الجمعة ١٧ كانون الأول (ديسمبر) ٢٠١٠
بقلم سمير صابر الجندي

نصف قرش...

وقف أمام بائع (التمرية) يملؤه الحياء، يحمل بيده نصف قرش، حصل عليه من والدته بعد عناء، ودموع، ورجاء، وتوسل مدة يومين متتاليين، كان يقبض على نصف القرش بيده الصغيرة التي التحمت بالمعدن، وقف ينظر إلى البائع وهو يعطي الأولاد الحلوى بعد أن يستلم منهم القرش ثمن الحلوى...

اعتاد بائع التمرية الحضور إلى الحي يوم يوم بعد صلاة العصر، كان يقف على ناصية الشارع ينادي بأعلى صوته، تمرية... تمرية... كان زبائنه من جميع فئات الحي، نساء، ورجال، وأطفال، وبنات، يُحبون تمريته الساخنة، المحمرة كوجنة عذراء يعبث بأحلامها عاشق، صاحب التمرية رجل جاوز الأربعين، طويل القامة أسمر البشرة، صوته صاف رقيق اكتسب حلاوة وعذوبة حلوياته، يحمل على رأسه صينية التمرية، ويسند على ساعده الأيمن حمالة الخشب التي يضع الصينية عليها حين يقف، يلبس قميصا أبيض ناصعا، مثل الذي يلبسه الأطباء في مستشفى الهوسبيس في البلدة القديمة، الأطباء أيضا كانوا يحبون التمرية، وأنا أكثر واحد يحبها فهي لذيذة حلوة المذاق، تسمع صوتا لذيذا وأنت تأكلها مقرمشة، يضعها في ورقة بيضاء ويرش عليها سكرا ناعما...

ما زال الصبي واقفا أمام بائع التمرية ونصف قرشه يرقد بسلام في كفه المعروقة، ينظر إلى قطع التمرية وهي تتناقص شيئا فشيئا إلى أن نفذ ما في الصينية من تمرية...

سكت البائع فلم يعد ينادي، وعاد الصبي إلى بيته يحمل حزنه، وخيباته، ونصف قرشه...

بعد عصر اليوم التالي، صدح صوت بائع التمرية من جديد، لكن الصبي لم يخرج إليه، بقي في البيت هو ونصف القرش ورغباته...

وقف أمام صورة والده المثبتة على الحائط، وقد كُتب أسفلها بخط أسود عريض شهيد الأقصى، هو لم ينس يوما والده، وكيف كان يشتري له كل عصر تمرية ساخنة ساخنة، مقرمشة، بعدها يذهبان معا إلى الأقصى، يصليان المغرب ويستمعان إلى درس الشيخ فتحي بانتظار صلاة العشاء...

لاحظت والدته وقوفه أمام صورة أبيه، ضمته إلى صدرها، طبعت قبلة فوق جبينه، ممزوجة بحرقة قلب فطر بنار القهر، ووضعت قرشا كانت تحتفظ به لشراء خبز يومهما، قائلة له اذهب واشتري لنا تمرية ساخنة ساخنة...


أي رسالة أو تعليق؟

مراقبة استباقية

هذا المنتدى مراقب استباقياً: لن تظهر مشاركتك إلا بعد التصديق عليها من قبل أحد المدراء.

من أنت؟
مشاركتك

لإنشاء فقرات يكفي ترك سطور فارغة.

الأعلى