الأربعاء ١٦ آذار (مارس) ٢٠١١
بقلم عادل سالم

الجاسوس

عندما هبت المظاهرات احتجاجا على قيام أحد المستوطنين باطلاق النار قرب قبة الصخرة المشرفة، كان أحد المتظاهرين الذين رفعوا العلم الفلسطيني رغم أنه لم يكن من جيل الشبان الذين يقومون دائما بهذه الأعمال. كان الحدث عنيفا، هز الشارع الفلسطيني.

مستوطن يقتحم ساحة الحرم ويطلق النار، كيف دخل الحرم بالسلاح؟ ألم يره أحد؟ ألم يفتشه أحد؟ لا بد أنه دخل من الباب الذي يسيطر عليه أفراد الجيش الإسرائيلي الواقع في نفس الجهة التي يقيمون فيها طقوسهم والذي يسميه المسلمون باب المغاربة.
بعد يومين كان فريد معتقلا لدى المخابرات الإسرائيلية، اتهموه بأنه يحرض على الإرهاب والكراهية وأنه سبب جرح أحد الجنود؟
 أنا؟
 نعم أنت، أنت قذفت حجرا باتجاه الجنود.
 ولكن لم ألقِ حجرا على الجيش.
 بلى لدينا الشهود، ولدي صورتك وأنت ترفع العلم الفلسطيني، انظر في هذه الصورة، هذا أنت.

لم يصدق فريد أن صورته لديهم فلم يكن في الشارع صحفيون. قال لهم:
 نحن تظاهرنا احتجاجا على ما فعله المستوطن، لماذا سمحتم له بالدخول؟
 اخرس، هذا مواطن مختل عقليا، نحن لم نسمح له بالدخول، ثم إن مهمة الأمن مهمتنا وليس مهمتك.

كانوا عدة أفراد من رجال المخابرات استغلوا كبر سنه وقلة معلوماته فقد كان فريد في نهاية الأربعين من عمره ولديه خمسة أولاد وبنتان.
نظر مسؤولهم بهم جميعا ثم بدأوا واحدا واحد يهاجمونه بالأسئلة:
 إلى أي تنظيم تتبع؟
 أين تخبئ القنابل؟
 من دفعك لارتكاب الجريمة؟
 إنه مخرب، لدينا كل الإثباتات ضده.
 سيدخل السجن.
 سنحكمه عشر سنوات.
 سيظل أولاده دون أكل ويموتون دون أن يسأل عنهم أحد.
 ستفتش زوجته عن رجل آخر، هل ستنتظره عشر سنوات؟
 سيخرج عقيما.
 لن يستطيع أن يعاشر امرأة.
 هذا إن خرج.
 الكلب سنلقنه درسا، أعطني القيود؟

فتح أحدهم الجرار وأخرج قيدا (كلبشات) قيده بها، جعل يديه إلى الخلف. تقدم آخر ووضع كيسا على رأسه لم يعد يرى شيئا، ثم بدأوا يركلونه وقد سيطر عليه الخوف من كل الاتجاهات. لم يعد يعرف بماذا يفكر. من أين أتت عليه كل هذه المصائب؟
عشر سنوات سجن لأنه اشترك لأول مرة في مظاهرة؟
 يا رب أين أنت؟ لقد تظاهرت احتجاجا على اقتحام مسجدك من أحد المستوطنين وإطلاق النار. أهذا جزائي؟ لعن الله اليهود، وأعد لهم جهنم.
عشر سنوات. من سيطعم أولادي الخمسة وزوجتي؟

بدأ يحلف لهم الأيمان أنه بريء وأنه اشترك في مسيرة فقط ليس له علاقة بالارهاب، فتدخل أحد المحققين وقال بصوت يبدو عليه الرحمة.
 يمكن أن نعطيك فرصة، إذا وافقت على شروطنا.
 ما شروطكم؟
 تشتغل معنا؟
 جاسوس يعني؟
 لا لا تسميها جاسوسية.
 وماذا إذن؟
 سنرسلك في مهمة بسيطة لتنفذها.
 وما هي.
 ستذهب إلى نقابة العمال بصفتك عامل في مخبز وتسجل هناك كعضو، وتزور النقابة كل يوم تخبرنا عن النشاطات التي تقوم بها نقابة العمال وعن أية تحركات عمالية، سياسية هناك.
 وماذا بعد؟
 إذا سمعت أحد الناس يتحدث عن الإرهاب تبلغنا.

