الثلاثاء ٢٩ آذار (مارس) ٢٠١١
بقلم عادل سالم

الطريق إلى الولايات المتحدة

لم تستمع سحر لنصائح صديقاتها، وأهلها، وصممت على الزواج من سامر، فهو الوحيد الذي اختاره قلبها، وكما قيل سابقا: القلب وما يهوى.

فشلت كل محاولات والدها في إقناعها برفض سامر والقبول بابن عمها فتحي، فانصاع لطلبها حتى لا تحصل المفاجأة وتهرب مع سامر.

مرت السنوات، وأنجبت سحر أربعة أطفال، ولدين وابنتين (سامي، سعدي، سميرة، سمر). كانت سعيدة بزواجها، وطالما تباهت أمام أهلها وصديقاتها بأن اختيارها لسامر كان صائبا.

بعد ١٢ سنة، ساءت الأوضاع الاقتصادية في فلسطين بسبب إغلاق الاحتلال الإسرائيلي لمدن الضفة الغربية بعد تفجر الانتفاضة الثانية، وأصبح سامر الذي كان يعمل كسائق سيارة تعمل على خط القدس- رام الله عاطلا عن العمل.

مرت الشهور، صرف فيها سامر كل مدخراته وأصبح يستدين من الناس ليصرف على البيت، فقرر السفر إلى الولايات المتحدة لعله يجد عملا هناك يحل ضائقته الاقتصادية. شرح الوضع لزوجته فوافقت مكرهة بعد أن عانت من تدهور وضعهما الاقتصادي.

بعد حصوله على الفيزا، غادر سامر رام الله، بعد أن وعد زوجته بسحبها إلى الولايات المتحدة مع الأولاد بعد أن تتيسر الأحوال، فودعته وودعه الأولاد وأهلهما.

وصل سامر إلى شيكاغو، وهناك وجد عملا لدى أحد البقالات العربية، حيث وافق صاحبها العربي على تشغيله مقابل ثلاثمئة دولار نقدا أسبوعيا على أن يعمل سبعة أيام في الأسبوع من العاشرة صباحا حتى العاشرة ليلا. كانت ساعات عمل شاقة، والأجرة متدنية مقارنة بعدد ساعات العمل في الولايات المتحدة، لكنه، قبل بذلك فهو بدون بطاقة الإقامة ولن يجد شركة تقبل به.

سكن سامر في شقة مع أربعة من الشباب العرب الذين يعملون سرا مثله وكان يتقاسم معهم أجرة الشقة، ومصاريفها الأخرى مثل الكهرباء والغاز والتلفون محاولا توفير أكبر قدر ممكن من راتبه، بدأ يرسل لزوجته ٢٠٠ دولار شهريا، ويوفر الباقي. بعد فترة وعندما زادت خبرته في العمل والبلد انتقل للعمل في محل آخر يدفع ٤٠٠ دولار أسبوعيا ويمنحه عطلة أسبوعية. تحسنت أحواله الاقتصادية بعد شهور فأصبح يخطط للمستقبل، كم سيوفر ومتى سيكون لديه محل تجاري ومتى سيشتري سيارة وبيتا و.....

بعد شهور من العمل المتواصل وافق على دعوات أصدقائه في الشقة بالسهر معهم في نهاية الأسبوع فأخذوه إلى أحد النوادي الليلية التي تضج بالنساء من كل الأنواع. بهر سامر بذلك، وخلال دقائق كان يرقص مع إحداهن. تكررت سهراته حتى أصبح يذهب لوحده بعيدا عن عيون أصدقائه. ولم يمض وقت طويل حتى اتفق سامر مع إحدى الفتيات الأمريكيات على الزواج. فاتصل يقنع زوجته سحر على الطلاق (صوريا) ليستطيع الزواج من جولي لأن الطريق إلى الحصول على بطاقة الإقامة لا يتم إلا بالزواج من جولي وبعد ذلك يمكنه إحضارهم إلى الولايات المتحدة.

عارضت سحر في البداية، ولم تصدق أن الطريق إلى أمريكا لا تكون إلا عبر أحضان جولي!
 سامر ستزوج علي؟
لكنها وافقت عندما طمأنها أن زواجه من جولي على الورق فقط. فوافقت وأرسلت له وثيقة الطلاق.

