الجمعة ٣١ كانون الأول (ديسمبر) ٢٠١٠
بقلم محمد الأسعد

من قصص الأزمنة الرديئة.. إلى الأكثر رداءة

حتى الآن لا تزال المعايير، التي وصفها د. سيد ياسين ذات يوم بصفة "المعايير الإيكولوجية" في تقييم الشعر والشعراء، سائدة، بل وتتخذ أشكالا أخرى، بل وتصبح معايير "زواريب" أو "حارات" أو "أحياء"، حسب العاصمة العربية التي تصنع وتسك فيها هذه المعايير. هذه المعايير لعبت دوراً خطيراً في تسويق شعر شعراء عرب وفي طرد شعر شعراء عرب آخرين من التداول. وهي وإن لم تكن الوحيدة في هذه العملية، إذ جاورتها عناصر أخرى مثل تسويق وجوه وحركات سياسية واتجاهات، إلا أن خطرها جاء من تبني "نقاد أدب" و"محللين سياسيين" بارزين لها، ومجلات أدبية وفكرية بارزة في ستينات وسبعينات القرن الماضي، وما تزال مفاعيلها تفعل فعلها حتى الآن في ذائقة القراء والنقاد وأحكامهم.

فما هي هذه المعاييرالإيكولوجية؟ وأين تم تداولها؟ ومن الذي شارك في ترويجها؟

بداية، تتلخص هذه المعايير في قياس "الشعرية" بالجواب على أسئلة من نوع "أين يقيم الشاعر صاحب القصيدة؟ " و"هل يحيا حياة رخيّة أو يحيا حياة متقشفة؟". فإذا تبين مثلا أن صاحب القصيدة يقيم في الأرض المحتلة، ويشاع أنه مضطهد، عدت قصيدته في عداد القصائد الفذة، أما إذا تبين مثلا أنه يقيم في القاهرة أو دمشق أو بغداد، ويعيش في حجرات مكيفة، عدت قصيدته من سقط المتاع وغير جديرة بإلتفات ناقد أو قاريء.

هذه قصة من الشائق روايتها، ومن المهم أيضاً، لأن أجيال غالبية القراء العرب الجديدة لاتملك وسيلة للوصول إلى بطون الصحائف القديمة، حتى وإن أرادت، بعد أن وقعت ضحية مقررات نقدية لم تكن في الأصل إلا أساطير رديئة صنعتها مصالح غير أدبية ولا تنتمي إلى عالم الثقافة.

قبل أن أسرد هذه القصة الشائقة، سأقدم هاتين الحادثثين:

1- نشرتْ مجلة "شعر" اللبنانية قصائد لعدد من الشعراء الفلسطينيين تحت عنوان عام هو"من وراء الأسلاك الشائكة" على أساس أنها من شعرالمقاومة، وتصادف أن اختارت المجلة ما رأت أنه يلبي شروط هكذا شعر من قصائد الراحل "محمد القيسي" (شعر، عدد 38 ربيع 1968). وهنا سارع أحدهم في مجلة أدبية إلى الزعم "بخطأ" نسبة قصيدة القيسي إلى شعر المقاومة ومنحها قيمة، استناداً إلى معيار "إيكولوجي"، أي أن صاحبها لايقيم في الأرض المحتلة!

2- صادفتُ أحد الصحافيين في أواخر السبعينات ينشر جزءا من قصيدة تحت عنوان"من شعر المقاومة"، وحين التقيت به وسألته من أين حصل على هذه القطعة؟ قال ممتدحاً القطعة أنه وجدها منشورة في أحد مطبوعات حركة المقاومة في الأردن. وحين أخبرته أن هذه "القطعة" هي جزء من قصيدة لي، وقدمتُ له النص كاملا لينشره مادام متحمسا للقصيدة وصاحبها، تلاشى حماسه، ولم ينشر النص الكامل إطلاقاً. السبب "إيكولوجي" بالطبع، فقد اكتشفَ أنني من المقيمين في الكويت!


