الأربعاء ٢٧ تشرين الأول (أكتوبر) ٢٠١٠
بقلم مصطفى أدمين

الأديب في شرنقته

لم يَعُدْ يذْكُرْ متى أهْمَلَ لِحيتَه وشاربَه... صار إهمالُ الأمور من البديهيات لديه.
طالَهُ الزغب. وطلّقته زوجتُه، وتخلَّف عنه أصْحابُه، وتركوه للوحدة؛ وجمَّد نفسَه في "فريزر" الجحود.

كلّ ما فعل ضِدَّهم، هو أنّه قال "لا" ذاتَ استشارةٍ.

وكانت لاؤُه تلك، البوابةَ التي أخرجوه منها إلى جحيم العدم.

من قال إنّ الأظافر والشعر لا تنمو في جليد النسيان؟ في الموتِ الذي كحياةِ السجون الغابرة؟..

شيئاً فشيئا نمتْ على سطح جلده خيوطٌ كالعنكبوت؛ وغزلٌ شبيهٌ بالفُطْريات... في ثلاجة الإقصاء.

وسيجارته الرديئة تتبخر على مِطفأة من ورق... تحرقها... وشايُه الأسود، ابيَضَّ من كثير الرماد.

زوجته؟... لا! لم يعد له نصفه الآخر... توحَّدَ - بموجب النقصان - بنصفِ نصفِه القديم.
أولادُه؟... لا! زوجتُه كانت عقيم... أو هو من كان (ربّما).

ونما العنكبوتُ؛ ونمت الفطريات على جسدِه المحموم من غذاء الألم.

لكنّه شعر بشيءٍ كالفرح عندما اكتسبت الخيوطُ شكل شرنقة وتلوّنتْ بلون الذهب.
في طفولته الغابرة؛ سهر على تربية يرقات دود القز؛ واستمتع بشرنقاتها الذهبية،الصفراء، والبيضاء.

كان وحيد أمّه... لا! كان له إخوة وأخوات بعدد الحرمان.

وهو اليوم، الليلة، وحيدٌ في شرنقته يفكر:

ـ لن أستحيل إلى فراشة ولودة للديدان... سأتحوّل إلى "أنا" جديد... سأكون روح الأديب المنتحر في شرنقته.

ولم تأتِ تلك المرأة التي عشقها في كتاب.

وبعد آلاف السنين، وجدوه مُحنّطاً في كلمة:ما عاش في الغروب منْ كتب كلمة عند الشروق.

من قال إنّ الأدباءَ يموتون؟... لا! من المستحيل أن يموتَ من نقش كلمةً على صخرة... الأدباءُ (الحقيقيون) هكذا؛ يستحملون صِعابَ الوجود، لأجل أن يحيا الإنسان.
الأديبُ في شرنقتِه، كنزٌ لا يحيا ولا يموت... هو كالماء... منه كلُّ حياة... هو كبيضة الفيلسوف؛ فيها سؤالُ الموتِ الذي لا يفنى... سؤال الحياة الأبدية.

الشرنقة في زجاجة، والزجاجةُ في مصباح؛ نور على نور...


أي رسالة أو تعليق؟

مراقبة استباقية

هذا المنتدى مراقب استباقياً: لن تظهر مشاركتك إلا بعد التصديق عليها من قبل أحد المدراء.

من أنت؟
مشاركتك

لإنشاء فقرات يكفي ترك سطور فارغة.

الأعلى