تردد فريد في الموافقة، فقال أحد رجال المخابرات لزملائه:
 هذا فريد لا يصلح لهذه المهمة، لنسجنه عشر سنوات. ونرسل غيره ليأتينا بالأخبار. كيف نعفو عنه مقابل خدمة تافهه؟! سيأكله الدود في السجن. سيموت أولاده جوعا فيما الزعماء يعيشون في قصور.

حسم فريد أمره ووافق على طلبهم.
عشر سنوات سجن ستكون كارثه عليه.
فك أحدهم قيوده، فيما رفع الثاني الكيس عن عينيه فشعر كأنه عاد إلى الحياة من جديد.
بقي معه محققان وخرج الباقي.
سمح له بالجلوس على الكرسي، أحضر أحدهما له كأسا من عصير الليمون، فيما قدم له الآخر سيجارة، وقال:
 سيد فريد، لقد اخترت الطريق الصحيح، لا تترك التطرف يسيطر عليك، نحن مهمتنا الحفاظ على الأمن. سنفرج عنك الآن، وعليك تنفيذ ما طلبناه منك بدقة، ستتصل يوميا برقم هاتف سأعطيك إياه من أي هاتف عمومي وتتحدث معي، وتنقل لي الأخبار المطلوبة وسأكلفك بالتوجيهات أولا بأول.
صمت قليلا فقال الثاني:
 حتى لا يخدعنا عليه التوقيع الآن على ورقة بخط يده.
قدم ورقة فارغة، وقلما وأملى عليه أن يكتب:
(أنا الموقع أدناه …… حامل هوية رقم ……… أوافق على العمل لصالح المخابرات الإسرائيلية وسأنفذ التعليمات بدقة
التاريخ التوقيع)

قال له المحقق الأول:
 هذه الورقة إذا خالفت أوامرنا سننشرها للناس حتى يقتلوك.
أحس فريد أنه ورط نفسه، فإما التجسس وإما السجن عشر سنوات.
خرج مسرعا إلى زوجته وأولاده، عانقهم جميعا وبكى فرحا بعودته سالما. كان يعتقد أنه لن يراهم أبدا.

كان فريد لا يتردد بنقل الأخبار أولا بأول. فإذا سمع عن ندوة، أو محاضرة، أو احتفال نقل الخبر، وكان يحظى بتشجيع مسؤول المخابرات فيما فريد يشعر أنه يغرق كل يوم في الوحل أكثر وأكثر. وكلما أراد أن يتوقف عن تقديم المعلومات هددوه بتلك الورقة التي وقع عليها فيتراجع، ويذعن للأوامر.

«ما أصعب الخيانة، وما أسهل الوقوع بها، إنها مثل إبرة (حقنه) المخدر، تشعر بالألم الناتج عن اختراق الإبرة للجلد وما أن يستقر المخدر في جسمك حتى تفقد السيطرة على نفسك، تصبح ملكهم. يفعلون بك ما شاءوا.
لا احد يملك رفع هذا السيف المسلط على رقبتك، أنت مجرد آلة تتحرك وهم يوجهونها. لماذا يا رب حصل هذا معي، فأنا رجل مسكين، مالي وللسياسة.

أخرجني أبي من المدرسة وعمري عشر سنوات. أكاد أعرف كتابة اسمي، أرسلني للعمل فرانا في أحد المخابز ومنذ ذلك التاريخ وأنا فران، أعمل ليل نهار لإطعام أولادي.»

