الثلاثاء ٧ كانون الأول (ديسمبر) ٢٠١٠
بقلم عبد الجبار الحمدي

ديدي

تتكتك أسنانها من شدة البرودة، دفئها الوحيد حرارة أنفاسها المتراخية، أعياها السير الطويل بحثا عن بقعة ملاذ دافئ، تسير وحيدة بعد ان لفظتها الأيام خارج بقايا ساعات دمار، تتعثر خطاها وانهمار الثلج يوشك ان يجعلها تمثال ثلج، ترى المداخن تبعث بالدخان عبر مواقد دافئة، يلتف حولها من في المنزل، حتى الكلاب والحيوانات الأليفة، وغير الأليفة لها منزل، إلا أنا، هكذا كان يدور بخلد ديدي، وهو اسم الدلع الذي كان يطلقه أخوها عليها، والذي مات وتركها بعد أن توفي والداها في تلك الحرب التي لا تعرف كم من السنين مضى عليها، هي على هذه الحال هائمة، لم تعي سرعة العربة التي كانت متجهة نحوها بسرعة، وما ان أدركت حتى وجدت نفسها قد طارت الى مسافة غير قريبة، بعد أن وقعت واصطدم رأسها بحافة سلم حديدي قديم، لم تتوقف العربة بل أخذت بالجري نحو طريقا المنشود هربا، ولم يهتم السائق لما أصطدم به وقد رآها قد تطايرت كقطعة قماش بالية، لم تشعر ما أصابها، بعد أن مضى عليها فترة من الزمن، لم يراها أحد فقد غطاها الثلج المتساقط، إلا من ذلك الكلب، الذي أخذ ينبح ويبعد الثلج عما وجده،

لاحظه صاحبه يحفر، اقترب من مكان وقوف الكلب وهو يزيل الثلج عن وجه فتاة صغيرة، صاح.. يا الله!! ما هذا؟ أبتعد قليلا محدثا الكلب، جثي على ركبتيه ليزيل الثلج عن وجه وجسد الفتاة، ومن ثم صرخة أخرى، يا إلهي!! ما هذا!؟ دم، أخذ الكلب بالنباح، تجمع بعض الأشخاص قرب السلم، والبعض نظر من شباك منازلهم، ليروا على ماذا ينبح الكلب، فإذا بهم والفضول يدفعهم إلى الخروج ليروا الفتاة وهي مصابة بعد أن أحمر لون الثلج، صاح الرجل.. الا يوجد أحد منكم يستدعي الطبيب؟ إنها صغيرة ويجب إسعافها، تكاد تتجمد أوصالها، أرجوكم النجدة، خرج أحدهم وبيده حقيبة قائلا:
أنا طبيب، هيا دعني أرى مدى أصابتها؟ فحصها قليلا وقال هيا احملها معي إلى المنزل، إنني اسكن في الطابق الثاني، هيا بسرعة، حملها الرجل مسرعا أمام الطبيب الى الطابق الثاني، وهناك قال الطبيب: تمهل الشقة على اليمين، فتح الباب قائلا: هيا أدخل بها، ضعها هناك على تلك الطاولة وابتعد، قام الرجل بوضعها وابتعد قليلا، كان الكلب قد سبقهم وبقي منتظرا عند الباب، تفرس الطبيب بوجه الطفلة وهمس، يا لها من مسكينة، ألا يوجد لديها أهل، هل أنت قريب لها؟ قال الرجل: لا .. لا أعرفها ..، لقد وجدها هنري، كلبي الذي توقف فجأة محاولا اخراجها، فلاحظت أنا ذلك، بعد أن تخلف عني في السير، وعدت ابحث عنه.. وها أنت تعرف الباقي، قال الطبيب: ان ملابسها رثة تدل على الفقر المتقع، لابد إنها تائهة، أو فتاة تستجدي في قارعة الطريق، ولكن أي مجرم هذا الذي صدمها وهرب!؟ أي حقير لا يملك ذرة من الرحمة يفعل هذا ويولي هاربا؟ لابد انه مجرم أو لص، لقد أصيب رأسها بجرح عميق، وقد نزفت بكثرة، وتحتاج إلى دم يجب نقلها إلى المشفى، أيها الطبيب.. أرجوك حاول إسعافها، وسأقوم بكري عربة حتى المشفى، وأرجو ان ترافقني، أنه عمل خير، وهي طفلة وأنت طبيب، فمتى يرونك معها سيكون الاهتمام بها مضاعف، أما أنا فكما ترى حالي، ليس لي القدرة على أجرة المشفى سيدي الطبيب، حسنا هيا بسرعة هات العربة لنمضي بها.

