الاثنين ٢٢ تشرين الثاني (نوفمبر) ٢٠١٠
بقلم زكية خيرهم

إلى أين المفر ...؟

في وسط جو عاصفي من الثلوج بشوارع اسلو، كان الناس منتشرين يتبضعون لمناسبة عيد الميلاد. ككل سنة يخرجون من محل تجاري ليدخلون إلى آخر. الكل ملفوف داخل معطف من فرو أو صوف أو قطن، يحجب رأسه بقبعة تدفئه من لسعات البرد القارصة. كان عادل من ضمن أولئك الحشد من النرويجيين والأجانب الذي لا تفوته مناسبة ذلك اليوم من غير أن يشتري الهدايا وشجرة العيد. أصبح عيد الميلاد جزء من حياة الأجانب، رغم أنه كل يعيّد بطريقته التي تختلف عن عادات أهل البلد. هناك من يشتري شجرة العيد البلاسيتكية وهناك من يحتفل فقط بتبادل الهدايا مع الأصدقاء النرويجيين، من غير أن يحتفل بكل طقوس العيد في ببيته، من تزيين البيت بالستائر والورود الحمراء وصنع أنواع الحلوى وطبخ الديك الرومي أو ضلع الخنزيرالذي يقدم مع مربى تتبار..

في طريقه مهرولا إلى البيت أمتطى القافلة وأخذ مكانه منشغلا بوضع الأكياس بحذر بين رجليه حتى لا تعيق من يجلس بجانبه. ما أن رفع رأسه حتى وقعت عيناه على أبو تحسين المعتوه الذي كان يجلس أمامه. نحيل ذوعينين سوداوين صغيرتين غائرتين، وسط وجهه الشاحب النحيل، وشعره الأسود متدل على شكل ظفائر كالراستامان. مغبر بائس، لحيته الكثيفة والمبللة بالثلج كانت تغطي نصف وجهه والنصف الآخر يظهر عليه تجاعيد رسمتها أيام رمادية مريضة مصابة بالنهب والأوبئة. كان عادل مندهشا كيف تغير هذا الرجل الوسيم إلى مختنق في الفراغ، غارقا في انكسار ووحدة وتاريخ أعزل؟ ابتسم له، لكن أبو تحسين اكتفى فقط بالنظر إليه وهو يحرّك رأسه وكأنه فنان هندي يعزف على آلة رودارافينا. سلمّ عليه، لم يردّ التحية ظل يتطلّع إليه ويحرك برأسه ويجول بعينيه على كل جسمه إلى أن وقعت عيناه على الأكياس. ابتسم ثمّ حوّل ببصره إلى النافذة وكأنه يبحث عن شيء.

أسند عادل ظهره إلى الكرسي في حزن يتذكر يوم كان يسكن بجواره، يستمتع بحديثه عن طلابه في الجامعة وعن مادة الفيزياء التي كان يدرّسها في ذلك الوطن الذي قدم منه قسرا، بعدما تغير كل شيء هناك. حتى السماء أصبحت دائمة القلق، والبحر واليابس في زنزانة أشبه بقفص الفئران. والناس تطارد خطواتها في ظل من انكسار، والخوف من الآتي يرتجف في ألم. بلاد أصابتها لعنة من عواصف لا أحد يعلم من أين تأتي هل من الشرق أو الغرب. كنائس ومساجد ومعابد تنزف في احتضار والموت سحابة من فوق رؤوس الناس مستلقية على جهلهم الأبدي. يمشون مهرولين بين الشوارع كمن يلاحقهم أحد، يتعثرون يتبعثرون في الفراغ. عقولهم مضطربة يمتزج فيها اشمئزاز بافتتان، وبين تطرف ويسار ويمين غرق الوطن في بحر من دموع وبرك من دماء. اغرورقت عينا عادل أمّا أبو تحسين فكان ينظر إليه بابتسامة ساخرة. هل كان يتذكر أيام كان يسكن بجواره، و كيف كان يستقبله بحرارة وكرم ذلك الوطن الذي قدم منه، ويهرول ليحضر له الشاي ثم يبدأ في الحديث عن الوطن متألما لأحداثها التي لا تزيد إلا تدهورا وهو يزداد تدمرا ونفورا.

