الخميس ١ أيلول (سبتمبر) ٢٠٠٥
بقلم صادق الأديب الموسوى

الثقافة العربية في مرآة الآخر ..

لعله من المؤسف حقاً أن الإنسان هو النوع الوحيد من الأحياء الذي يمارس البعض من أفراده تحطيم من يريد أن يبدع .. ومن الأسباب الأساسية لذلك من وجهة نظر بعض علماء النفس والتربية والاجتماع عدم وجود فرصة حقيقية في عالمنا المعاصر لإشباع غريزة العدوان والتنفيس عنها، بل وإنكار الاعتراف بها.

وقد كان لهذه الغريزة دور تاريخي هام في الإبقاء على هذا النوع من البشر .. ولهذا فهي غريزة خطيرة فما الحل إذن ياترى؟ الحل ينبع من حقيقة اصطفاء الخالق القديم سبحانه وتعالى للإنسان من بين مخلوقاته ونفخه فيه من روحه، الأمر الذي يجعل كل فرد من أفراده نوعاً مفطوراً على الإبداع.

إن العمل المبدع هو الابتكار والتجديد والتطوير نحو الأفضل والأقوم والأرقى لما فيه خير البشرية وبما أنه ليس كل قديم سيئاً فإنه بالمقابل ليس كل جديد حسناً.

إن الإبداع ربما يتم على حساب الآخرين لأنه يهزهم ويهدد استقرارهم وسكينتهم وربما يلاقي المبدع الرفض والنبذ والاضطهاد من جراء مخالفته لما ألفه الناس، ولكن عليه أن يقاوم ويستمر ويستخدم في ذلك كل طاقاته.

وليست فرص الإبداع محدودة وتنوعها يستوعب إرضاء الجميع، بالذات إذا لم نحصر كلمة الإبداع على فن بذاته ونظرنا إليه بنظرة واسعة التي تتراوح بين التلقي النقدي المبدع الذي يعيد صياغة موضوع التلقي في كل مجالات الحياة وبين السعي إلى التغيير الإبداعي المشتمل على مغامرة طرق باب المجهول للإبداع العلمي أو الأدبي أو الفني، وكذلك التغيير الاقتصادي والاجتماعي والسياسي.

إن حرمان الإنسان العادي من ممارسة الإبداع هي مصيبة حقيقية لأن ذلك يفتح الباب أمام التبلد الذهني والذي يصيب الإنسان من جراء عدم إطلاق طاقاته الإبداعية..

ولعله من فضل الخالق عز وجل على البشرية أن أبقى الفن مجالا ومناراً هائلاً عبر العصور بوصفه النموذج المعرفي الحي الذي ينوع ويشكل بالتعدد والتناقض والتناغم وبوصفه المجال الذي يحافظ على جذوة الإبداع الحقيقي مشتعلة عند الإنسان ولابد أن تتنامى هذه الجذوة الإبداعية لتحرق بنارها أعداء الإبداع والحياة كما تحرق كل إنسان يناهض التطور .

شاعر من الرفاعي

مـاهــو الإبداع؟

تكاتفت التعريفات لدى نخبة المتخصصين في العلوم المتنوعة في تحديد ماهية التعريف الخاصة بالإبداع وما زالت رحى التضادات دائرة وتفاوت التعاريف في تحديد كنه الإبداع هو بحد ذاته إبداع إذ ان هذا الوليد مازالت أيدٍ متنوعة تسعى جاهدة لاحتضانه وتناوله عنصراً رئيساً في بعدها المعرفي سواء في علم الاجتماع أو علم نفس الشخصية أو علم النفس التربوي او علم الإدارة، وهناك وشيجة ارتباط لا تغفل بين ماهية ولادة الإبداع والصنعة الأدبية في سحر الكلمة، وارتأي اعتماد هذه النخبة من التعاريف الإجرائية في دراستي هذه من بين منظومة تعاريف الإبداع لغايات دراسة الإبداع الأدبي بين الماهية والواقع الأدبي للكتابة. فيعرف”ولك “الإبداع بأنه” التميز في العمل والإنجاز بصورة تشكل إضافة إلى الحدود المعروفة في ميدان معين
“.
ويعرفه” جيلفورد “ بأنه سمات استعدادية تضم الطلاقة في التفكير والمرونة والأصالة والحساسية للمشكلات وإعادة تعريف المشكلة وإيضاحها بالتفصيلات والإسهاب
.
ويعرفه” ويرتيمر“ بأنه إعادة دمج أو ترجمة المعارف والأفكار بشكل جديد. أما” مدرسة التحليل النفسي “ فتعتمد تعريفها الآتي:

إن الإبداع هو محصلة لتفاعل ثلاثة متغيرات للشخصية هي الأنا والأنا الأعلى والهو، وإن تحقق الإبداع مرهون بكبت الأنا حتى تبرز على السطح محتويات اللاشعور أو ما قبل الشعور وتنحي الدرا! سات الأدبية في تحليقها في مجال الإبداع من خلال دراسة معطيات الرسالة الأدبية في منظومة إشكالها التعبيرية اللفظية المتنوعة في لغة النثر والشعر على سبيل التحديد وغيرها من أشكال الكتابة على وجه العموم، وتلتزم في دراستها على تأكيد بعد ولادة الإبداع وماهية تكون جيناته في مخيلة الأديب.

