الخميس ٤ تشرين الثاني (نوفمبر) ٢٠١٠
بقلم محمد صالح رجب

الأسيرة

الجو معبأ بأبخرة البارود.. خراب.. دمار.. بيوت تهدم.. نساء تغتصب وحوامل تجهض.. رائحة كريهة تفوح من كل جانب .. خطواتهم تدنس حرمة البيت من حولها، طرقات أحذيتهم تجلجل في ظلمة الليل، صرخات استغاثة، أصوات مكتومة ما تلبث أن تخبو.. صرخات أخرى، أصوات طلقات نارية ..هدوء يسيطر على المكان..

تجلس وحيدة في منزلها، تريد أن تصرخ، تستغيث، لكن .. إلى أي مدي سوف يصل صوتها ؟! هل يستطيع أن يخترق تلك الأسوار الممتدة والمتراصة من العربات المصفحة ؟ هل يستطيع أن يخترق تلك الكتل البشرية المدججة بالسلاح ؟

شعرت بأسى عميق بداخلها، بمرارة في حلقها، اقتربت من صورة زوجها الشهيد المعلقة على أحد جدران الغرفة .. لقد مات برصاص الغدر، بترت إحدى يديه أصر على المقاومة، خرج ذات مرة، وكان خروجا أخير، لم يبق إلا ذكراه الطيبة وابنهما محمود.. أملها في الحياة، لقد فر هو الآخر من بطشهم ..

عادت تنظر إلى صورة الشهيد بعمق شديد وكأنها تستعيد ماض قديم، قدم التاريخ، لم تتمالك نفسها، ذرفت عيناها دمعتين حارتين على خديها .. استدارت، لمحت وجهها في مرآة معلقة على الحائط، شد انتباهها تلك الشعيرات البيض التي تتقدم رأسها .. إنها لم ترها من قبل، أمعنت النظر إلى وجهها الجميل، لكن ما هذه التجاعيد التي بدأت تكسو وجهها ؟! أهو الشيب، أم أنه آثار السجن الذي ما زالت ترزح تحته ؟ إنه سجن بلا قضبان، سجن بالحديد والنار، عزلة تامة مفروضة عليها، إقامة جبرية في بيتها، ورغم ذلك فهي ليست نادمة .. فإذا كان زوجها قد مات شهيدا، وأخرج ابنها من داره، فإن منزلها سوف يظل مأوى لكل مجاهد، لن يرهبها هؤلاء العساكر المبندقين الذين يطوقون منزلها، ولا تلك العربات المصفحة التي تحيط بها، شعرت برعشة تسري في جسدها .. اتجهت صوب النافذة، لم تكن محكمة الإغلاق، رآها أحدهم أسرعت وأوصدتها ونظراته التي رمقها بها ترعبها، دقات أحذيتهم تتعالى، طرقات شديدة على الباب، إنه ليس بالمتانة الكافية، ماذا تفعل .. إنها وحيدة، مستدركة لا.. لا الله معها. هكذا همست لنفسها ـ فتحوا الباب بعنف، إنهم هم .. مصاصو الدماء، آكلي لحوم البشر .. ضحكاتهم الصفراء تتعالى، أشار كبيرهم لأحدهم، هجم عليها، حاول أن يدنس شرفها، أن يضع أنفها في التراب، زاغت عنه، حاول مرة أخرى، بصقت في وجهه شهر السلاح في وجهها، تمنت في داخلها لو يطلق عليها رصاصة الرحمة،لكنهم لا يعرفون الرحمة ..! اقترب منها على حذر، ألقى سلاحه جانبا وهجم عليها، ركلته بين فخذيه، فكرت في الانتحار، لكن إنه الحرام بعينه، ماذا تفعل، لقد شل حركتها، أمسك بذراعيها، أنهكتها المقاومة ..لم تعد تقو على أكثر من ذلك، تشعر بضيق حاد، بقرف شديد .. وبكل ما في العالم من إحساس بالظلم دفعته مستغيثة بأعلى صوتها: يا رب ..

اهتزت الأرض من بعدها .. دوي انفجار هائل، صراخ، أنين، صيحات مذعورة .. انتفض الرجل عنها، حمل سلاحه وخرج فزعا ورفاقه.. أغلق عليها السجن مر ة أخرى، اقتربت متلهفة إلى النافذة، وعبر الثقوب المتناثرة راحت تتبين الأمر، ولأشد ما كانت فرحتها عندما رأتهم.. إنهم هم . أبناؤها .. محمود، فهد ‘ عمار .. نعم، هم أبناؤها حتى أولئك التي لم تلدهم، لقد تربوا في كنفها ونموا في أحضانها، وشبوا على خيراتها، لكن .. محمود .. إن الدم يسيل منه، يسقط على الأرض، يقبلها، تختلط دماؤه بترابها، صرخة مكبوتة بداخلها، حاولت أن تطلقها، لكن .. أنحبس صوتها، حاولت أن تخرج من سجنها لكن الباب موصد، عادت إلى النافذة تلقي عليه النظرة الأخيرة وعيناها تدمعان، وابتسامة هادئة مطمئنة لنصر الله ترتسم على شفتيها .. وسيطر على المكان الهدوء مرة أخرى ...
( تمت


أي رسالة أو تعليق؟

مراقبة استباقية

هذا المنتدى مراقب استباقياً: لن تظهر مشاركتك إلا بعد التصديق عليها من قبل أحد المدراء.

من أنت؟
مشاركتك

لإنشاء فقرات يكفي ترك سطور فارغة.

الأعلى