الثلاثاء ١٤ كانون الأول (ديسمبر) ٢٠١٠
بقلم فلاح جاسم

«خرابيش» الغَجر

الغجر يخطفون الصغار، ويذبحونهم ويبيعون أعضاءهم، ويحنطون ما بقي من جثثهم، هذا ما كان يقوله لنا أهلونا عندما نحاول الاقتراب من "خرابيش" الغجر واللعب مع أولادهم، وبناتهم الشقراوات، ذوات الشعرالأجعد، الذي ربما لم يُغسل أبداً، حتى كما جرت عادتنا في الاستحمام للأعياد، أو ليلة الذهاب مع الوالد إلى المدينة، إذ يعتبر ذلك أهم الاستعدادات لليوم التالي، حيث نزور صديق والدي بعد التبضع وشراء ما يلزم.

كبرنا وأصبحنا فتياناً وشباناً، وكبر معنا الخوف من الغجر ... بقي ذلك الشعور يلازمني كلما شخصتُ إلى" خرابيش " الغجر.

جاءت جوقة من الغجر في أواخر الربيع إلى قريتنا، جميعهم شعث غـُبر، يحمل بعض رجالهم الربابة، ويتأبط البعض الآخر آلة "البزق".

كانوا يُحيون السهرات الراقصة في قريتنا، يعزف الآباء أو الإخوة وترقص الفتيات بغنج. لم أكن آبه لوجود هذه الفئة من البشر حتى ألحّ عليّ أخي الأكبر لحضور حفلة ليلة الخميس، حيث أن غداً يوم إجازة بالنسبة لي، بما أني المُعلم الوحيد في قريتنا، وأشغل منصب الأستاذ لجميع المواد والصفوف، والمدير أيضاً.

ذهبتُ إلى الحفلة، عند دخولنا انتفض من كان بالمجلس مرحبين بي، بما أني ابن وجيه القرية وأستاذها.

وجودي في صدر المجلس جعل الجميع يرمقني بنظرة مهابة، وخاصةً أني الوحيد الذي يرتدي الزى الإفرنجي "بذلة" أنيقة، مكوية، وكأنني لا أمتّ إلى جوّ القرية بـِصِلة.

وقعت عيناي على إحدى الفتيات المستغرقات بالرقص؛ فتاة فارعة الطول، طويلة الجيد، ناحلة الخصر، من غير ما سقم ولا مرض، ذات شعر أسود طويل، مسترسل، ينزل حتى يلامس عجيزتها، التي تهتز بجنون ٍمخطط له، ناهدة الصدر بشكل لافت للنظر، تنوء بحمل جبلين، بالكاد تستطيع إغلاق أزارير فستانها، ذي اللون السماوي، تفيض أنوثة وغنجاً، عندما تنظر إليها تكاد تحس بحرارة أنفاسها تجتاحك، وبتحدي ذلك الصدر.

رمقتني بنظرةٍ سريعةٍ، فأحسست شعوراً بداخلي كتلامس أسلاك الكهرباء، ووجدت نفسي أدخل في تفاصيلها أكثر وأكثر خلال السهرة، لدرجة أنني شخّصت حزناً دفيناً داخلها، لا أعلم مصدره.

لم يدر بخلدي بأن تلك الليلة ستجعلني أصرّعلى خلق أي صدفة لمقابلة "سوّرية"، وكان هذا اسمها، حتى أنها كانت تمرّ للسلام عليّ في المدرسة الواقعة على كتف الجبل، بين" خرابيشهم" وقريتنا.

خارج نطاق الرقص، كانت ترتدي ملابسها الفضفاضة المزركشة بشكل لافت للنظر، كباقي فتيات الغجر، وتضع أقراطاً كبيرة من الفضة، ينعكس عليها شعاع شمس الضحى، فيضفي على وجهها جمالاً ربانياً، فأخشى أن ترتفع حرارة شمس الظهيرة، ويكوي ذلك القرط خدها الأسيل، يتدلى فوق صدرها الناهد بعربدة "حِرز" من الفضة، تتدلى منه ثلاث "شناشل" فضية أيضاً، تحدث رنيناً، على قلبي أعزّ من موسيقى "موتسارت" أو "بيتهوفن"، كنت مولعاً بشعرها الأسود الطويل الكثيف، حينما تسبله على جانبي وجهها، ذي بشرة تميل إلى بياض صافٍ.

تطورت علاقتي ب"سوريّة " وكنا نلتقي كلما سنحت لنا الفرصة، وكانت حريصة على خلق أي مناسبة للمرور بي، فكان قلبي يتبخر ما أن تقبل نحوي، كان في مشيتها غنج يسحبني إلى الغرق في دوامة جمالها، ويتلطخ قلبي بطلاء ارجواني، عند رؤية ذلك الجسد يفيض بالأساطير والرنين المعطر برائحة البخور، وهذه الحالة لم أعهدها في حياتي . مليون فرسخ شهواني بين صدرها الناهد وسرتها، حيث كانت تهرول نظراتي في "ماراثون" اختزان أدق تفاصيلها في مخيلتي .