وانطلاقاً مما سبق فإنه لا بد لنا من تحديد مقومات العملية الإبداعية في العمل” الأدبي “، وهي تتشكل في أول سماتها في الحساسية الشديدة في إدراك” الأديب “ ومشاعره المرهفة التي تثمر تفاعلا حارا قزحي الأمواج في ذاته الحساسة لرسم الإبداع فتثمر منتجه الإبداعي وتتنوع أبعاد استقاء تلك الحساسية من البيئة المحيطة وخارطة مفرداتها اللامتناهية في التفاعل والتأثير في إحساس الأديب سواء في منظومة المواقف وبعد الإنسان ولوحة الوجود ودوائر السلب والإيجاب التي تتقاطع عند مشاعر الأديب المرهف، إذ يحرك ذلك مادة حياة تتدفق في عمل الأديب وتدور في فنيات الأدب والتعبير الساحر الخلاق في ملكات الموهبة الزاخرة بحيث تبث عوالم اللاشعور في اختزانها الفني المحتبس لمنظومة تفاعلات مؤثرة مستقاة من البعد الخارجي .

الثقافة العربية في مرآة الآخر ..

ما هي العلاقة التي تربط الثقافة العربية المعاصرة بآخرها؟

 تيسيراً للجواب عن هذا السؤال الذي يسمح لنفسه بأن يتحدث عن الثقافة العربية وعن آخرها، وعن العلاقة بينهما، بصيغة المفرد، لنقم برصد تاريخي، ولنتوقف عند لحظة زمنية أخرى، لحظة حضارية أخرى، ولنتساءل عن العلاقة التي ربطت الثقافة العربية قديما بغيرها من الثقافات، ولنستأنس في الإجابة عن هذا السؤال الثاني بنصين أساسيين، أحدهما مأخوذ من المناظرة المشهورة التي نقلها أبو حيان التوحيدي في الإمتاع والمؤانسة والتي جرت بين المنطقي متى بن يونس والنحوي أبي سعيد السيرافي، والآخر مأخوذ من شذرات لف شليجل.

نقرأ من المناظرة :"قال السيرافي: أنت إذا لست تدعونا إلى علم المنطق، إنما تدعو إلى تعلم اللغة اليونانية وأنت لا تعرف لغة يونان، فكيف صرت تدعونا إلى لغة لاتفي بها؟ وقد عفت منذ زمن طويل، وباد أهلها وانقرض القوم الذين كانوا يتفاوضون بها، ويتفاهمون أغراضهم بتصاريفها، على أنك تنقل من السريانية !

فما تقول في معان متحولة بالنقل من لغة يونان إلى لغة أخرى سريانية، ثم من هذه إلى أخرى عربية؟

قال متى: يونان وإن بادت مع لغتها، فإن الترجمة حفظت الأغراض وأدت المعاني وأخلصت الحقائق.

قال أبو سعيد: إذا سلمنا لك أن الترجمة صدقت وما كذبت … وإن كان هذا لا يكون، وليس هو في طبائع اللغات ولا في مقادير المعاني فكأنك تقول: لا حجة إلا عقول يونان، ولا برهان إلا ما وضعوه، ولا حقيقة إلا ما أبرزوه.

قال متى: لا، ولكنهم من بين الأمم أصحاب عناية بالحكمة والبحث عن ظاهر هذا العالم وباطنه…وبفضل عنايتهم ظهر ما ظهر وانتشر ما انتشر وفشا ما فشا ونشأ مانشأ من أنواع العلم وأصناف الصنائع، ولم نجد هذا لغيرهم.

قال أبو سعيد: أخطأت وتعصبت وملت مع الهوى، فإن علم العالم مبثوت في العالم بين جميع من في العالم"

يطرح هذا النص مجمل القضايا التي عاشتها الثقافة العربية الكلاسيكية في تعاملها مع غيرها من الثقافات، وخصوصا الثقافة اليونانية، فهو يبرز الأهمية التي لعبتها اللغة في التواصل مع الآخر والدور الذي لعبته الترجمة في ذلك، وما تمخض عن تعدد الوسائط اللغوية. كما يظهر تشككا في جدوى التفتح على ثقافة بعينها، وتخو! فا من الوقوع في أحضانها والتعصب لها ويدعو إلى النهل من معين جميع الثقافات المبثوثة في العالم.