تزوج سامر من جولي، وانتقل للسكن معها في شقتها بعد أن ودع أصدقاءه. وكانت أولى ثمار زواجه منها حصوله على إذن بالعمل والموافقة على منحه بطاقة الإقامة، فانتقل للعمل مع شركة نقليات، وتحسنت أحواله الاقتصادية. لم تكن سحر تعلم أن زوجها سامر يسكن مع جولي فقد كانت لا تعرف سوى رقم هاتفه الخلوي الذي كان بجانبه دائما، وعندما اتصلت به في أحد المرات وردت عليها جولي جن جنونها وسألته:
 هل أنت عند زوجتك الجديدة؟
فيجيبها:
 لا تقلقي يا سحر أنا أتابع معها بعض الأوراق، فالقانون الآن ليس كما السابق فكل من يتزوج أمريكية عليه أن يبقى معها سنتين قبل حصوله على بطاقة الأقامة الدائم، وخلال هذين العامين إن طلقها أو هي تركته تستطيع أن تسحب منه بطاقة الإقامة المؤقت.
 عامان؟
 ماذا أفعل عليك الصبر يا سحر، من أجل الأولاد والمستقبل.

جولي الأمريكية ليست مثل سحر الفلسطينية، فقد كانت تصر على السهر كل أسبوع، وأحيانا تذهب معه إلى أحد القوارب الكبيرة (سفينة) في بحيرة ميتشغان والتي تضم كازينو للقمار، كانت البداية اللعب على الماكينات بربع دولار، كان يتسلى معها ويخسر خمسين دولارا ليعود آخر الليل مسطولا من الخمر الذي بدأ يتعود عليه.

السهر في الكازينوهات مع جولي له سحر خاص لم يستطع سامر أن يقاومه خصوصا بعد أن كسب بعض المال، فبدأ يشارك في لعب البلاك جاك ثم الروليت، ثم البوكر، وليته لم يفعل فقد صرف في شهور قليلة كل ما وفره، وأصبح عاجزا عن إرسال المبلغ الذي يرسله إلى سحر كل أسبوع. وكلما توفر معه مبلغ بسيط عاد إلى طاولة القمار.

وعندما سألته سحر عن الفلوس، اضطر إلى الكذب عليها بأنه فصل من العمل، وطالبها أن تجد عملا في رام الله أو تستدين من أهلها:
جن جنونها فقالت له:
 لماذا لا تعود إذن؟
 هل جننت؟! اصبري سأجد عملا قريبا.

لم يعد سامر يتصل بها كل عدة أيام كما كان سابقا وزاد إدمانه على القمار، وأنجبت له جولي ولدا سمته مايكل. بعدها طلب منها أن تتوقف عن الإنجاب حتى تتحسن أحواله.

استدانت سحر بعض المال من بعض أقاربها الذين توهموا أن سامر سيرسل لها الفلوس قريبا من الولايات المتحدة. لكنه لم يرسل لها سوى مبلغ صغير يكاد يكفيها مصاريفها، فاضطرت مجبرة على العمل وأرسلت ابنها سامي للعمل لدى إحدى كراجات السيارات بعد أن ترك المدرسة، كان عمره ١٥ سنة.
كل مرة كان سامر يتصل، كانت تسأله سؤالها المعهود؟
 متى سنحضر إلى طرفك؟
كان يقول لها:
- بعد الحصول على بطاقة الإقامة الدائمة.
ولكن بعد حصوله على بطاقة الإقامة الدائمة أصبح يقول لها بأنه سيسحبهم بعد حصوله على الجنسية الأمريكية.
 حبيبتي، إذا طلقتها الآن سأحصل على الجنسية الأمريكية بعد ٣ سنوات من الآن. وإذا بقيت متزوجها سأحصل عليها بعد سنة ونصف من الآن.
لذلك اصبري قليلا فالجنسية مكسب لنا والأهم يا سحر عندما أقدم لكم الأوراق الآن لدائرة المهاجرة فقد يستغرق ذلك سنتين أو أكثر ولكن عندما أقدم للمهاجرة أوراقكم وأنا أحمل الجنسية الأمريكية سيتم ذلك بوقت أسرع ربما شهران.