لنفهم هذا التقييم "الإيكولوجي" علينا العودة إلى البداية، إلى يوليو/تموز من العام 1969. ففي هذا الشهر نشرت مجلة الآداب البيروتية على مضض مقالة للناقد الراحل "غالي شكري"، حاول أن يضيء فيها جانبا ساده الإختلاط وسط الإحتفاء المبالغ فيه بشعر شعراء فلسطينيين ينتمون تحديدا للحزب الشيوعي الإسرائيلي. في هذه المقالة ميز الناقد بين شعر "معارضة" يكتبه شعراء في الأرض المحتلة (المنتشر منهم بالطبع للسبب الأيديولوجي الذي لمح إليها شكري) وبين شعر "مقاومة" يكتبه شعراء فلسطينيون في المنفى. ومما قاله الناقد حرفيا: " .. ليست إسرائيل مجرد شكل للصراع بين الشرق العربي والاستعمار الغربي، وإنما هي في المضمون الصراع اليومي بين دولة عنصرية غاصبة وشعب مغلوب على أمره. من هذه النقطة نستطيع أن "نتفهم" شعر المعارضة العربية في الأرض المحتلة، هذا الشعر الذي لاينتقص من قيمته على الإطلاق أنه لايتصل بمعنى من معاني المقاومة إلا من قبيل المجاز، ولكنه يتصل أعمق اتصال وأوثقه بمعنى المعارضة.. وينبغي أن نكون منصفين للحقيقة ولا نظلم أنفسنا.. إن المقاومة الوطنية بمعنى تحرير الأرض من آثار الأجنبي لاتخطر على بال وتفكير الشعراء الفلسطينيين المقيمين في ظل الإرهاب الصهيوني، وإنما يتخذ التحرير عندهم معنى آخر يتعايش في ظلاله العرب واليهود.. أما شاعر المقاومة فقد كان المنفى موقعه .. وهو لم يكن يملك في حقيقة الأمر إلا أن يقاوم، فالمعارضة لامكان لها في موقعه".

في تلك الأيام وكأنما تصديقا غير مقصود لهذا التمييز، كان الشاعر محمود درويش يطلق على الكاتب الفلسطيني في فلسطين المحتلة صفة " الكاتب العربي المقيم في إسرائيل". جاء هذا حرفياً في كلمة له أمام وفود مؤتمر للكتاب الأفرو-آسيويين:" .. وهذا يستدعي مني أن ألفت نظر الكتاب الآسيويين- الأفريقيين إلى واقع الكاتب العربي المقيم في إسرائيل" (الآداب، ديسمبر/ كانون الأول 1970).

وبعد سنوات طويلة، سيصادق هو ذاته على ما ذهب إليه غالي شكري، حين وصف شعره في حوار له مع صحيفة "ها آرتس" الإسرائيلية بأنه: "شعر احتجاجي في زمن الإنتفاضة، وليس عدوانيا أو دعوة للقتل، وما هو في الحقيقة سوى وقوف ضد احتلال الضفة الغربية والقطاع، والحكومة نفسها تعده احتلالا، هذا هو ماحصل، أما الإدعاء بأنه إعتراض على وجود إسرائيل فكلام ينأى عن الحقيقة وتكذبه الأحداث" (ها آرتس، 3/10/2000).

ولكنه في تلك السنوات، وفي سطور تكاد تكون رداً على ما طرحه غالي شكري، دعا إلى نبذ ما سماه شكري "شعر المقاومة" الذي يكتب في المنفى، وتبني الشعر الذي يكتب في إسرائيل فقط. يقول درويش حرفياً في مقال له نشرته الآداب البيروتية: " .. إن الشعر الذي يكتب في إسرائيل بشكل عام أقرب إلى صدق التجربة والأصالة من غيره في تصوير صراع الإنسان الفلسطيني، وكلمة الصدق هي الجديرة بتركيز الإنتباه حولها في سياق المقارنة التي تمتد إلى ميزات أخرى لهذا الشعر يفتقر إليها شعر القضية الفلسطينية الآخر"(الآداب، أغسطس/أب 1969).

وجاء رفض آخر للتصنيف الذي اقترحه شكري، وأقامه على أساس مواقف الشعراء من الواقع الاستعماري الصهيوني، وهذه المرة من شاعر آخر من الطبقة نفسها أطلقوا عليه صفة "شاعر المقاومة" هو "سميح القاسم"، حين قال :" تكاثرت الأسماء من شعر مقاومة إلى شعر احتجاج إلى شعر معارضة، وكما تعلم فالإجتهاد في مثل هذه الشكليات هو من طبيعة العقل البرجوازي"(الآداب، أكتوبر/تشرين أول 1970).