قبل أن نتوقف عند تفصيل هاته القضايا والتساؤل عما إذا كنا نحياها نحن على هذا النحو، لنقرأ النص الثاني الذي اقترحه عليكم مقتبسا من شذرات لـ.ف. شليجل يقول :"يتسم العرب بطبع مجادل إلى أبعد الحدود، فهم، من بين الأمم جميعها، أكثر الأمم قدرة على النفي والإتلاف. ما يميز فلسفتهم في روحها هو ولعلهم المرضى بإتلاف الأصول والقضاء عليها بمجرد أن تتم الترجمة"
لا يهمنا هنا بطبيعة الحال، الوقوف عند هذا النص في محتواه الإيديولوجي، ولنكتف بالتساؤل عما إذا كانت النتائج التي تتمخض عما يثبته تفصح عن العلاقة الفعلية التي ربطت الثقافة العربية الكلاسيكية بالثقافات التي تعاملت معها؟

لتحديد تلك النتائج لنتساءل في البداية عما يعنيه شليجل بإتلاف الأصول، أو كما يقول هو "إتلافها والإلقاء بها جانبا"؟ إنه يعني أن الثقافة العربية الكلاسيكية كانت تتعامل من موقع قوة مع غيرها من الثقافات. كانت عندما تنقل الأصل إلى لغتها وتتمثله في ثقافتها، كانت تؤقلمه وتضمه إليها، كانت ترضخه وتقضي على عنصر الغرابة فيه فتبتلعه وتدخل! ه في دائرة الأنا شعورا منها أنه لم يعد آخر، لذا فسرعان ما تنفيه وتعمل على إتلافه والاستغناء عنه كأصل بعد أن "ترقى" به إلى لغتها.

في إطار علاقة القوة هاته، والتي يقهر فيها كل اختلاف، نفهم أن تولد الترجمة مكتملة منذ الوهلة الأولى، كما نفهم ألا يتم التفاعل إلا من جانب واحد، وألا يتم نقل النصوص إلا نحو العربية وليس العكس.

هذا ما يؤكده الجاحظ في نص مشهور من كتاب الحيوان حيث يقول :"وقد نقلت كتب الهند وترجمت حكم اليونانية وحولت آداب الفرس، فبعضها ازداد حسنا وبعضها ما انتقص شيئا. ولو حولت حكمة العرب لبطل ذلك المعجز الذي هو الوزن، مع أنهم لو حولوها لم يجدوا في معانيها شيئا لم تذكره العجم في كتبهم التي وضعت لمعانيهم وفطنهم وحكمهم.

المعنى الأساس لهذا النص، ليس كون الشعر لا يترجم كما قيل مرارا، وإنما أن العجم ليسوا في حاجة إلى أن تنقل إليهم النصوص العربية، ويقول الجاحظ حكمة العرب، إن النص العربي ليس في حاجة إلى أن ينقل، على عكس الحكم اليونانية وكتب الهند وآداب الفرس التي ترتقي وتزداد حسنا، أو على الأقل لا تفقد شيئا عندما تنقل إلى لغة الثقافة، أي لغة الضاد.

إن الجاحظ يضع مسألة ال! تفاعل الثقافي ضمن علائق القوة التي تربط الثقافة العربية بغيرها من الثقافات، وهذا يتجلى أساسا في عملية النقل التي يتم عن طريقها التثاقف، أي الترجمة. فهذه العملية تكون ذات مفعول إيجابي، أو على الأقل مفعول محايد عندما تتم في اتجاه لغة الثقافة، أي اللغة العربية، وهي لا تكون ذات مفعول، أو ذات جدوى في الاتجاه الآخر.

ذلك أن الثقافة الكلاسيكية كانت تعتبر أن لغة الثقافة هي العربية. لذا فإن القدماء، الذين كان حملة العلم فيهم "أكثرهم العجم" و"إن كان منهم العربي في نسبه فهو عجمي في لغته" كما قال ابن خلدون/ إن القدماء كانوا يشعرون أنهم لم يكونوا يخاطبون إلا قراء يتقنون العربية، وإنهم بالتالي، عندما ينقلون النص إلى هذه اللغة، فإنهم "يرقون" به إلى لغة الثقافة. لا عجب إذن أن يصبح النص في العربية هو النص، وأن تتم عملية الإتلاف التي تحدث عنها شليجل، ولا غرابة أن تعتمد الترجمات العربية فيما بعد كنصوص أصلية، كأصول، ويكفي، مثالا على ذلك، أن نذكر بأن الترجمة العربية لـ كليلة ودمنة، هي التي ستعتمد كأصل عند ترجمة الكتاب إلى اللاتينية والإنجليزية والفرنسية، بل حتى إلى الفارسية الحديثة كما يؤكد أحد الدارسين لسنا في حاجة إلى برهان طويل كي نؤكد أن علاقة القوة التي تربط الثقافة العربية الآن مع غيرها من الثقافات، وتربط اللغة العربية بالنصوص التي تتعامل معها علاقة مخالفة لهذه، إن لم نقل مناقضة، بل إن لم نقل مقلوبة، فنحن لا نشعر أننا نرقى بالنص عندما ننقله إلى العربية ونزيده جمالا كما قال الجاحظ، بل إننا نحس، على العكس من ذلك، أننا نرقى بالنصوص العربية عندما نترجمها، إننا نشعر أننا نرتقي عندما نترجم، نلمس ذلك في ظاهرة أخذت تنتشر في ثقافتنا العربية، وكانت قد عرفتها الثقافة الروسية في القرن التاسع عشر، وهي لجوء بعض كتابنا إلى الكتابة أولا بغير اللغة العربية. كي يعملوا، وفي غالب الأحيان ليعملوا هم أنفسهم على نقلها إلى لغة الضاد، هنا يغدو المرور عبر لغة الآخر هو الطريق المضمون، الطريق الموصل، الطريق المشرف لبلوغ القارئ العربي. لكي يتلقى القارئ العربي النص يحسن، بل ينبغي أن يصله مترجما، ينبغي أن ينقل إليه عبر لغة أخرى، معنى ذلك أن المعني بالنص، حتى عندما يكتب بلغة أجنبية هو دوما القارئ العربي فكأن المثقف العربي اليوم لا يتكلم لغته إلا عبر لغة أخرى، لا يعترف بذاته إلا إذا اعتر! ف به الآخر.