كانت مرهقة جدا، بعد أن أسعفها الطبيب إلى جانب الأطباء الآخرين، ونقل لها دم عوضا عن الذي فقدته، وكان صاحب الكلب أحد المتبرعين، بقي ملازما المشفى، حتى قال له الطبيب : لما أنت هنا؟ إنها بخير، ستتجاوز المحنة رغم انها فاقدة الوعي، إلا أن تمسكها بالحياة كبير، ستعود إلى وعيها غدا، هيا اذهب إلى بيتك، وعد في الغد ان شئت، حسنا يا سيدي.. كما ترى سأعود غدا، لقد شعرت بشيء غريب حين حملت هذه الفتاة، لا أدري!! لقد أحسست ببؤسها وعوزها وحاجتها إلى ملاذ، هذا ما قاله إلى هنري الكلب، وهو يحثه حين احتساء قدحا من الشاي أمام مدفئته في ذلك المنزل المترامي بعيدا عن المدينة، كان الرجل يعمل اسكافيا، هذا دأبه منذ سنين طويلة، لم يدخل أنفة في أي شيء او حدث، إلا هذه المرة، التي خالف قاموسه وقدم المساعدة الى تلك الفتاة، ولا يعلم لماذا؟؟ ثم أردف محدثا هنري، أتعلم!؟ يا صديقي العزيز، إن لم يظهر لها أحد، او ليس هناك من يسأل عنها، سأتولى رعايتها، هذا إن قبلت هي بذلك، ولم لا.. تقبل؟ قال في نفسه: هي ليس لها أحد، وأنا كذلك، لا أظنها ترفض ان تعيش معي في هذا المكان، صحيح هو مظلم بعض الشيء، لكني سأعيد ترتيب أضاءته، ما أن تبدي الموافقة على العيش معي، أليس كذلك يا هنري؟!! نبح الكلب وكأنه يبدي إعجابه برأي صاحبه، فاقترب منه ماسحا رأسه بركبتي صاحبه، لاعقا يده ثم نبح، فقال: نعم إنك على حق يا هنري، نحتاج إلى سرير هنا، حتى يمكنها أن تنام عليه، وسأقوم بشراء ملابس جديدة لها، والعناية بها كأنها ابنتي، وهنا خيم الوجوم، وتوقف الكلب عن الحركة، وصمت توماس، بعد أن تذكر ابنته، التي قضت نحبها قبل سنتين، فقد كانت في مثل عمر ديدي، دمعت عيناه، فقام بمسحهما معلقا، نعم مثل ابنتي سارة، نهض نحو الخزانة وفتحها، أخرج منها لعب أطفال وقال: أظنها ستحب هذا الدب؟ فقد أحبته سارة كثيرا، انه المفضل لديها دون الأخريات من اللعب، نبح الكلب، فقال توماس: نعم .. نعم .. ستحبك أنت أيضا يا هنري، فأنت صاحب الفضل الأول عليها وعلي، فأنت الذي وجدتها، وسأقوم بشراء بعض الطعام لك، حين تأتي إلى العيش معي، أعدك بذلك، تحرك المساء حثيثا باردا، موزعا الظلام مع طرود بريد باردة، جاعلا الجميع قانطين في منازلهم، إلا من بائعات الهوى، ومرتادي حانات الخمور، ولصوص الليل، حتى الشرطة قبعوا في مراكزهم، خوفا من برودة أوصال وثلوج متساقطة .
كان المشفى يخيم عليه السكون، إلا من مرور ملائكة رحمة، يحملن أهات وأوجاع مرضى في ردهات باردة رغم تدفئة، كانت ديدي تغط في عالم لا تدري اين موقعها هي فيه، طبيعة خلابة، وطيور مختلفة الألوان والأشكال، مياه عذبة، طعام لذيذ ملابس نظيفة براقة، وهي تحمل بيدها الميدالية تلك التي وهبتها أمها حين فراق لها، كانت تحمل نحت ملائكة أثنين، أحدهما للحماية، والآخر للحظ السعيد، ولكن يبدو أن حظهما قد نفذ، فبعد موت أمها فقدت كل أصناف السعادة والحماية، وها هي ألان مرمية في المشفى دون ان يتدخل احدهما في فعل شيء، لا ملاك الرحمة ولا ملاك الحماية، لكنها سعيدة بمسكها الميدالية، فقد كانت أثرا من أمها الحبيبة، التي كانت ملاذها في حياة، حملت عبق السعادة والحماية الى ان جاءت الدمار، فهذا شأن الحروب وما تخلفه، أخذ بؤبؤ عينيها بالتحرك، مع ابتسامة تعلو محياها، لاحظت إحدى الممرضات ذلك، لكنها لم تعير الانتباه، فقد كان هناك مريض آخر بحاجة لمسكن ألم، دخلت ديدي عالم السعادة في حلم طفولي، لم تألف ان الحياة يمكنها ان تكون بهذا الجمال والروعة، أحبت حلمها فغاصت الى ان ركبت أحصنة بيضاء، وعربة ذات أجراس، حين تدقها ترتفع الى السماء ناثرة النور في كل مكان، كان حلمها جميلا، لم تحب ان تخرج منه، ولم تعي انها قد قضت كل اليوم الماضي بليله الطويل وصباحه، وهي في غيبوبة، جاء توماس منذ الصباح الباكر ليطمئن عليها، سأل عنها؟ فقالوا إنها لا زالت في غيبوبة، فأجاب لكن الطبيب قال ستعود الى وعيها، قالت له الممرضة: هيا اذهب وانتظر هناك حتى يأتي الطبيب، جلس لوهلة بسيطة، كان كلبه قد جلس بقربه، فهمس له: سأذهب خلسة لأرها وأعود، لا تتحرك هنري من هنا.. أسمعت، هز الكلب ذيله وجلس في انتظار.