* * *

وواصلت القصة مجراها ومفاعيلها، فعلق الناقد د. عبد الغفار مكاوي على مقالة غالي شكري، مؤسساً لهذا النهج في نبذ الشعر الذي يكتب خارج فلسطين المحتلة، بالقول: " من الطبيعي أن تأتي أصدق أشعار المقاومة من شعراء يقاومون بالفعل.. لاأستطيع أن أقبل شعراً عن المقاومة من شاعر يثرثر في مقاهي القاهرة أو يعيش في حجرات مكيفة الهواء في غيرها من المدن العربية".(الآداب،أغسطس/آب 1969).

ليأتي من ثم الرد من د.سيد ياسين، في محاولة عقلانية لتعديل هذا الإنحراف، فيكتب:" مامدى صحة هذا الرأي؟ لانستطيع أن نقبل معايير خارجة تماماً على نطاق العمل الأدبي نفسه للحكم على صدقه أو زيفه، جودته أو رداءته. فمثل هذه المعايير إن قُبلت تقتضي من قاريء الشعر أن يتساءل أولا، أين يقيم الشاعر صاحب القصيدة؟ أيقيم داخل الأرض المحتلة أم في القاهرة أم دمشق وبغداد؟ وهل يحيا حياة رخية أو يحيا حياة متقشفة تتناسب مع جلال الموضوع الذي يعالجه وهو المقاومة؟ هذه المعايير الإيكولوجية .. لاتصلح أساساً لقبول الشعر أورفضه، او الحكم على جودته أو رداءته.. فرب شاعر مقيم في القاهرة يبدع عن المقاومة قصائد يعجز زميل له يقيم فعلا في الأرض المحتلة عن إبداع مثلها".

ترى هل استقامت القيم النقدية ونجت من التشويه الإيكولوجي؟

ما لم يخطر ببال ناقد مثل د. سيد ياسين آنذاك، أن التلطي وراء "الصدق" و" الإقامة تحت الإحتلال" واتهام غالي شكري بأنه "برجوازي" طعنا في سلامة أفكاره، لإبعاد شعر وأدب اللاجئين الفلسطينيين وتجربتهم عن مدار الوعي العام، وقفت خلفه وعززته مشاريع سياسية كانت تدور في أذهان بعض المسلطين على الشأن السياسي الفلسطيني. ولم يكن الأمر أمر أدب وشعر وثقافة. لأن شاعرا معلما مثل راشد حسين من قرية مصمص المحتلة حوصر شعره وأتهمه شعراء ونقاد الحزب الشيوعي الإسرائيلي باليمينية!

لقد تم تسليط الأضواء على دعاة ما يسمونها "الأرض لشعبين"، والإعتراف بالواقع الاستعماري ككيان طبيعي، والتعتيم على أصوات أصحاب الأرض التي احتلت وسرقت في العام 1948، طيلة أكثر من أربعين سنة، أي وصولا إلى منتجع اوسلو، وتسليم "ممثلي" منظمة التحريربالواقع الاستعماري ومشروعاته بل وايديولوجيته الصهيونية، بموروثها وبما يمكن أن تخترعه، والإكتفاء بوظيفة شرطة قمع للفلسطينين تحت حمايته، وبتمويل من التحالف الغربي.

ترى هل كان محو حق اللاجئين الفلسطينيين في وطنهم بعيدا عن تفكير صناع "الإيكولوجيا" الثقافية والسياسية منذ سبعينات القرن الماضي؟ وهل سأل أحد نفسه لماذا تلازم اختصار جوهر قضية فلسطين في إقامة بانتوستانات ضئيلة في ما تسمى الضفة الغربية، مع طمس صوت ملايين اللاجئين الفلسطينيين، وتحويلهم أخيراً بمصطلحات سماسرة البانتوستانات إلى "مغتربين" و"جاليات مهاجرين"؟


أي رسالة أو تعليق؟

مراقبة استباقية

هذا المنتدى مراقب استباقياً: لن تظهر مشاركتك إلا بعد التصديق عليها من قبل أحد المدراء.

من أنت؟
مشاركتك

لإنشاء فقرات يكفي ترك سطور فارغة.

الأعلى