مقابل علاقة القوة التي أثبتناها مقدما نتبين هنا أن الثقافة العربية اليوم لم تعد تدرك ذاتها، ليس فقط إلا عبر آخر، وإنما عن طريق الإدراك الذي للآخر لها، إنها لا تدرك ذاتها إلا في مرآة الآخر، فهي إذن لا تعيش التثاقف كحركة تأليف ونشر، كتفاعل فكري، وإنما كأسلوب عيش ونمط وجود، وهي لا تعيشه كتفاعل وتثاقف، وإنما كانفعال وإثقاف.

لعل ذلك هو ما يجعلنا لا نقرأ إنتاجنا الفكري اليوم إلا مقارنين موازنين مترجمين، وتجد القارئ عندنا سرعان ما يربط النص العربي، بصفة مباشرة أو غير مباشرة بنص آخر. أو لنقل بالأولى، والمبالغة مقصودة، إنه لا يطلع على النص العربي إلا بعد أن يربطه بنص آخر، إلا ليبحث فيه عن النص الآخر، لا يقرأ حي به يقظان إلا بحثا عن روبنسون كروزويي، ولا المقدمة إلا بحثا عن أ.كونت، ولا اللزوميات إلا لربطها بشوبنهاور. ولا المنقذ إلا بحثا عن ديكارت، ولا التهافت إلا بحثا عن هيوم وكنط، ولا رسالة الغفران إلا تقصيا لدانتي.

هانحن كذلك ننسى "أن علم العالم مبثوث في العالم بين جميع من في العالم"، إلا أن وضعيتنا مغايرة، وعلائق القوة التي تربط ثقافتنا بغيرها مخالفة، وهي لا تسمح بط! بيعة الحال، لا بالتعامل المنتج، والترجمة الاستثمارية للنصوص الأجنبية فحسب، بل إنها تحول دون التعامل المنتج، التعامل المبدع حتى مع النصوص العربية ذاتها، إن المرور إلى الذات عبر الصورة التي يعكسها الآخر يحجب الآخر ويحجب الذات معا، هذا النوع من التفاعل الثقافي، من التثاقف يسيء أيضا إلى ما يمكن أن نسميه التثاقف الذاتي: .L’auto-acculturationلا يمكننا والحالة هاته أن نؤسس لتثاقف فعلي يخرج الثقافة العربية من حالة الإثقاف التي هي عليه،إلا إذا حاولنا أن نقلب علائق القوة التي تربطنا بغيرنا، وهذا لن يتم إلا بتملك فعلي لثقافته، أي تكسير مرآتها أولا، ذلك أن التملك في الميدان الثقافي لا يعني الملكية، لا يعني الاعتناق والتقمص والاقتراب، وإنما الابتعاد والتحرر وخلق المسافات وإنتاج الأسئلة.

وهذا يعني أننا لا يمكننا أن نؤسس لثقافة عربية مغايرة إلا بتوليد! الآخر كآخر، ولكن أيضا بالتحرر من الرغبة في التحول إلى أصل، والتخلي عن افتراض أي مفهوم مطلق عن الخصوصية في الميدان الثقافي. ذلك أن المتاح اليوم لأية ثقافة ليس خصوصية مميزة ومميزة، وإنما كيفيات خاصة وطرق نوعية للمساهمة في الثقافة الكونية والانخراط في المعاصرة وإقامة ثقافة حوارية تستثمر الأصول وتعيد إنتاجها فتنعش الفكر وتشق له دروبا أخرى وتفتح له آفاقاً مغايرة.

الإبداع والنقد في العلم

أثمَّة أوجه شبه بين الطرق العقلانية لحلِّ المشكلات في مجالين مختلفين كالعلم والسياسة؟ إن هدف العلم هو وصف العالم بطرق افتراضية وإخبارنا بما يوجد. وهدف السياسة إحداث نظام اجتماعي مرغوب فيه. وفي هذا المجال تكون المشكلات المتعلقة بـ"ما ينبغي أن يكون" مهمة. ومن ثَمَّ فإن للسياسة بعداً أخلاقياً يتجاوز العلم. وثنائية "يكون" و"ينبغي" بين الوقائع والقيم توجِد فكرة أن ثمة أوجُه شَبَه مهمة بين إشكالية العقلانية العلمية والعقلانية السياسية. وهذه الفكرة غالباً ما تُعَدُّ تعبيراً عن العلموية scientism، عن الوهم الحديث أن كل المشكلات من الممكن أن يحلَّها العلم والتكنول! وجيا.