سكتت سحر فلم يكن لديها خيار آخر. كل الخيارات في وجهها أغلقت، وتمنت لو لم يسافر زوجها إلى أمريكا.
 ليته يعود، ليته لم يسافر. ماذا حصلنا من أمريكا سوى الوعود الكاذبة؟

مرت السنوات وحصل سامر على الجنسية الامريكية وقرر التخلص من زوجته جولي التي حكمت المحكمة لها بحضانة الولد وألزمت سامر أن يدفع لها 800 دولار شهريا بدل حضانة ابنه مايكل.
بعد حوالي 6 سنوات من دخوله أمريكا قرر زيارة رام الله ليعقد قرانه من جديد على سحر ويقدم لها الأوراق اللازمة ليسحبهم معه إلى أمريكا بلد السمن والعسل.

فرح الأولاد بعودة والدهم بعد هذا الغياب الطويل، وكانوا سعداء بالهدايا التي حملها لهم. وشعرت سحر السعادة، بعد أن استردت زوجها وعاد إلى أحضانها.

قدم سامر كافة الوثائق الرسمية للهجرة إلى القنصلية الأمريكية لزوجته سحر وجميع أولاده وبناته، ثم عاد إلى الولايات المتحدة ليتابع أعماله حتى تنتهي الإجراءات الروتينية وتستدعي القنصلية العائلة لمنحها فيزا الهجرة التي ينشدونها.

وأخيرا جاءت الموافقة، فرحت سحر والأولاد فقد حصلوا على الفيزا. سيهاجرون جميعا إلى الولايات المتحدة.

الناس تفرح بالعودة إلى الوطن ولكن بعضهم يكون أكثر فرحا بالهجرة منه. ما أقسى أن يفرح الناس بالهجرة من أوطانهم. إنهم يتنكرون لترابه الذي احتضنهم، إنهم كمن يتنكر لأبيه وأمه وطفولته وجيرانه.

حضرت سحر الحقائب واشترت التذاكر وترك سامي العمل لدى الكراج فقد أصبح حِرَفَيّا في تصليح السيارات ووعده أبوه أن يفتح له محلا لتصليح السيارات هناك.
 ستكون غنيا، فتصلح السيارات في أمريكا يدر فلوسا كثيرة.

قبل هجرتهم بأسبوع اقتحمت القوات الإسرائيلية رام الله، وبعد عمليات تخريب واسعة اعتقلوا عددا من الشبان كان سامي أحدهم. فاتصلت سحر تبكي لزوجها:
 الحق يا سامر اعتقلوا سامي، سامي في السجن.
غضب سامر، وسألها:
 لماذا في السجن؟
 يقولون إنه مع المقاومة.
 مع المقاومة؟ وماذا يفعل مع المقاومة؟ ما له وللمقاومة.
سألته:
 ألن تحضر لمتابعة قضيته؟
 وماذا سأفعل أكثر من توكيل محام؟ وكلي أحد المحامين وسأرسل لك بعض المال، لا بد أن يطلقوا سراحه بعد فترة.

أجلت سحر والأولاد سفرهم. لكن سامي ظل في السجن فقد حكمت المحكمة عليه بالسجن خمس عشرة سنة.
 كل هذا منك يا سحر، لو ربيته بشكل جيد لما التحق بهم.
 أنا يا سامر؟ أنا التي كنت أعمل وأربي الأولاد وأنت مع جولي.
 لقد كنت أتابع مستقبلنا، لأحصل على الجنسية الأمريكية لكم جميعا.
 وماذا ستفعل الآن؟! ألن تعود؟
 يا سحر، هنا مستقبلنا والحياة أفضل وأكثر أمانا. لو كان سامي هنا لما حصل له ما حصل.
 وهل سنتركه وحده بالسجن؟
 يا سحر نحن لم نتركه. سنزوره كل سنة مرة، إنها (١٥) سنة، ماذا سنفعل؟ هل نضيع مستقبل العائلة؟! أكيد سيتفهم الوضع فهو شاب، ليتحمل نتائج غلطه.