كان ينظر إليه في حزن بينما هو يبتسم. تذكر حين كان يحدثه وينظر إليه بنفس تلك الابتسامة حين كان يزوره في شقته الأنيقة والمرتبة بعناية. وفوق التلفاز صورة لفتاة تحمل دبّا على ذراعيها. اشترى تلك اللوحة في إحدى معارض اسلو وماشدّه لتلك الصورة هو اسمها "السلام"، كان كل صباح ينظر إلى الصورة بابتسامة ساخرة: "متى يا فتاتي سيأتي ذلك اليوم الذي تحملين فيه دبا من غير أن يفترسك. " وفي كل مساء كان يجلس على أريكته المريحة ،يرتشف فنجان القهوة التركية و يتصفح الجرائد العربية التي كان يستلمها مرة كل اسبوع ، وحين ينتهي من قراءتها ينتظر سماع الأخبار من قناة الأناركو النرويجية، يلتفت بتتثاقل إلى النافدة ، ظلام قاتم ، صقيع يشل الروح، وأشجار ترجف أوراقها في صمت ذلك السكون. يوشح ببصره بسرعة عن رؤية المكان وينظر إلى التلفاز منتظرا الأخبار وكأنه بذلك يريد الهروب من ذلك المنظر البارد الذي يبعث في الجسم قشعريرة ، ليجد نفسه خارج المكان، وداخل انفجارات هنا وهناك لم تترك مسجدا ولا معبدا ولا كنيسة. ومظاهرات تنتشر كالفطر في مختلف العواصم وشباب تعتصم بسبب غلاء الخبز في حين أوطانهم تعقد صفقات تجارية لشراء اسلحة بملايين الدولارات. امتعض أبو تحسين، وبدأ يسب ويلعن الساعة التي وضعته أمه في غابة الإنسان. أقفل التلفاز وفتح المسجلة ليستمع إلى فيروز، أغمض عينيه ورحل بخياله إلى حيث الشمس والربيع وحيث الأطفال يلعبون كالفراشات يتنقلون في مرح والنساء تقطف الزيتون وتغني الزجل والرجال بعقالهم يشربون القهوة ويدخنون الشيشة، وحيث الحمام وكلمات فيروز التي تغني يا طير .... ذلك الطير الذي إن كان سيطير على أطراف الدنيا ، أن يخبر الأحباء عن حاله، أن يسألهم عن من له أنيس مجروح بالهوى، وعن وجع لا يستطيع البوح به، عن طائر أخذ معه لون الشجر ولم يبق إلا الانتظار والضجر، ينظر بعين الشمس على درب الحجر، ملبّكا وأيدي الفراق تهدّه لأيام تشبه بعضها، يتوسّل للطير إن كان سيذهب عند الاحباء أن يأخذه لهم ولو دقيقة ويرجع به إلى حيث يقيم.

أختلط صوت فيروز الحالم وكلماتها المؤثرة بإيقاع الهارد الروك الصاخب آتيا من شقة جاره كارل ، وصوت أناشيد من بيت كريم. إيقاعات تتزايد ارتفاعها آتية من يمين ويسار الجدران وكأنّ تلك الإيقاعات الصوتية تتحدى بعضها في الصخب. وضع أبو تحسين القطن في أذنيه، ومازال الصراخ عاتيا في فضاء المكان، أزال القطن ووضع سبابتي يديه، ليحجز تلك الأصوات التي كانت تجتاح طبلة أذنيه ولكن بدون جدوى. وقف كالملسوع من مكانه مسرعا يطرق شقة كريم. فتح الابن الاكبر الباب ، فوق رأسه طاقية بيضاء من الصوف ولحيته كثيفة متجعدة.

 السلام عليكم يا ابني، هل يمكن أن تخفض من صوت النشيد؟

زمجر الشاب مخاطبا بنظرة تنم عن اشمئزاز:

ألم يعجبك صوت هذا النشيد؟ ماذا عن تلك الأصوات التي تأتي من تلك الشقة، راضيا عنها، أليس كذلك؟ يبدو أنك مندمجا حتى النخاع.

وأغلق الباب.