إن الثنائية بين الوقائع والقيم تجعل من المتعذَّر حل المشكلات الأخلاقية والسياسية بالعلم والتكنولوجيا وحدهما. فالعلم يصف العالم افتراضياً وبوسعه أن يساعدنا على إيجاد الوسائل التكنولوجية الفعالة من أجل تحقيق أهداف محددة. ومن ثَمَّ على العلم والتكنولوجيا أن يرتبطا بعقلانية الوسائل وأن يزيدا قدرتنا على تحقيق الغايات. كيف يجب أن تُستخدَم هذه القدرة؟ وما هي الغايات التي يجب أن تتحقق بوسائلنا التكنولوجية؟ إن هذه المشكلات الأخلاقية والسياسية تتجاوز ميدان العلم والتكنولوجيا، ولابدَّ أن ترتبط بعقلانية الغايات.

وعقلانية الغايات أهمُّ من عقلانية الوسائل. فالوسائل الفعالة يمكن أن تُستخدَم بطرق مختلفة. ووضعنا الحاضر، بما فيه من وسائل التدمير الفعالة ومن وسائل الإنتاج ذات الآثار الجانبية البيئية السلبية الكبيرة، يجعل غموض الوسائل العقلانية شديد الوضوح.

لقد حَدَتْ الثنائية بين الوقائع والقيم بالكثير من الفلاسفة الحديثين إلى الاعتقاد بأن العلم والسياسة ينتميان إلى بعدين مختلفين كل الاختلاف. فيركز بعض الفلاسفة على المشكلات العلمية ولا يعتقدون أنه يمكن أن يقال الكثير حول المشكلات ! الأخلاقية والسياسية. ويعتقد فلاسفة آخرون أن التركيز الحصري على العقلانية العلمية والتكنولوجية أدَّى إلى وضع تُستخدَم فيه وسائل الإنتاج والتدمير الفعالة بطرق غير عقلانية. وهم يعتقدون أن البعد المهم جداً للأخلاق والسياسة صار نسياً منسياً أو طرده النقد العلمي السطحي والوضعي.

وفيما يخص مشكلة كيفية وجوب حلِّ المشكلات الأخلاقية والسياسية، يؤكد جلُّ الفلاسفة الحديثين أنها تُحَلُّ جوهرياً بـ"قرارات" قبول بعض القيم والمعايير والغايات. وتتفق المدارس الفلسفية المحورية كالوضعية والوجودية في هذه النقطة. وفي الفلسفة الوضعية يكون التأكيد منصباً على الصفة الانفعالية وغير العلمية لمثل هذه الخيارات؛ أما في الفلسفة الوجودية فعلى صفتها المستقلة والملتزمة. وإنها لإشكالية في كلتا المدرستين، مسألة بأيِّ معنى يمكن أن يقال إن الخيارات السياسية والأخلاقية عقلانية.
ويؤكد العقلانيون النقديون، كأكثر الفلاسفة الحديثين، أن المشكلات الأخلاقية والسياسية تُحَلُّ جوهرياً بالقرارات. غير أنهم ينكرون أن هذه القرارات يجب أن تكون اعتباطية أو غير عقلانية. ويزعمون أن القرارات ضرورية، لا في السياسة وحسب، بل كذلك في ال! علم. وبما أنه لا يوجد منهج علمي يفضي إلى الحقيقة المطلقة، فعلى العلماء أن يختاروا الفرضيات التي يقبلونها. وهذه الخيارات يمكن أن تتم بطريقة عقلانية على أساس الفحص العلمي عن الفرضيات المتيسرة ونتائجها القابلة للاختبار. إن نقد النتائج وتقصِّيها مهمان كذلك في السياسة من أجل القيام بخيارات عقلانية. وهناك في العلم والسياسة فارق شاسع بين "الاعتباطية" و"الاختبار الأعمى" وبين "الاختيار المعقول" الذي يتم بأعين مفتوحة وبإدراك للنتائج والإمكانات المختلفة.

وهناك تشابه ثانٍ بين العلم والسياسة. ففي العلم لا يوجد منهج يفضي آلياً إلى الفرضيات الجديدة، ولكن المخيِّلة الإبداعية creative imagination ضرورية لإيجاد شيء جديد. والإبداع في السياسة ضروري كذلك لإيجاد حلول للمشكلات السياسية، وللقدرة على خلق الم! قترحات السياسية.

إن الطريقة العقلانية لحلِّ المشكلات في كل من العلم والسياسة تكمن في التفاعل بين الإبداع والنقد. فالحلول الممكنة للمشكلات توجدها المخيِّلة الإبداعية، ومن الممكن نقدها بالفحص عن نتائجها. فالإبداع والنقد ليسا متعارضين، بل يتمِّم أحدهما الآخر؛ وتفاعلهما أساسي لتطور أي فرع من فروع الثقافة. وفيما يلي سوف يُفحص عن أوجه الشبه بين الطرق العقلانية لحل المشكلات في العلم والسياسة بشيء من التفصيل.