أصبحتُ لا أنظرُ إلى الغجر كما يراهم الآخرون؛ على أنهم هم الذين صنعوا المسامير التي استخدمت في صلب المسيح، بل كنت أنظر إلى تلك "الخرابيش" على أنها رمز الآنفه والكرامة، حيث أنهم متى ما غضبوا شدّوا رحالهم إلى أي وجهة يريدون، غير مرغمين على التعايش الذي يقصر عمر الإنسان.

قررتُ أن أكتب قصةً عن الغجر، وكيف أن جدهم الأكبر قد سرق مسماراً كان من المفترض أن يدق في جسد المسيح، فخفف عنه الألم. ربما يصبح ما كتبته وثيقةً تاريخية يوماً ما، لأن التاريخ هو الجزء المزيف من الأحداث التي لم يتم نسيانها ...

كنت أقف أمام المدرسة، متأملاً "خرابيش" الغجر التي تشبه الخيام، لكن حالها كان أشد بؤساً، وكان البعض منهم مسكنه عربته الخشبية، ذات العجلات الأربع، مغطاة بشكل كامل بشراع، اتقاء لبرد الشتاء، وأشعة الشمس في الصيف القائظ.
العربات مزخرفة بشكل دقيق وجميل، وعليها رسومات جعلتني أهيم بها، حتى أنني فكرت باقتناء واحدة منها، لولا يقيني بأن ذلك الفعل يجلب "العار " للقبيلة، وتكون موضع سخرية من الجميع.

سألتُ "سوريّة" عن سبب زخرفة عرباتهم بتلك الطريقة، فقالت لي: إن غجرياً أحب فتاةً إلى درجة الجنون، والجنون فنون، وقد طلبت منه أن يزخرف لها عش الزوجية بطريقة جذابة، ففعل ذلك تنفيذاً لرغبتها، حيث أمضى قرابة عام كامل ينقش زخارف دقيقة على عربته، وبعد أشهر من زواجه منها، أصيبت بداء السلّ، الذي كان قاتلاً، ففاضت روحها إلى المولى، وبقي هو يكابد حزنه الشديد لفقدها. بعد ذلك قام برسم وجهين متقابلين؛ وجه وضّاء، بشعر أسود طويل، والوجه الثاني حزين، لرجل ذي بشرة سمراء.

كعادة الغجر ودون سابق إنذار، رحلوا صبيحة ذلك اليوم الأغبر، وكان العجاج كثيفاً،من ذلك النوع الذي إن مددت يدك أمامك لا تكاد تراها. وكأن الطبيعة تعاطفت معي لفقدي"سوريّة" وقررت معاقبة الجميع بلا استثناء.

ذهبت وكان وجهها عكس مسير العربة الخشبية، التي يجرها بغل يتسم بالقوة والعناد، حتى بدا لي حازماً في مشيته أثناء جرّه للعربة، لا يلوي على شيء.
كانت "سوريّة" تنظر إلي وأنا أشيّع عربتها المبتعدة، بقلب يملؤه الأسى و الحزن، وغابات الشوك، وعيون تحجّر دمعها في المآقي.

لم ينبس أحدنا بحرف عندما اجتازت العربة الطريق الصخري الضّيق باتجاه القرية المجاورة، وأولاد القرية يهرولون وراء العربات، يقذفون الحجارة، ويتفننون في كيل الشتائم لذلك الركب غير المرحب به، وغير المأسوف على فراقه إلا من قبلي أنا.
أطرقتُ مستسلماً لأفكاري: لم يشفع لـ " سوريّة " اسمها، الذي سُميت به، حتى أنها لم تحصل على هوية البلد الذي تسمّت باسمه، ولم ينتزع شوكة من قدميها الحافيتين أيام الحصاد، لكنها بقيت لا تعرف سوى"خربوشها" وطناً، وهيامي بها فضاء.
بقيت "سوريّة" تعيش في نبضي، حتى أنني كلما اشتقت لها جرحت يدي حتى يسيل الدم فأكتب حروف اسمها فتنبت زهرة لها لون الدم وليس لها رائحته...


أي رسالة أو تعليق؟

مراقبة استباقية

هذا المنتدى مراقب استباقياً: لن تظهر مشاركتك إلا بعد التصديق عليها من قبل أحد المدراء.

من أنت؟
مشاركتك

لإنشاء فقرات يكفي ترك سطور فارغة.

الأعلى