أما أبو تحسين فوجد نفسه وراء الباب يسبّ بكل لغات العالم، ولم يبق شيئا إلا ولفظه عن ذلك الكابوس القائم. استدار ساخطا يطرق شقة كارل، فتح الابن الباب، كان يبلغ من العمر سبعة عشر عاما، مليئ البدن، كل شيء كان يرتديه اسود اللون، وشعره طويل مسدول على كتفيه الشديدة البياض ولون أظافره الطويلة مصبوغة بنفس اللون وفي منخاره حلقة من المعدن الأبيض كالثور.

سأل مقطبا عينيه:

 ما الأمر؟

 هل يمكنك يا ابني أن تخفض من صوت الموسيقى؟

ضحك:

 وماذا عن أصوات تلك الأناشيد التي تخرج من ذلك الباب كالنواح؟ أو أن ذلك الصرير يعجبك؟

هل يمكنني أن أتحدث إلى والدك؟

 ليس بالبيت. اسمع لقد تعبنا منكم ومن جيرتكم، إن لم يعجبك المكان فارحل من هنا.

وأغلق الباب.

دخل أبو تحسين مطأطأ الرأس إلى شقته، ينظر إلى روحه المعلقة في الضياع، بحثا عن دفء عن سلام، عن سكون. يبكي غضبه البائس وظلّه الحزين الذي يطفو في وهن بتلك الشقة الصغيرة، ووحشة تنهشه في ذلك الصخب الموحش الذي يبعث رائحة منقوعة بعزلة من عتمة جثمت على جسده الثقيل فهوى على أريكة الذاكرة حيث كل الآمال والأحلام تناثرت بائسة على خيبة انتظارها العاجز. سئمت الرحيل والترحال بين كرّ وفرّ وهروب من حرب تمزّق الأجساد لأعيش حربا تمزق الروح! كيف لي وفي كل مكان أغدوا أجد أمامي كارل وكريم؟ يتبعاني كظلي أينما حليت وارتحلت. شخصين مستحيلين غريبين الأطوار حولا البناية إلى جحيم مستديم. والعجيب الغريب أنهما يشبهان بعضهما في الشكل وكأنهما توأم. يشتركان تقاسيم الوجه، نفس القامة وطول اللسان. إلا أن كارل أشقرا وكريم حنطي اللون. فلسفتهما في الكره واحدة. كل له أتباعه وتستمر الحكاية حرب داحس والغبراء بين هذين المخلوقين في صورة انسان في جميع الأحياء والمدن وفي الشرق والغرب وحتى في حي هلمليا حيث أسكن. ذاك يتشدّق عن الإندماجية والآخر يحرّض عن الإنتمائية ونحن بين فلسفتهما تائهين. فريق يلتزم الصمت وفريق يحرسه الجبن، وتجري من فوقنا الأيام لتتلوها أخبار على مدار الساعة في التلفاز. جيش يتربص ... مجموعة تهدد ...كارل يقذف قنابل من كلام وكريم يرد عليه برشاش من تهديد، وجاء أخيرا السيد فرج يخبر الجميع بأن السلام لا يمكن أن يعم زمانا ولا مكان، لا في الشرق ولا الغرب إلا بترحيل كريم ليحيا السلام، وأنه مستعد لأخذه بسيارته الخاصة إن لم توجد سيارة أجرة لأخذه إلى المطار.

اشتعلت الأحياء نارا والمدن بركانا وزلزلت أماكن في دول عن حكاية كارل وكريم وتكرر سؤال في الإعلام "هل نعتذر عن حرية التعبير؟" أما أبوتحسين المعتوه، تلك الليلة سيخرج من شقته، حاملا حقيبته من بكاء وصراخ مكتوم يحترق في جوف روحه بحثا عن الجوهر المفقود متسكعا في الشوارع وبين الأزقة ، ومن قافلة إلى أخرى يجوب البلاد طولا وعرضا على أنقاض عمره يبحث عن صورته المعلّقة عن السلام. وأحيانا أخرى باستهجان وشفقة من مكر الحياة له في طرقات قادته إلى المنافي والعتمة التي رافقته متهاوية عليه من الأعالي.


أي رسالة أو تعليق؟

مراقبة استباقية

هذا المنتدى مراقب استباقياً: لن تظهر مشاركتك إلا بعد التصديق عليها من قبل أحد المدراء.

من أنت؟
مشاركتك

لإنشاء فقرات يكفي ترك سطور فارغة.

الأعلى