العقلانية في العلم

حاول الكثير من العلماء عبثاً إيجاد منهج للقيام بالمكتشفات العلمية. وقد ظن الفلاسفة الاستقرائيون طويلاً أن التعميم الحَذِر من ملاحظات كثيرة هو هذا المنهج الذي من شأنه أن يجعل الإبداع في العلم زائداً تقريباً. وتحت تأثير هذه الرؤية الاستقرائية للعلم انصبَّ التأكيد على أنه من أجل اكتشاف فرضيات جديدة فإن المطلوب هو العمل الشاق لا ومضات الروح. ووفقاً لهذه الرؤية النثرية كان المطلوب في العلم هو نوع من أخلاق العمل الدؤوب، وهو العَرَق وليس الإلهام.

وفي فلسفة العلم الحديثة ميَّز كارل ر. بوبِّر (1959م) بدقة بين سياق الاكتشاف وسياق التسويغ، بين عملية تصور الأفك! ار الجديدة وعملية امتحانها نقدياً. وفي هذا النقد للاستقرائية يُظهِر بوبِّر أنه من المتعذَّر أن تُستمَدَّ الفرضيات العلمية العامة من التعبيرات الفريدة للملاحظات. وليس هناك منهج يفضي إلى الفرضيات الجديدة، ولكن المخيِّلة الإبداعية ضرورية. والعمل الشاق والعَرَق غير كافيين في العلم. إنك تحتاج كذلك إلى الإلهام والمخيِّلة الإبداعية.

ومفهوم الفرضية الجديدة عند نوروود رَسِّل هَنْسُن (1958م) وتوماس س. كُهْن (1962م) هو نتيجة تحوُّل غشتالتي يجعل رجل العلم يرى العالم بطريقة جديدة. إن هَنْسُن وكُهْن يحسبان المعلولات عللاً. وإنه لصحيح أنه بالفرضية الجديدة يمكن أن يُرى العالم بطريقة جديدة. ولكن من أجل أن نرى بطريقة جديدة فإن الفكرة الجديدة ضرورية. وهذه الفكرة لا تُحدِثها الملاحظة تلقائياً، ولكنها نتيجة المخيِّلة الإبداعية. ويؤكد كُهْن أن أزمة اليقين، أي الشعور بأن شيئاً ما قد جرى خطأ، ضرورية للثورة العلمية. ولكن لولا المخيِّلة الإبداعية في ذهن العالِم القلق لاتنتظر عبثاً الاستنارة الفجائية في شكل الإلهام بالتحوُّل الغشتالي المفضي إلى إطار نظري جديد.

وينبغي للفرضيات التي توجِدها المخيّ! ِلة الإبداعية أن تُمتحَن نقدياً. وهذا يتم في العلم باختبار نتائجها التجريبية. وهذه العملية أشد تعقيداً مما يُفترَض في تفسيرات الطريقة الدحضية المفرطة في التبسيط. فالفرضيات الإضافية ضرورية في جُلِّ الأحوال لاستخلاص النتائج القابلة للاختبار. وعبارات الاختبار حول الملاحظات والتجارب غير معصومة عن الخطأ. ويظن توماس كُهْن أن هذه التعقيدات تجعل الامتحان النقدي للفرضيات الأساسية متعذَّراً؛ ومن ثَمَّ فإن الأمثلة يجب أن تكون مقبولة من غير نقد بوصفها أجزاء من الشكل العلمي للحياة وشروطاً ضرورية مسبقة للبحث. والثورات العلمية والتغييرات في النماذج paradigms عند كُهْن ليست نتيجة البحث العقلاني، بل نتيجة الإقناع والدعاوة، وهي، من هنا، شبيهة بالاهتداءات الدينية والثورات السياسية.

إن الرأي القائ! ل بأن بعض أجزاء العلم يجب أن تكون مقبولة دوغمائياً رأي مخطئ. فمن الممكن أن يكون لدى المرء موقف نقدي من الفرضيات الأساسية أيضاً وأن يمتحنها نقدياً. ولذلك فإن الفكرة القائلة بأن الإطار النظري يجب قبوله من غير نقد تعتمد على الأسطورة، على ما دعاه بوبِّر (1970م) "أسطورة الإطار".