بعد شهور، كان فريد يعرف جميع أعضاء النقابة وصديقا لبعض النشطاء هناك. أحد الشباب المقربين منه كان يدعوه لزيارته في البيت ويحاوره في شؤون الحياة، وبعد أن ارتاح له صديقه الجديد جمال عرض عليه العمل في إحدى المنظمات الفلسطينية تردد فريد في الموافقة، فكيف يعمل معهم وهو يتجسس عليهم؟

احتار في أمر صديقه جمال فعلاقته معه جيدة. هل يخبر المخابرات بما عرضه عليه أم يتجاهل الأمر؟
بدأت الوساوس تهاجمه:
(ماذا لو كانوا هم الذين أرسلوه، وعرفوا أنني لم أبلغ عنه، ستكون مصيبة).

حسم فريد تردده وأبلغ المخابرات بما عرضه عليه جمال، فطلبوا منه انتظارهم في مكان حددوه له وهناك جاءت سيارة تحمل المحقق المسؤول (روني) الذي طلب منه الصعود إلى السيارة، وأخذه إلى مطعم في القدس الغربية وطلب منه الموافقة على عرض جمال، ولكن عليه في البداية أن يتردد حتى لا يشك جمال بأمره.

وبالفعل نفذ فريد الأوامر بدقة، وبعد فترة كان عضوا بالتنظيم. وبعد اطلاعه على سياسة التنظيم وأهدافه وجد فريد نفسه في خلية حزبية مع أربعة من العمال الآخرين الذين كانت مهمتهم تنظيم العمال وتوعيتهم وإشراكهم في العمل السياسي ضد الاحتلال الإسرائيلي. كانوا يجتمعون أسبوعيا، يناقشون بعض الأمور وقرارات القيادة العليا، وجزء من برنامج التنظيم السياسي، ويوزعون المهمات على بعضهم.

كان المحقق روني سعيدا بإنجازات فريد، لقد أصبح يعرف ما يدور في داخل التنظيم، ولديه كافة المعلومات عن أية تحركات قريبة.

بعد سنة من الحادث أصبح فريد موضع ثقة أكبر لدى جمال فطلب منه نقل رسائل سرية من التنظيم في فلسطين إلى القيادة في الأردن، فوافق فريد على ذلك وتكررت زيارته إلى الأردن، فأعجب المسؤولون بالأردن من شجاعته وبعد فترة بدأ فريد ينقل الرسائل بالاتجاهين، فقررت المخابرات هنا إنهاء مهمة جاسوسها وفتح الرسائل التي يعود بها من عمان، وحتى لا تكشف أمره اعتقلته على جسر أريحا وهو في طريق عودته إلى القدس حاملا معه كمية كبيرة من الرسائل في جوفه.

فريد في السجن. صعق جمال من الخبر، فهو بانتظار الرسائل التي يحملها.
(لا بد أنه سيتلفها الآن، لا لن يسمح لهم بالوصول إليها)

كانت المعلومات بالرسائل غنيمة لدى المخابرات، فاعتقلوا عددا من المسؤولين ومنهم أفراد الخلية التي يعمل معها فريد، وعندما ووجهوا بتفاصيل كاملة عن عملهم وأسمائهم الحركية فوجئوا واعترفوا بالتهم الموجهة لهم. لكن جمال أصر على إنكاره فحولوه إلى الاعتقال الإداري. أما فريد فقد حكموا عليه بالسجن لمدة عامين حتى لا يكشفوا أمره وليتابعوا معه التجسس داخل السجن.

لكن جمال لم يصدق ما جرى، وبعد نقاش مع زملائه في التنظيم اقتنع أن فريدا كان جاسوسا عليهم.
(فريد جاسوس؟! كيف قَبِلَ أن يلطخ شرفه وسمعته؟ كيف سيواجه أولاده الوضع أمام زملائه الطلبة في المدارس؟ ابنه سعيد طالب بالثانوية وهذه سنته الأخيرة، إنه أحد نشطاء الطلبة الوطنيين. أما ابنته فهي في الصف العاشر، والأولى في المدرسة باستمرار. كيف ستواجه الخبر الآن؟ ليت الآباء يفكرون في مشاعر أبنائهم وهم يرتكبون جرائمهم).

