الاثنين ١ تشرين الثاني (نوفمبر) ٢٠١٠
بقلم مصطفى أدمين

رحلة تيڤيزْيا

حدّثني أبو ضياء؛ قال:

في العام الرابع من سنة أربعين وثمانمائة، رسا بمرفئنا فلك قادم من "تـيـﭬيزْيا". فما إن سمع سكان "غرباتيا" الخبر حتى سارعوا إلى التجمهر على طول جنبات الميناء؛ ليشاهدوا بأمّ أعينهم الرجل الذي أتى به البحر. ولعلمه أنّ الناس ما تجمهروا إلا ليعرفوا سرَّ الضماد الذي لفَّ به رأسه وغطّى به وجهه، ولأن لهم الحق في أن يعرفوا ما دام هو الذي قرّر القدوم إلى بلدهم، وإنفاق ما تبقّى له من العمر بين ظهرانيهم في أمن وأمان، وبالأساس في هدوء وسكينة، فإنّه استنهض قامته وراح يحلُّ ببطء اللفافة التي تخفي حقيقة وجهه، والناس شاخصين فيه بأبصارهم ...

إلى أن كشف سِرَّه؛ فهتفوا متعجبين:" أوووه!..."

الرجل لا وجه له. قروح ودمامل وحروق فقط. فجريتُ إلى أستاذي أبي جنان لأطلعه على الخبر، وكان جالسا على صخرة وفي يده قصبة صيد، وبجانبه سلّة أسماك، فقال لي بنبرة حزينة:"ذاك حال كل "تـيـﭬيزي"هداه الله إلى التخلص من القناع". وكنت أعرف أن أبا جنان لن يخبرني بالمزيد، لذا، احتفظتُ بأسئلتي لي إلا سؤالا كيْدِياً واحدا طرحته عليه:"هل أذهب إلى ذاك البلد؟" فما كان منه إلا أن أشار إلى السلّة أن أفتحَها، ففعلتُ وأنا كُلّي اهتمام وحذر؛ فخرج منها أُخطبوط. وبسرعة التفَّتْ أذرعُه حولي، ولم أنزعها عنّي إلا بمشقة النفس. وكانت محاجم ذالك الوحش اللزِج المقزِّز قد تركت آثارَها على جلدي كلِّه ولم تكن قد التصقت بي إلا ثوانيَ معدودة؛ وعندما نظرتُ إلى أستاذي مستفسراً، قال لي:"تـيـﭬيزْيا" مثل هذا الأخطبوط في سرعة حركته وتلوُّنِه وسلطتِه."

ولعلمِك، فإنّ "تـيـﭬيزْيا" تقعُ جنوب المعمور، ولها أذرعٌ ثمانية. تمُدُّ واحدة منها في عرض المحيط الأوّل، والأذرع الأخريات في البلدان المجاورة لها، وهي: بلاد "والو- والو"، "بنجيكا"، روجيا"، الكامبودج"، سرقونيا"، مقلوبيا"، و"تاوزغا".
ويعتمدُ اقتصادُها على البيع واشِّراء، والمتاجرة في كلِّ شيءٍ وحيّ، ممّا جعل حكّامَها يرسمون شعار الدرهم على علمِهم الوطني، والتجار يهاجرون إليها ويتهافتون على سلعِها بهدف الاغتناء السريع. فهناك، كلّ شيء قابلٌ للبيع؛ من الصابون إلى الخرداوات... وحتّى الكلام الفارغ يُباعُ هناك؛ وكذا التهريج المقيت، وبؤس الناس، والأكاذيب والأباطيل. فأهل "تـيـﭬيزْيا" لا يملكون أيَّ وازع أخلاقي ليمنعهم حتّي في المتاجرة في أعراض الناس وفقرهم ومصائبهم. وليس هذا الأمر هو الخطير فيهم؛ بل إنّهم يشترطون على الذي يرغب في الدخول إلى بلدهم أن يُلبسوه قِناعاً يختارونه له ليكون له بديلا عن وجهِه الحقيقي، وأن يُلبسوه لباساً يفرضونه عليه، وأصباغاً، ويرسمون له الوقفة التي عليه وقوفُها على الدّوام، ويملون عليه الكلام الذي عليه قوله. كما أنّهم يفرضون عليه نوع العلاقات التي عليه الارتباط بها، بل ويجبرونه على نوع الأعداء... وإلاّ طردوه.

ثم يوقفونه أمام مرآة عجيبة ليرى فيها المسخَ الذي صار عليه. ولكيْ يخفواْ مظاهر "الاستمساخ" البادية عليه، فإنّهم يسلطون عليه أضواءً ساحرة.
قال أبو ضياء: لم أكن أعلم أنّ الضوء مثل المخدّر. يحدث نشوة وإحساساً زائفاً بالسعادة. والذي لا يُضاء بأضواء أهل "تـيـﭬيزْيا" تظهر عليه أعراض الفطام؛ فتراه يبكي ويستنجد ويتلوّى من الألم.

إذّاك عرفتُ جرأة وشجاعة الرجل الذي زارنا، وكم كانتْ كبيرة معاناته عندما رفض الوجه المستعار، وفضّلَ عنه وجهه الحقيقي حتّى وإن ملأتْه الجروح والتقرُّحات والندوب.
وكان أن رأيتُ في ذلك البلد الأخطبوطي: رجلٌ مسخ يسقط العصافير الطائرة بمجرّد الكلام، والمشاهدون يضحكون، وكانتْ تلك بضاعتُه؛ وآخر لابس لباس البغال وينطُّ مثل القرود، والناس فيه بالإعجاب والمال؛ وثالث منافق له لحية "عتروسية" يقدّْم مواعظ بالية، فيخرج من جمهوره بالشهرة والمال كذلك، وآخر يبيع مرهماً يعالج كلّ الأمراض، وامرأة تظهر عليها أعراض البلادة المزمنة وحولها نساء تبيعهنَّ نصائح طبِّية مستعملة، ومجموعة من المُهرِّجين بأفعال صبيانية لا تترجم أحوال الناس ومعاناتهم الحقيقية، ومن له أسنان حمارية يوظِّفُها في إشهار معجون أسنان، ورجلٌ كان حقيراً، وصار بفعل القناع والأضواء ذا شهرة وتشهير...

ومع ذلك، فتجارتُهم رابحة (على حدِّ قولهم) وشوارعهم نظيفة ومُزفّتة ومضاءة؛ لكن العِبرة ليستْ بالمظاهر كما تعلم؛ فمتى تنطفئُ الأضواء، تسقطُ الأقنعة، وتظهر الوجوه القذرة.

"غرباتيا" بلادي؛ سأعودُ إليك قريباً بالوجه الذي سربلنيه الله، لأجل أن ألقى أهلي وأحبّائي وأصدقائي... لأجل أن أحيى وأموت إنسانا.


أي رسالة أو تعليق؟

مراقبة استباقية

هذا المنتدى مراقب استباقياً: لن تظهر مشاركتك إلا بعد التصديق عليها من قبل أحد المدراء.

من أنت؟
مشاركتك

لإنشاء فقرات يكفي ترك سطور فارغة.

الأعلى