ليس هناك مقدار من الاختبار النقدي بوسعه أن يُظهِر أن الفرضية صحيحة أو قريبة من الصحة بالمعنى الموضوعي. وهكذا ليس هناك "منهج تسويغ" لصحة الفرضيات العلمية. والحقيقة بجمالها المطلق والعاري غير مكشوفة لنا. ولذلك نَوْلُنا أن نستخدم خيالنا الإبداعي لابتكار الفرضيات التي تُختبَر بما يمكن من الصرامة. ولكن الفرضيات، حتى بعد أشد الاختبارات صرامة، تظل غير معصومة عن الخطأ.أي لقد كانت الريبيَّة نتيجة انهيار المفهوم المفرط في التفاؤلية والمفرط في التبسيط حول قدرة الإنسان على المعرفة. ولكن إذا لم تكن الحقيقة واضحة، فليس علينا أن نرتدَّ إلى النسبوية (relativism)، أو الريبيَّة، أو الدوغمائية. إذا لم تكن الحقيقة واضحة علينا أن نستخدم مخيِّلتنا الإبداعية وفكرنا النقدي لكي نتعلم ولكي نحاول الاقتراب من الحقيقة. وعلى هذا النحو فإن الجرأة على النقد، التي كانت فخر عصر التنوير، تؤدي إلى التعلم القائم على توحيد الإبداع والنقد.

العقلانية في السياسة

أضرورية هي القيم المطلقة لتفادي الريبيَّة الهدامة والعدمية الخطرة؟ لقد كان مايكل بولانيي (1958م) في هذه الفلسفة ما بعد النقدية قد حاجج بأن الفكر النقدي مدمِّر ويؤدي إلى الريبيَّة والعدمية. وبولانيي ينصح أن يكون العلاج هو الحدس والإيمان. وهو يجادل برترند رَسِّل الذي كان بعد اختباراته لروسيا ما بعد الثورية قد أدان البلشفية التي هي دوغمائية بمقدار ما هي إكليروسية وقال: "إن من شأن الشك العقلاني، إذا أمكن له أن يحدث، أن يكفي لدخول العصر الألفي السعيد." (أورده بولانيي، 1958م: ص 297) فالنقد والشك العقلاني عند بولانيي لن يؤديا إلى الريبيَّة التي تفتح الأبواب! للالتزام الدوغمائي. ومادام معظم الأشخاص يتجنبون الريبيَّة بالهروب إلى الالتزام، فهو لا يعتقد أن الشك العقلاني علاج لمساوئ عصرنا: "إن التعصُّب الحديث متجذِّر في ريبيِّة متطرفة يمكن لها أن تقوى، لا أن تهتز، بجرعات إضافية من الشك الشامل." (1958م: ص 298).

إن الفكرة القائلة بأن الشك والنقد خطِران ترجع إلى ردة الفعل الرومانسية على عصر التنوير. وعند الرومانسيين أن العقل والنقد اللذين يفكِّكان يؤديان إلى الريبيَّة وإلى رؤية للعالم عقيمة وسطحية. وقد اقترحا بدلاً منهما أسساً أخرى كالتراث، أو الشعور، أو الحدس، وعدُّوها مصادر للحكمة الأعمق التي يتعذَّر على العقل بلوغها. وهذه الميول واضحة كل الوضوح في الفلسفة الاجتماعية الرومانسية في القرن التاسع عشر، حيث كان التوق إلى مجتمع مغلق لا يعكِّره الشك وله تقاليد ثابتة وصلبة. وأحلام رومانسية كهذه هي غير واقعية. فلا سبيل إلى العودة إلى نمط قديم من المجتمع التقليدي باستقراره، وقيمه الثابتة، وانسجامه المزعوم. وخيارنا ليس بين المجتمع المفتوح والنمط القديم من المجتمع التقليدي، بل بين المجتمع المفتوح والمجتمع المغلق في شكله المختلف الحديث: الدولة الاستبدا! دية التوتاليتارية. والحنين إلى العودة إلى المجتمع المغلق قد يكون خطراً: فالمقصود هو الماضي المُمَثْلَل idealized، وما هو متحقق هو الدولة الاستبدادية التوتاليتارية.

وكما لاحظ بوبِّر (1945م: ص 200) فإننا ما أن بدأنا بالاعتماد على عقلنا حتى لم تعد هناك عودة إلى الحالة المتناغمة للطبيعة أو المجتمع التقليدي المتناغم والمغلق: "لأن الفردوس مفقود بالنسبة إلى من أكلوا من شجرة المعرفة. وكلَّما حاولنا العودة إلى العصر البطولي للقبلية، وصلنا بالتأكيد... إلى "البوليس السري"، وإلى حالة قطَّاع الطرق وقد أُضفِيَت عليها الرومانسية."

إن الريبيَّة في فلسفة العلم كثيراً ما تكون نتيجة خيبة أمل في الإيمان المفرط في التفاؤل بقدرة الإنسان على المعرفة. وشبيه بذلك الوضع في الفلسفة الأخلاقية والاجتماع! ية. ولكن إذا لم يكن هناك وحي بالحقيقة المطلقة أو القيم المطلقة فعلينا أن نحمل ما كان يسمى عبء الحضارة وأن نحاول أن نتعلم، بتوحيد المخيِّلة الإبداعية مع الفكر النقدي، أية فرضيات حول العالم ينبغي أن نحافظ عليها، وأية قيمة نقبل، وأيَّ نظام اجتماعي نحقق.

