمعت : وقع خلاف بين الدكتور"سعيد" و الدكتور "عزت" ...

 (ليش)..ضروري الفضايح في المستشفى ( مو حلوة قدام الدكاترة الأمريكان)..

 أنا توقعت حدوث ذلك ...

 كيف.

 عندما كانا في المسجد يصليان لم يلامس كتف أحدهما كتف الآخر ..فدخل الشيطان بينهما.

 هل تمزح؟! أنت طبيب تفكر بهذه الطريقة!

 استغفر ربك يا حكيم، و تعوّذ من الشيطان ..تعوّذ..إن شاء الله نصلي جميعا في مسجد "بيت قرطبة" ...

لا يتعارض التقديس مع العقل، و إن تعارض معه فالمقدس مطرود حتما من دائرة المصداقيّة، لا أعتقد أنه يوجد من يسيء إلى الإسلام أكثر من غالبية المسلمين أنفسهم، و إن إصرار العديد منهم على بناء " بيت قرطبة" في مكان أحداث الحادي عشر من أيلول كنوع من التحدي لفكرة ربط الإسلام بالإرهاب هو( للأسف) ترسيخ لهذه الفكرة.

فالأرض هناك لمواطنيها الذين يحق لهم الرفض أو القبول، و مهما كان سبب رفضهم لا يجب على المسلمين سوى احترامه و ذلك إن كانوا معنيين فعلا بتحسين صورة دينهم عند الغرب عموما.

إن فرض مكان محدّد لبناء مسجد هو قضية توقظ الإعلام العربي المسبوت، لكن الطائفية التي تنمو و تكبر بطريقة (الهس هس) موضوع لا يُطرح للجدل و لا يُعرّى للتنوير!

الذين مرّوا من هنا وضعوا أحلاماً، و بصموا بأفكار.. هم أشخاص حقيقيون، اتفاقنا أو اختلافنا معهم لا يعني مطلقاً نهاية الجدل...

إن(كارما الكراهيّة) التي تشكل طبقة غلاف جوي جديدة تحيط بالكرة الأرضية، لا تزال إلى هذه اللحظة ممتلئة بالثقوب، و إلى هذه اللحظة يمكن تمزيقها من خلال ثقوبها.


أي رسالة أو تعليق؟

مراقبة استباقية

هذا المنتدى مراقب استباقياً: لن تظهر مشاركتك إلا بعد التصديق عليها من قبل أحد المدراء.

من أنت؟
مشاركتك

لإنشاء فقرات يكفي ترك سطور فارغة.

الأعلى