أنكر فريد تهمة التجسس عندما حقق معه رفاق دربه في السجن، لكنه بعد أيام اعترف بما نسب له. وقدم تقريرا كاملا عن كافة نشاطاته. عندما اعترف بكى بشدة، بكى بصدق، بحرارة. لأول مرة يشعر أنه يبكي بكل جوانحه، لأول مرة يشعر بالخزي والعار، لأول مرة يشعر أنه آن أوان التخلص من الإدمان الذي تعود عليه. كان كالسكران الذي يتمنى أن يصفعه أحدهم ليذهب أثر الخمر من رأسه، فيصحو من جديد.
 نعم أنا خنتكم، تجسست عليكم، خدعوني، وبعد أن ورطوني لم أعد أستطيع المقاومة، فقدت القدرة على الرفض كنت كآلة في يدهم تتحرك حسب أوامرهم. هددوني بالسجن عشر سنوات، صدقتهم، فسلكت الطريق الذي يكره كل فلسطيني شريف أن يسير به.

أنا مجرم، سافل، افعلوا بي ما تشاءون لكن، أرجوكم لا تظلموا أولادي، لا تقتلوا تلك الورود بأيديكم كما قتلتها أنا.

كان المسؤولون في التنظيم يدركون أن أولاده سيكونون ضحية أفعاله، وعندما انتشر خبر أنه كان جاسوسا، أصيب أولاده بصدمة، لم يصدقوا الخبر، لكنهم عندما زاروه آخر مرة قرأوا في عيونه اعترافه، بكى أمامهم، وقال لهم:
 سامحوني، ليتني سجنت عشر سنوات على أن أضعكم في هذا الموقف، لقد أخطأت، سأكفر عن خطئي. لا تعاقبوني مرتين، افسحوا لي مجالا للتوبة.

بعد الإفراج عنه، قرر فريد الانتقال للعيش في الأردن ليكون بعيدا عن مسرح الجريمة، فرغم إعلانه التوبة لكن نظرة الناس إليه لم تتغير. ولأن أولاده سوف يواجهون في نظرات الناس لهم ألف عقاب كل يوم. وبعد عامين من انتقاله للأردن، وعندما اطمأن أن ابنته تزوجت وابنه سعيد يعمل لدى إحدى الشركات وجدوه ميتا في اليوم التالي.
 هل انتحر؟ هل انتهى أجله؟
لم يعرف أحد السبب.
قال سعيد لإخوته وأمه:
 بموته انتهت حقبة من حياتنا. ليرحمه الله على إساءته لشعبه ولنا. لقد قضى على وجودنا في فلسطين، ولطخ شرفنا بالعار.
فقالت أم سعيد وهي تبكي.
 لقد خدعوه يا بني، أبوك كان ضحية من ضحاياهم، كان في حاله طوال عمره، لم يؤذ أحدا، ولم يعتد على أحد، يحب كل الناس، يحبه كل جيرانه، وقع في مصيدتهم، خاف منهم، لم يستطع تحمل تهديداتهم فانهار، الله يرحمه ويسامحه ويغفر له.
فقال ابنها الثاني محمد:
 يجب أن نعود إلى القدس، نحن بوجودنا هنا نحقق أحلام اليهود. أبونا ضحية من ضحاياهم ونحن كذلك، إنهم فرحون بهجرتنا، الأردن وطننا الثاني، أحبه وأحب شعبه، ولكن مكاننا هناك في القدس.
فقال له أخوه:
 كيف سنعود، وسمعة أبينا على لسان أقاربنا ومعارفنا وأصدقائنا؟
 سنغيرها.
 كيف؟
 الناس يجب أن لا يعاقبوا الأبناء بجريمة الآباء.
 ولكنهم لا يفعلون ذلك.
 فهل نستسلم لهم؟


أي رسالة أو تعليق؟

مراقبة استباقية

هذا المنتدى مراقب استباقياً: لن تظهر مشاركتك إلا بعد التصديق عليها من قبل أحد المدراء.

من أنت؟
مشاركتك

لإنشاء فقرات يكفي ترك سطور فارغة.

الأعلى