والمخيِّلة الإبداعية ضرورية، لا في العلم وحسب، بل كذلك لحلِّ المشكلات الأخلاقية والسياسية. والأخلاق والسياسة أبعد عن عالم الوقائع من العلم. فهما ليسا محاولتين لوصف ما "يكون"، بل محاولتان لإيجاد ما "ينبغي" أن يكون. وهما، من ثَمَّ، يتطلبان درجة في الإبداع أعلى من العلم الذي يتألف من الفرضيات حول ما يكون.

والمقترحات الأخلاقية والسياسية يجب أن تُمتحَن نقدياً. نَوْلُنا أن نحاول العثور على نتائجها والطرق الممكنة في العمل. ولابدَّ، دفعاً لسوء الفهم الممكن، من الإشارة إلى أن توحيد الإبداع والنقد وثيق الصلة بالموضوع، ليس لاختيار الوسائل المعقولة وحسب، بل كذلك لإيجاد الغايات ومعايير القيم. وأهميَّته أكثر من ذرائعيَّة pragmatic؛ فلا يجوز أن يكون اختيار الوسائل، ولا اختيار الغايات، وثبة وجودية عمياء في الظلام.

ويرتكز المجتمع المفتوح والعلم على الاستعداد لمناقشة المشكلات وأخذ المجادلات بجدية، أي على قبول "الإطار النقدي". إن المجتمع المفتوح وإطاره النقدي الموازي له هما إنجازان حديثان في التاريخ البشري. فهما يقتضيان الموقف الأخلاقي للتسامح، لإدراك أنني قد أكون مخطئاً وأنك قد تكون مصيباً. وأولئك الذين لديهم امتياز العيش في مجتمع مفتوح لا يدركون دائماً أنه إنجاز نفيس نادر، لا نحصل عليه بصفته شيئاً متوقعاً ونتيجة طبيعية، بل على كل جيل أن ينتزعه بالتغلب على العقبات من جديد. وتراث الفكر النقدي معرَّض للخطر على الدوام. فليس الموقف الفطري للإنسان أن يناقش ويحاجج، بل أن يرغم الآخرين على اتِّباع مشيئته. ولهذا السبب كان المجتمع المغلق والاستبدادي التوتاليتاري أكثر أنماط المجتمع شيوعاً في التاريخ البشري. والمجتمع المفتوح نمط متطو! ِّر من النظام الاجتماعي يفترض مسبقاً مستوى رفيعاً من الثقافة؛ مستوى بحجم تعرُّضه لخطر الميل الشديد إلى القوة ولخطر الفوضى المتساهلة.

وهناك أساس أخلاقي للمجتمع المفتوح، هو أحد الأسباب التي تفسر لنا لماذا على الفلاسفة الأخلاقيين ألا يناقشوا المشكلات الشكلانية والرياضية وحسب، بل أن يقترحوا كذلك الأنظمة الأخلاقية وأن يمتحنوها. وهذه الأنظمة هي مقترحات تثير المخيِّلة الأخلاقية والتأمل في الأفراد الذين تواجههم المشكلات الأخلاقية. وعلى الفرد أساساً أن يقرر بنفسه كيف يتصرف. وهذا لا يجرد الأنظمة والمقترحات الأخلاقية من الأهمية. فهي، إذ تجعله يدرك الإمكانات والنتائج، تساعده على أن يقرر بطريقة عقلانية.

والمنقولات مهمة في العلم وفي الأخلاق. والعلماء يعملون في موروث المعرفة العلمية النقلية. ومهمة العالِم الفرد، في معظم الأحوال، محددة بالامتحان النقدي وتعديل الفرضيات التي اقترحها الآخرون. ففي حال روبنسن كروزو لن يبدع أشد العلماء إبداعاً العلمَ بنفسه من جديد، بل سيرتد إلى المفهوم البدائي عن العالَم. ويصحُّ الأمر نفسه على الأخلاق. فلولا الموروث الأخلاقي لارتدَّ الأفراد والمجتمعات إلى البدا! ئية. وهذه مجازفة خطيرة في وضع قد تُستخدَم فيه القوة التي يضعها العلم والتكنولوجيا تحت تصرف الإنسان بطريقة تدميرية، من شأنها أن تخيِّب كثيراً الآمال التفاؤلية الممعنة في القدم.

واليوم يؤدي الفكر العقلاني دوره على نحو جيد في العلم، من دون شك، ولكن على نحو رديء، من دون شك، في الأخلاق والسياسة. ونحن، لكي نحل مشكلات هذا الوضع الغريب والمرَضي، لسنا بحاجة في الأخلاق والسياسة إلى ولاء دوغمائي لمنقول ما، ولا إلى الطوباوية السياسية، ولا إلى النسبوية المتساهلة، بل إلى موقف عقلاني يوحِّد كل قدراتنا الإبداعية والنقدية.


مشاركة منتدى

أي رسالة أو تعليق؟

مراقبة استباقية

هذا المنتدى مراقب استباقياً: لن تظهر مشاركتك إلا بعد التصديق عليها من قبل أحد المدراء.

من أنت؟
مشاركتك

لإنشاء فقرات يكفي ترك سطور فارغة.

الأعلى