الثلاثاء ١٤ كانون الأول (ديسمبر) ٢٠١٠
بقلم مصطفى أدمين

الخدّاع

ساحة "جامع الفنا" بمراكش.

الساعة تقترب من الخامسة بعد الزوال. سيّاط الشمس الصيفية لا زالتْ مُحرقة، والفضاء الفسيح سائرٌ إلى الاكتظاظ بشتى أنواع الفنانين والمُتفرّجين. طبول فرقة "اﮔـْناوَة" تبعث في الفناء روحاً جديدة؛ ومزامير مروِّدي الثعابين تصيحُ في الأرجاء، فيرتدُّ صوتُها وكأنّه قادمٌ من "عرصة المعاش". أحد أفراد الفرقة المذكورة أبيض (؟!)
فجأةً، عويلٌ وانتحابٌ وصُراخ. رجلٌ يولول ويتمرّغ على الإسفلتْ؛ يتقلّبُ ويتوجّعُ ويبكي. عجيب! فهو يصرخ ويبكي ويقرعُ "طارة". هرول الناسُ جهتَه وتجمّعوا حوله، لكن... لا أحد استطاع أن يدنوَ منه أكثر، وأن يلمسَه ليعرف ما به. كان يبكي من غير دموع؛ وكان ينظر إلى الناس المتجمهرين بنصف عين ماكرة. وأخيراً قفز كالقرد في مكانه، وانتصب كمارد، وقال:

 إنّكم لجمهورٌ سيِّئ ! ما كنتُ في حاجة لهذه الخدعة لتجميعِكم لو كنتم حقّاً تُقدِّرون الفنَّ.

شرع الناس يضحكون، وقال أحدُهم:

 هذه الخدعة نقلتَها عن السيّد "باقْشيشْ"، فأيُّ فرجة أعددْتَ لنا أيُّها الخدّاع؟
ربّما هو شريكُه أو أحد المدمنين على الفرجة بساحة جامع الفناء (؟)

 اليوم جئتُكم بعدّة أدوار سحرية، ولن أقدِّمُها لكم حتّى تُلحّوا في طلبِها وتؤَدّوا ثمنَها مُسبقاً... إن لم تفعلوا سأجمِّع متاعي وسأتركُكم للهمّ.

 سنفعل. قال الرجل.

 يمكنُني أن أحوِّل أيّا منكم إلى امرأة... من منكم يتطوّع لذلك؟

يتقدّمٌ شابٌّ حسنُ الوجه، وتبدو عليه علاماتُ الذكاء والثقافة.

 حسناً! توسّطي الحلقة أيتُها الأخت... (ينفجر المتفرِّجون ضحكاً).
يُتابعُ الخدّاع:

 إذا كنتِ واثقةً من نفسِك، سوف أجعلُكِ تفقدين الثقة بها إلى الأبد؛ تفضّلي...
يتردّدُ الشابُّ (أو أنّه يُمثِّل التردّد).

 ... والآن؛ دعونا من المُزاح... هلْ أنتَ قادرٌ على الكشف عن عورتْك حالَما أُحوّلُك إلى امرأة؟...

يتراجعُ الشابُّ، فيحذبُه الخدّاعُ إلى وسط الحلقة، لكنّ الشابَّ ينجح في الإفلات من قبضتِه، ويلوذُ بالفرار.

رجلٌ رثُّ الحالة، يتقدّمُ ويقول:

 أنا لا أخاف.

تكتظُّ الحلقة. تلتحِق امرأةٌ وبيدِها قُفَّةٌ مملوءةٌ عن آخرها بالمشتريات: ثمر، جوز، زبيب، حِنّاء، أثواب، أحذية، لعب أطفال وأشياءٌ أخرى... سواك ومرآة... تقف بجانب رجل ليس له من شيءٍ سوى طولُه. تدُسُّ أنفَها في الحلْقة فترى رجلاً رثَّ الحالة يبكي ويتوسّل:

 أرجوك أيّها الخدّاع المحترم أن تعيدَني إلى الصورة التي كنتُ عليها (والناسُ يموتون من الضحك).

تندهشُ المرأة. يخرجُ الرجل/المرأة من الحلْقة. تسألُ المرأةُ امرأةً منقّبةً أمامها. تلتفتُ هذه الأخيرة وتخبرها شيئاً في أذنها. تضحكان في احتشام.

يعلو صوتُ الخدّاع.

الرجل/المرأة توقّف غير بعيد؛ ثم انخرط في حلْقة "طبيب الحشرات" المهرّج.

 والآن، سوف أجعلُ هذه الكُرة الحديدية تطفو على حرف هذا المنديل الأسود الذي كنقاب ذلك الرجل...

تحُطُّ الأعينُ على المرأة ذات النقاب... ويضحكون عاليا.

أمسكَ الخدّاعُ المنديل ومدَّده بين يديْه، فها هي كُرةُ "حديدية" تظهر وتتدحرجُ على حافّتِه تارةً، وتهُزُّه تارة أخرى وكأنّها تعتزم أن تطيرَ به؛ والناس يتعجّبون ويُصفِّقون.
أحدُهم كاد يسقطُ مظلّة مثبّتةً بين كوم من الحجارة، وتحتَها قارئُ أوراق "الكارطة" يكلّمُ زبوناً:

 ضع يدَك على هذه الرزمة من الورق وقُل (هذا قلبي) ثم على هذه وقُل (هذا تخْمامي) ثم على هذه وقُلْ (وهذا ما سوف يأتيني به الله)؛ ففعل الزبون، وفي نفس الوقت، علَتْ تصفيقاتُ الناس المتجمهرين حول الخدّاع.