وافقت سحر على مضض، فبقدر حبها لابنها وحرصها أن تزوره، فهي لا تريد لسامر أن يبحث عن جولي جديدة، ما الذي غير سامر بهذا الشكل؟ كان يقود المظاهرات أيام شبابه، وهو الآن يلوم ابنه لأنه التحق بالمقاومة «ليتحمل نتائج غلطه»؟

بعد شهر كانت سحر والأولاد في طريقهم إلى الولايات المتحدة بعد أن ودعوا سامي في السجن. كانوا متلهفين إلى رؤية بلد الكابوي، والجنة الموعودة فيما كان سامي حزينا في سجنه على عائلته الذين تركوه وحيدا خلف القضبان. الاحتلال يعاقب المناضلين بأسرهم، والأهل يعاقبونهم بهجرتهم.

بعد وصولهم بأشهر اشترى سامر محلا صغيرا (بقالة) وشغل معه أولاده وزوجته لتوفير أجور العمال. وكان يقسم العمل بينهم، الزوجة في الصباح والأولاد بعد الظهر بعد عودتهم من المدرسة، كانت سميرة التي تجاوزت ست عشرة سنة تعمل في محل والدها كل يوم سبت، حيث علمها كيف تحاسب الزبائن وتستخدم الماكنات بما فيها الكاش رجستر التي تدخل عليها أسعار الحاجيات.

في أحد الأيام بينما كان أبوها مشغولا بالخلف يعبئ الثلاجات بالكولا والبيبسي، دخل إلى المحل شخص ملثم وجه مسدسه بسرعة إليها وصرخ بها:
 لا تتحركي، (سْتِكْ أَب) تقشيط، افتحي الجرار بسرعة وضعي كل الفلوس في كيس قبل أن أفجر رأسك.
ارتعبت سميرة التي رأت المسدس على بعد مسافة قصيرة منها، حاولت فتح الكاش رجستر لكنها لشدة رعبها ضغطت على الزر الخطأ فأحدثت صوتا، فأطلق رصاصة تحذيرية.
 أسرعي ولا تضيعي الوقت وإلا سأقتلك.

سمع أبوها الصراخ فخرج يرى ما المشكلة، أحس الملثم خطوات من الخلف فاعتقد أنها طلبت النجدة من أحد، خاف أن يطلق أحد النار عليه، فأطلق على الفور النار على رأسها، ثم استدار وأطلق النار على والدها، ثم حمل الكاش رجستر كلها بعد أن سحب السلك الذي يربطها بالكهرباء وخرج إلى سيارة تنتظره في الخارج وغادر المحل وسط وجوم بعض الزبائن الذين شاهدوا الحادث من الخارج.

لحظات قصيرة كانت الشرطة تتابع الحادث، ونقلت سيارة الإسعاف المصابين إلى المستشفى، توفيت سميرة على الفور، فيما ظل الأب في غرفة الإنعاش حتى شهر كامل ثم أُعلن عن وفاته.

صعقت سحر لموت ابنتها وموت زوجها. جاءت إلى امريكا بلد السمن والعسل فلم تجنِ سمنا ولا عسلا. ليتها ظلت في فلسطين. ليتها ظلت بجانب سامي. تركوه وحيدا من أجل أمريكا. كانت أمريكا البريق الذي دفعهم للهجرة من أرض الوطن.
احتارت سحر، ماذا ستفعل الآن؟

هل تعود إلى رام الله وتترك قبري زوجها وابنتها هناك؟ أم تبقى في أمريكا وتترك سامي وحده خلف القضبان؟
لوعادت ماذا ستفعل هناك؟ ماذا ستشتغل؟ على الأقل هنا سيعطونها معاشا يعيل الأسرة، ستحصل على تأمين صحي، ربما تستطيع العمل لاحقا. وأهل رام الله كثيرون.

سألت سعدي وسمر ما رأيكما؟
قال لها سعدي:
 أريد العودة إلى رام الله فقد اشتقت إلى سامي.
أما سمر فقالت لها:
 أريد البقاء في أمريكا بجانب قبر والدي وأختي.
احتارت سحر ماذا تختار، كانت تعتقد أن الطريق إلى أمريكا سهلة جدا. ولكنها اكتشفت في النهاية أنها طريق مليئة بالمنحدرات والمطبات التي لا يعرفها إلا الذين ساروا بها من قبل.


أي رسالة أو تعليق؟

مراقبة استباقية

هذا المنتدى مراقب استباقياً: لن تظهر مشاركتك إلا بعد التصديق عليها من قبل أحد المدراء.

من أنت؟
مشاركتك

لإنشاء فقرات يكفي ترك سطور فارغة.

الأعلى