ذهب توماس الى ردهة المرضى، وجدها مستسلمة نائمة، أقترب أكثر، فقال: يا لله!! ما أجملها، وما أقربها بالشبه لحبيبتي سارة، انها سعيدة، هكذا كان محياها، إن الابتسامة واضحة عليه، أراد لمسها، ولكنه خاف ان يوقظها من حلم سعيد، قد تكون حرمت منه في حياة ماضية، تحرك حولها أكثر، تمحص بوجهها وهمس لها.. إنني أدعى توماس، وأنا أسكن وحدي، ولي ابنة تشبهك تماما فقدتها منذ زمن، وأحب ان أكون راعيا لك إن شئت؟ فتلك سعادتي، وصدقيني سأكون كأب لك إن رضيتِ، ولدي كلب يدعى هنري، سيعيش معنا أيضا، انه يحب الأطفال، وهو الذي وجدك، إنه في الخارج ينتظر ان تستيقظي، هيا يا ابنتي، قالها وأحس بعذوبتها، لم يكن يعلم أن الطبيب كان خلفه يستمع إلى حديثه معها، وفجأة انتبه! فقال الطبيب: لا عليك لعل حديثك هذا يسرع بيقظتها، فالأمل والحياة التي هي تتمسك بهم،ا قد يجعلانها تتماثل للشفاء وتستيقظ قريبا، كانت ديدي تعيش رحلة العربة بسعادة، وهي تشاهد الطيور تقترب منها وتحدثها وتغني معها، وكل ما تشتهيه كانت تجده أمامها، وهناك لاح لها أمها وأبيها وأخيها، عند حافة النهر، وهم يلوحون لها والسعادة بادية عليهم، لم يسعها الفرح والبهجة، نزلت بعربتها مسرعة نحوهم، توقفت وقفزت منها، لتصيح أمي.. أبي.. وأخي، يا لي من فتاة محظوظة، لقد عدتم لي من جديد، انني سعيدة، أين كنتم؟؟ لقد ظلمتي الحياة بعد فراقكم، يا لسعادتي برؤيتكم، أليس الحياة جميلة؟ إني أحياها كما أشتهيها، مدت يدها لتفتحها، وتخبر أمها إن ملاك الرحمة وملاك الحماية، قد برا بوعدهما، وأعادوكم لي، نظرت أمها الى يدها وتلك الميدالية، فقالت: ألا زالت معك ديدي، فقالت: نعم يا أمي، إنها معي منذ فارقتني حتى هذه اللحظة، ورفعت يدها لتقبل الملاكين، لتجد أن الميدالية قد انكسرت، وانقطعت سلسلتها، فصرحت أمي.. لقد انكسرت وتحطم ملائكتي، ماذا افعل؟؟؟

قالت أمها: لا عليك ديدي، كان الطبيب وتوماس يشاهدان التعابير التي على وجهها، وحالات الفرح والامتعاض والحزن، فقال توماس: ما الذي يحدث يا سيدي الطبيب؟ أرجوك أخبرني، لا أدري؟؟ لقد كانت مجرد انكسارات نفسية، ولكني الآن اشعر بفقدانها للحياة، يجب أن يكون لديها أمل في الحياة، لقد بدأت تفقده هذا ما أظنه، صرخ توماس لا يا سيدي.. لا يمكن أن تفقده، لقد أعطتني الأمل هي في الحياة من جديد، لقد حلمت بالأمس بعودة ابنتي سارة، إنها تشبهها إلى حد بعيد، نظر إلى الفتاة ممسكا بكتفيها، قائلا: أرجوك سارة عودي إلى الحياة، أرجوك انني لا استطيع المقاومة بعد الآن، لا يمكنني أن افقد الأمل من جديد، لا يمكنني أن أموت مرتين، استغرب الطبيب!! من تصرفه والهستيريا التي أصابته، فأمر بإخراجه، لكنه تمسك بالفتاة قائلا: لا يمكنكم اخذ ابنتي مني كالمرة السابقة، أرجوكم دعوني معها، بل دعوني أموت معها، استمر الصراخ والشد بينهم، وديدي بين أحضان أبويها وأخيها، سارت معهم، بعد أن رمت بالميدالية التي كانت تحرسها، ودخلت عالم اللاعودة.


أي رسالة أو تعليق؟

مراقبة استباقية

هذا المنتدى مراقب استباقياً: لن تظهر مشاركتك إلا بعد التصديق عليها من قبل أحد المدراء.

من أنت؟
مشاركتك

لإنشاء فقرات يكفي ترك سطور فارغة.

الأعلى