هذه المرة كان يبلعُ البيض ويُخرجه من أيِّ مكان: من أذنِه، من قفاه، من جيب أحدهم، من أنفِه، من مؤخِّرته...

قارئ الأوراق يتأفّف ويقول ل"زبونِه":

 إخّْ من هولاء الخدّاعين؛ لا عمل لديْهِم سوى الضحك على ذقون الناس!..
ويسترسِل:

 ... أمامك سَفَرٌ طويل إلى أرضٍ بعيدة... وسوف تجلس إلى طاولة المخزن...(تظهر ورقة الصوطة/الفتاة)... وسوف تعثر على امرأة حياتِك...

في حلقة الخدّاع، تفرقعُ ضحكات الجمهور وتعلو تصفيقات حارّة...

صاحبة المشتريات نسيتْ القفّة تماماً، وانحنى الرجلُ المديد وحملها على رأسِه، وراح يتابع ما يعرضُهُ الخدّاعُ بالهُتاف دون التصفيق؛ في حين تمادَتْ المرأة المسروقةُ متابعة العرض الخِداعي... مرّة لم تشعرُ إلاَّ وهي تزغرد وتصلّي على النبيّ... كانتْ المسكينةٌ مفتونةً بمشهد الخدّاعِ وهو يغرزُ سيفاً في بطنِه ويستلُّها منه من دون أن تسيل منه قطرة دم.

قال الرجلُ لقارئِ الأوراق:

 ولكنّني متزوّجٌ ولي ثلاثةُ أطفال...

 هل تكذّب الورق؟... إذا كنتَ كما تقول، فهذا يعني أنّ المرأةَ التي على ذِمَّتِك ليست المرأة التي كان عليك تزوّجُها.

اكتفتِ المرأة المُنقّبة من الاستمتاع بالحلقة، وسلّتْ نفسَها برفق، وعندما صارتْ بعيدة عنها، خفضتْ نقابَها لكيْ تجفِّفَ وجهها من العرق، فبانَ لها شارب (!؟)
انتبهتْ المرأة لقُفَّتِها فلم تجدْها، فصرختْ:

 ويكْ وييكْ أعِباد الله ! القفّة متاعي ضاعتْ... سرقوها أولاد الحرام.
التفتَ إليها بعض الناس، وبدل أن يبحثوا لها عن قفّتها، راحوا يحدِّثونها عن حالات السرقة بالساحة، وهن وجوب الاحتراس من اللصوص، ثم عادوا إلى فرجتهم مع الخدّاع.

باحترام وودِّ مصطنعيْن، قال السارق للمرأة التي قعدتْ تبكي وتندب حظَّها:
 ألالاّ (يا سيِّدتي)... هل قُفَّتُك تشبه هذه قُفَّتي هذه؟ فأجابتك بنعم، فقال:

 والله إنّك لمُقصِّرةٌ في حقّ نفسِك وأهلِك؛ لو وضعتِها على رأسِك كما أفعلُ أنا ما سرقها منك أولادُ الحرام.

جفّفت المرأة عينيها واستجمعتْ وقفتَها لتتحقَّق من "قفّة" الرجل الطويل.

 لا حول ولا قوّة إلاّ بالله. قال اللصُّ؛ وعيناه ترقصان في محجريْهما؛ وانصرف.
قارئُ الورق استغلَّ الفرصة، ونادى المرأة:

 ألالاّ... احمدي اللهَ أنّ محفظة نقودِك ما زالتْ معك؛ تعاليْ... قد أكشف لك عن السارق الآن.

التفتَ الطويل وحدج "القارئ" بنظرة تهديد.

فأخرجت له المرأة ورقة نقدية، فنفخ في الورق، ودمدم عليه كلاما مُبهما، ثم كشفه، وقال لها:
 من سرقك رجل ذهب بقُفّتك إلى مركز الشرطة ذاك.

 هل يُعقل أن يذهب اللصوص إلى الشرطة بأرجلهم؟ سألتْ.

 كلُّ شيءٍ ممكنٌ في ساحة "جامع الفنا" يا سيّدَتي. للِّصِ أخٌ معتقلٌ هناك، ولقد ذهب إليه بالطعام... أعني بقُفَّتك.

نهضت المرأةٌ بسرعة وتوجّهت إلى "المركزية"، وجمع "القارئُ" أوراقه ومظلّتَه والتحق بالسارق الحقيقي؛ ثم انصرفا معاً.

والخدّاعُ ما زال ينتقل من دور إلى دور، والجمهور ما زالوا ينتقلون من جيبٍ إلى جيب، إلى أنْ استنفذوا تماماً عند حلول الغروب وانتهى العرض.


أي رسالة أو تعليق؟

مراقبة استباقية

هذا المنتدى مراقب استباقياً: لن تظهر مشاركتك إلا بعد التصديق عليها من قبل أحد المدراء.

من أنت؟
مشاركتك

لإنشاء فقرات يكفي ترك سطور فارغة.

الأعلى